آنسي الحاج: الغرب هو هذا الشرق
من المألوف أن يتحوّل بعض الرجال رموزاً، ولكن، في بعض الحالات، الرموز أيضاً تتحوّل رجالاً. أو، إذا شئنا، «العناوين الكبرى» تتجسّد.
العبقريّة في شكسبير، العبقريّة أيضاً في موزار، الحريّة في الماركي دو ساد، الهدم في نيتشه، الخَلْق في بودلير (وكذلك فيه الندم واللعنة والرؤيا)، التمزّق في دوستيوفسكي، الهاجس الإدماني في بيتهوفن، القوّة في فاغنر، شبق الحياة في التوراة، العَدَميّة في مللارميه ــ فاليري، الإلهام في ميكل أنجلو، الهزيمة في كافكا، الفسق العجائبي في راسبوتين، لعنة الزمن في الدكتور فاوست، (الميثاق ــ الذي ــ كان ــ يجب أن يُعْقَد بين فاوست وإبليس وأجهضه غوته، في مسرحيته «فاوست»)، العاشق المُطْلَق في دون جوان، العنف السلاميّ في غاندي، الأسطورة الحديثة في السينما الأميركيّة، إلى آخره.
بالأمس مرّت أربعون سنة على وفاة أندريه بروتون، الذي حلّ فيه حلولاً شاملاً روحُ التمرّد المنتصر، تمرّد الظلال الشغوفة على الأنوار اليابسة، والهامش الحيّ على المتن الميت، وليل فرنسا الأبيض على نهارها الأسود، وكروم الخيال على صحارى العقل.
دفع مؤسس السورياليّة بالوجه المخفيّ والمخنوق من العبقريّة الفرنسيّة بل والغربيّة عموماً الى العَلَن، كاشفاً الغطاء عن معتقلي التقاليد والقوانين والأخلاق، أمثال دو ساد، ومعيداً الاعتبار بصورة رئيسيّة إلى شعراء وأدباء «مقبولين» جزئياً وبحياء أو مفهومين خطأ، أمثال بودلير ورمبو ولوتريامون، ورافعاً رايات لم تكن لتُرفع لولاه بذلك القَدْر من الاحتفالية والمثابرة والترويج، كالسخرية السوداء، العقل الباطن، الحريّة بلا حدود، الصدفة الموضوعيّة، مصارعة العقلانية الكارتيزيّة مصارعة حياة أو موت، الإلحاد المتّحد بروح الكون، الحبّ المجنون، الأمل ضد كلّ منطق، نَبْش الكنوز، الهداية إلى الأحجار الكريمة، وتسخير الدقّة الفرنسيّة الأكثر حدّةً بين الشعوب لحماية ضباب الروح الهشّ ونجوم لياليها المعرّضة، ولاستنباط أساطير جديدة من قلب المدنيّة تغسل نثرها بشعرها، ومعدنها بلعنتها، ووحشيّتها بندى سحرها وندائه.
ألقى بروتون على العالم الحديث نظرة فتى عابق بالدهشة فنقل إليه قشعريرة العذارى. قبله كان أحد ملهمي مراهقته، بول فاليري، يسلّط على ذلك العالم نفسه نظرات الشماتة والهزء والشيخوخة الجريح، فيجفّف بأشعّة عَدَميّته ما تبقّى من بحيرات إنعاش معزولة هنا وهناك على سطح النفس. ثم جاءت الدادائية، وبروتون معها، تلعب بـ«القارة العجوز» كما يلعب العائدون من الموت بحياة اكتشفوها على أضواء كوارث الحرب العالمية الأولى. حطّم الأولاد الغاضبون القيود وقهقهوا، وعلى رأسهم تريستان تزارا، فوق ظهر القيم التقليديّة مُنتّفين الذات تنتيفاً، حافرين قبر الأدب والفن بشهيّة الشيطان ويأس دراكولا، حافرين حتى لا يبقى مُخبّر. إلى أن سئم بروتون من مواصلة العبث المجاني، وانفصل، وأرسل بيانه الأول منظّفاً أرضاً وفالحاً أرضاً وزارعاً أرضاً: أرض إعادة تكوين الكائن لا نتاجه وحده.
بالنسبة إلى كثيرين، ونحن منهم، فرنسا هي مشاعلها المضطرمة لا حكماؤها المستهزئون. هي جموحها لا توازنها. هي أرواحها الملعونة التي يأخذ دخانها راحته على إسفلت الجادات والأزقّة اللامعة تحت البَرد في وهج كهرباء لا تزال تنبعث من مصابيح الغاز في القرن التاسع عشر حتى لو لم يعد في باريس مصابيح غاز ولا شيء من ذلك العصر. فرنسا هي هذه الهائمة المغرمة كالمراهقين بأفكار أكبر من العصور، بأحلام أجمل من النساء، بسرابات لا يشيل إلّاها من الهاوية ولا يحمي سواها العيونَ من اليأس.
بالنسبة إلى كثيرين، ونحن منهم، الغرب هو هذا الشرق الذي فيه. الجنّة هي هذا الجحيم الذي فيها. الأدب هو هذا التمرّد عليه.
الشعر هو الأكثر من الشعر فيه. الحياة هي الجوع إلى وجوهها الخفيّة. الهدوء، الهدوء الوحيد الممكن، هو لحظات الانذهال بالإشراق، لحظات الغَرَق في أحضانٍ لا تُصَدَّق. الحياة هي هذا الذي لا يُصَدّق.
لم يكتب بروتون كل ما كتبه بقَدْر واحد من التجلّي، ولا استطاع كثيراً أن يكون مُبَسَّطاً، ورغم ما يقوله عارفوه عن تواضعه وطيبته، لم يَسْلَم من الدكتاتورية. وظَلَم وظُلم، لكنه ظُلِم أكثر كثيراً مما ظَلَم. وغالباً ما أعلن ندمه على مظالمه. ولا يزال فرنسيّون كثيرون يجهلون قيمته، يجهلون أنه مُعيد انتشال الأتلانتيد من جوف اليأس، مُجلّس ظَهْر الرّفْض، الرّفْض الكانز شرف الإنسان، ومُصوّب الشعور الثقافي الحديث والشعر الحديث والفن الحديث نحو المنابع الأصفى والمتماسكة الأواصر منذ فجر التاريخ، جديدة وحديثة و«سورياليّة» منذ فجر التاريخ.
عندما جاءت موجة سارتر والوجوديّة نسيت باريس أندريه بروتون والسورياليّة وعندما جاءت موجة البنيويّة نسيت سارتر والوجوديّة وعندما جاءت موجة «القصة الجديدة» نسيت البنيويّة وعندما عادت موجة «الغنائية الجديدة» نسيت «القصة الجديدة». ظاهرة كأندريه بروتون تذكّر العالم والفرنسيّين بأن تاريخ الحقيقة والجمال والحبّ ليس موجات تمحو موجات بل منائر تعلو فوق الموج وتَكْشَح العتمة كلّ حين. في النتاج الرومنتيكي صفحات خالدة، دون شك، وقد تكون الصفحات الخالدة في النتاج السوريالي أقلّ عدداً، لكن الموقف السوريالي من العالم والحياة والتعبير والقِيَم موقف مُنقذ في أوقات الشدّة الروحيّة والعقليّة، يُعاد إليه كما يعود التائه إلى البوصلة. لقد ربط المؤرّخون والنقّاد ظهور السورياليّة بظروف الحرب العالمية الأولى وأزمة الثقافة الغربيّة، ولعلّ هذا صحيح، لكن الشجرة السورياليّة خضراء وارفة بصرف النظر بعد الآن، بصرف الوقت والظروف. لقد امتدّت النظرة السورياليّة أبعد من ظروف ولادتها وأعمق من شروطها الحضاريّة المباشرة. إنها لحظة إلهام كبرى وخالدة في تاريخ الفكر.
يوم مات بروتون كتب الأديب الفرنسي جان بولان: «الآن، صار كل شيء بحاجة إلى إعادة». ولا يزال.
ومن حسن الحظّ أنه سوف يبقى.
آنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد