أغاني الشاعرة السوريه بيليتيس 610 ـ 675 قبل الميلاد
منذ ما يقارب 2400 عام كان هناك راعية في اعالي الجبال خفق قلبها فاستيقظت الموسيقى على كلماتها ..أحلام وملاحم وأساطير، إنها الشاعرة السورية بيلتي.
للشاعرة السورية المعروفة باسمها الأول فقط "بيلتي" حكاية غريبة دفعت بالبعض حتى إلى إنكار وجودها التاريخي، ولكن مع هذا النكران فإنها قد شغلت العالم حتى وقت قريب.
ولدت "بيلتي" وعاشت في الفترة بين 610 و675 قبل الميلاد، في قرية جبلية تقع حالياً شمالي الحدود السورية- التركية من أم سورية فينيقية، وأب ٍهيليني قد يكون سورياً هو الآخر، ولكونها لم تتعرف على أبيها، فإن اسمها الفينيقي يدل على أن أمها الفينيقية التي تعلقت بها كثيراً أعطتها إياه.
قضت الشاعرة طفولتها في الحقول والجبال، ورعي القطعان، قبل أن تغادر إلى "ميتيلينا" على الساحل التركي الغربي في السادسة من عمرها، حيث عاشت مع شمس المتوسط وجمال الطبيعة، قبل أن تنتقل إلى قبرص العاصمة الدولية الفينيقية حينها، والتي تمتزج فيها موسيقا وأحلام وملاحم وأساطير العالمين الفينيقي والإغريقي معاً.
عاشت بيلتي في قبرص وتوفيت فيها ولكن قبرها- وهو تقريباً المصدر الوحيد للمعلومات عنها- وجد قرب مدينة بورسعيد المصرية مما زاد من الأسئلة حولها، ودفع بالبعض إلى اعتبارها شخصية مختلقة قام باختلاقها الشاعر الفرنسي (بيير لويس) الذي نشر أشعارها بعنوان "أغاني بيلتي" عام 1894م،
أغاني بيلتي" هي مجموعة من 143 قصيدة من الأشعار الايروتيكية بالإضافة إلى ثلاثة منقوشات ضريحية في رثاء الذات، وقد لفقها بيير لويس ونشرت في باريس مثيرة ضجة كبرى باعتبارها قصائد من زمن غابر ومهم أدبياً وثقافياً وجدت محفوظة في مكان سري دون نقص أو تشويه.
و الكتاب يضم قصائد حسية مكتوبة على نمط أشعار سافو وقد ضلل هذا الكتاب حتى الخبراء في المخطوطات التاريخية، وقد ترجمه الشاعر السوري الكبير أدونيس إلى العربية قبل فترة ونشره تحت نفس العنوان.
تتميز الشاعره بالتفرد الخاص لأشعارها، والتميز الخاص لحياتها، وسيرتها وطبيعة حياتها الجبلية التي وصفتها بدقة كبيرة وتفاصيل للحياة الرعوية في ذلك الزمن (القرن السادس قبل الميلاد)، أما اللمسة الأنثوية (الزائدة عن الحد تأنيثاً) فلا أعتقد أن بإمكان رجلٍ أن ينشد أغانٍ كهذه، ثم ينسبها إلى امرأةٍ متخيلة!.
المؤرخون القلائل الذين تحدثوا عنها كانوا فقراء جدا ً في المعلومات حول شخصيتها، حتى إنهم لم يعرفوا متى وفي أي عمر ماتت. لكنه بمقارنات مع بعض ما ذكرت من النساء في قصائدها- ومنهم سافو- تمكنوا من معرفة الفترة الزمنية التي عاشت فيها.
كان قبر بيلتي هو المصدر شبه الوحيد عن شعرها وحياتها، وقد اكتشف قبرها العالم الألماني (م.ج. هايم) في منطقة قريبة من بور سعيد وليس في قبرص كما يقول البعض، وما ساهم في الحفاظ على قبرها هو أن التقليد الفينيقي في تلك الفترة كان الدفن على أعماق جيدة في الأرض مما ساهم في عدم تمكن سارقي ونابشي القبور من سرقة قبرها وتخريبه.
و قد كانت بيلتي ترقد في تابوت نحته نحاتٌ ماهرٌ، ونحت على سطحه وجه بيلتي، ويقال عندما فتح القبر: إن يديها كانتا ممددتين بالقلم- كما لو أنها ما تزال حية- وذلك بعد 2400 سنة من وفاتها، وكانت زجاجات العطر تملأ المكان، ويؤكد (م، هايم) أن إحدى هذه الزجاجات كانت ما تزال تضوع برائحة العطر. والأهم أن منحوتةً صغيرةً لعشتار (الآلهة السورية) كانت ممددةً إلى جانبها، أما في القبر وحوله فقد نقشت التواريخ التي تدل على صاحبة القبر ومجموعة كبيرة من أشعارها التي سمتها أغانٍ.
ومن قصائدها التي ترجمها الشاعر السوري "أدونيس" نقتطف مقطعاً تؤرخ فيه لولادتها ولقبرها بعنوان "التاريخ الأول":
في الوطن الذي تنفجر فيه الينابيع من البحر
وتكون صفائح الصخر مجرى الأنهار
في هذا الوطن
أنا بيلتي،
رأت عيناي النور
كانت أمي فينيقية وأبي هيلينياً
لقنتني أمي أغاني (جبيل) الكئيبة، كالسحر الأول
عبدت عشتار في قبرص
غنيت حبي كما هو، بلى، قضيت عمري سعيدة
فيا ابن السبيل: قص ذلك على ابنتك
لا تضحي لأجلي بعنزتك السوداء
ولكن اعتصر ثدييها وخله، يدفق هادئاً على قبري.
نشرت طبعة ثانية من كتاب "أغاني بيلتي" عام 1928 ولم يطبع بعد ذلك حتى سبعينيات القرن العشرين، وقد أنتج عن قصائدها العديد من المقطوعات الموسيقية والأفلام.
(1) الشجرة
خلعت ثيابي كي أصعد إلى شجرة.
كان فخذاي العاريان يحتضنان القشرة الصلبة الرطبة، وحذائي كان يتدرّج على الغصون.
وفي الأعلى تحت الأوراق وفي مأمن من الحرارة
امتطيت كالجواد فرعاً منعزلاً وأخذت أهزّ قدمي في الفضاء.
كانت السماء قد أمطرت
فتساقطت قطرات من الماء وانساحت على جسدي، وتبقّعت يداي بأشنة، واحمرّت أصابع قدمي كالورود المتفتّحة.
كنت أشعر أن الشجرة الجميلة تحيا عندما يمشي فيها النسيم
وحينئذ رحت ألزّ ساقي أكثر أكثر... وعلى عنق غصن مورق أطبقتُ شفتيّ.
(2) مناجاة أمّ
تغسلني أمّي في العتمة
وتلبسني في وضح النهار وتسرّحني في النور،
وإذا ما خرجت تحت ضوء القمر، فإنها تشدّ لي حزامي، وتعقده عقدة مضاعفة
تقول لي: العبي مع العذارى وارقصي مع الأطفال الصغار، ولا تنظري من النافذة، ابتعدي عن حديث الشباب، ولا تثقي بنصائح الأرامل.
سيأتيك أحدهم ذات مساء - كما للأخريات - ليأخذك إلى وسط الحفلة الكبرى، حيث ثيمانون الصاخبة والمزامير العاشقة...
في ذلك المساء عندما تذهبين يا بيليتيس ستتركين لي ثلاث قرعات مُرّة: واحدة للصباح والثانية للظهيرة والثالثة الأكثر مرارة لأيام الحفلات الكبرى.
(3) القدمان العاريتان
لي شعر أسود على طول ظهري، وقبعّة صغيرة مستديرة، وقميص من الصوف الأبيض... وفخذاي الأثيلان يتلوّحان من الشمس.
سيصير لديّ حليّ من الذهب وغلائل مذهّبة وأحذية فضّية...
وإذا سكنت المدينة سأرنو إلى قدميّ العاريتَيْن في خفَّيْهما الغباريَّيْن.
تعالي يا بسوفيس، أيتها الصغيرة الفقيرة. خذيني إلى الينابيع واغسلي قدميّ بيديكِ، واعصري الزيتون والبنفسج على الزهور كي تصيبهما.
ستكونين اليوم جاريتي وستتبعينني. وفي آخر النهار سأعطيك عدساً لأمّك من
(4) العابر
في المساء حين كنت أجلس أمام باب البيت مرّ شاب عابر
نظر إليّ فأشحت بوجهي عنه، وكلّمني فلم أُجب.
أراد الاقتراب منّي فأخذت منجلاً واستندت إلى الجدار. وكنت سأشق ّله وجهه لو تقدّم خطوة
حينئذ ابتسم وهو يتراجع إلى الوراء وطيَّر لي قبلة قائلاً: هاك قبلة
فصرخت وبكيت حتى أن أمّي أسرعت إليّ
كنت قلقة كما لو أن عقرباً لسعني، وقلت باكية: لقد قبّلني
فقبّلتني أمّي أيضاً، وحملتني بين ذراعيها!
(5) اليقظة
الشمس الآن في الضحى. وكان عليّ الاستيقاظ منذ وقت طويل، غير أن رقاد الصباح حلو جداً، ودفء السرير يشدّني إليه. أريد أن أبقى نائمة.
بعد هنيهة سأذهب إلى الزريبة
سأقدّم إلى الماعز العشب والزهور، وضرع الماء الطري، ماء البئر، حيث سأشرب معها، وبعد ذلك سأشدّها إلى الوتد. كي أحلب فروعها الرخصة الدافئة، وإذا لم تكن الجداء غيورة. فسأمص معها الحلمات الليّنة. ألم تغذّي أماليتا زفس؟ سأذهب إذاً، لكن ليس الآن، فلقد استيقظت الشمس قبل الوقت، وأمّي لم تستيقظ بعد.
(6) الأزاهير
يا عرائس الغابات والينابيع
أيتها الصديقات الكريمات. أنا ههنا. لا تختبئن، وجِئن لمساعدتي، فأنا متعبة من الزهور الكثيرة التي جنيتها.
أريد أن أنتقي من بين الغابات كلّها عروساً صغيرة ذات ذراعين مرفوعتين، أضع في شعرها أكبر وردة معي.
انظرن فقد قطفت الكثير من الحقول، وإذا لم تحزمنها لي باقة فلن أستطيع نقلها
وإن رفضتنّ فسأشهّر بذات الشعر البرتقالي بينكن
فقد رأيتها أمس في وضع عاهر مع لامبروزاتيس في الغابة.
(7) قلق
ارتميتُ في حضنها باكية
وشعرتْ طويلاً بدموعي الحارّة تسيل على كتفيها،
قبل أن تتركني عمّتي أحكي:
"واحسرتاه. لست بعد إلا طفلة والشباب لا ينظرون إليّ
فمتى يصير لي مثلك نهدا صبيّة، يتقبّب بهما ثوبي ويُغريان بالقبلة؟
ليس لأحد عينان فضوليتان حين ينزلق فستاني،
ولا أحد يلتقط زهرة تسقط من شعري، ولا أحد يهدّدني بالموت إذا استسلم فمي إلى آخر..."
وأجابتني بحنان: "أيتها العذراء الصغيرة يا بيليتيس، إنك تنحبين كهرّة في ضوء القمر،
وتقلقين بلا سبب،
إن البنات الأكثر قلقاً لسنَ الأسرع زواجاً".
(8) المقارنات
غنِّ أيها العصفور الصغير، يا عصفور قبرص،
غنِّ معنا رغباتنا الأولى، فللصبايا ربيع كما للأرض،
وليل أحلامنا كلّها يقترب ونحن في ما بيننا نلغط به.
أحياناً نقارن سوية محاسننا المتمايزة جداً، وشعورنا التي أصبحت طويلة، ونهودنا التي لمّا تزل صغيرة بعد... ونقارن كذلك فروجنا الدسمة اللابدة كالسمانى تحت الزغب النابت.
وبهذه الناحية قهرت البارحة ميلانتو التي تكبرني.
كانت مزهوّة بصدرها الذي نما خلال ثلاثين يوماً، وقد دعتني فتاة صغيرة، وأنا أعرض غلالتي السدية.
لم يكن إنسان يستطيع أن يرانا فقد تعرّينا أنا وهي أمام الفتيان، وحين كانت تفوز عليّ بناحية كنت أفوقها كثيراً في النواحي الأخرى.
غنِّ أيها العصفور الصغير يا عصفور قبرص غنِّ معنا رغباتنا الأولى.
(9) الخاتم الرمزي
يتحدّث المسافرون العائدون من ساردس
عن العقود والجواهر التي تُثقل النساء في ليديا من أعلى الرأس إلى أخمص القدم،
وصبايا بلادي لا يلبسن الأساور ولا الأكاليل، لكن أصابعهن تحمل خواتم فضيّة نُقش على قلوبها مثلث الآلهة
عندما يُدرن رأسه إلى الخارج يعنين بذلك أنهن يبحثن عن إله الحب، وعندما يُدرنه إلى الداخل يعنين بذلك أنهن ظفرن به. والرجال يؤمنون بذلك، بينما النساء لا يؤمنّ
أما أنا فلا أبالي في أي جهة يكون الرأس... لأن إله الحب يعرف كيف يفلت بسهولة ولأنه دائماً صعب المنال.
(10) الحكايات
الأطفال الصغار يحبّونني. ومنذ أن يلمحوني يسرعون إليّ ويتعلقون بثوبي ويحضنون فخذي بأذرعهم الصغيرة.
إذا جنوا زهوراً يقدّمونها كلّها إلي، وإذا أمسكو جعلاً يضعونه في يدي، وإذا لم يكن معهم شيء، يداعبونني ويجلسونني قبالتهم
وحينئذ يقبّلونني على وجهي ويُلقون برؤوسهم على نهديّ ويتوسلون إليّ بعيونهم، وأنا أعرف جيداً ماذا يعني ذلك.
فهم يقولون: يا بيليتيس الغانية أعيدي علينا، فنحن مهذّبون
أعيدي تاريخ البطل بريسيوس أو موت الصغيرة هيللي.
(11) الصديقة المتزوِّجة
كانت أمّي وأمّها حاملَيْن بنا في وقت واحد.
وقد تزوّجت هذا المساء، تزوّجت ميليسا أغلى صديقاتي.
الورود ما تزال على دربها، والمشاعل لمّا تنطفئ بعد.
عدت أنا وأمّي من الدرب نفسها وحلمت: "كما حدث اليوم يمكن أن يحدث لي كذلك، هل أنا الآن حقاً كبيرة؟"
الموكب والمزامير والغناء العرائسي وعربة الزوج المزهّرة... هذه الأعياد كلّها ستعرض حولي بين أغصان الزيتون ذات مساء.
ومثل ميليسا، وفي مثل هذه الساعة نفسها، سأكشف نفسي أمام رجل، سأعرف الحب في الليل، وبعد ذلك سيكون لي أطفال يتغذّون من نهديّ المكتنزين.
(12) إلى نهدَيها
يا لحم الزهر يا نهديّ. كم أنتما مليئان باللذة وعارمان.
يا ثدييّ بين أناملي كم أنتما لدنان، وكم فيكما من الحرارة الوثيرة والأريج الغني.
في ما مضى كنتما مجلّدين كتمثال، وجامدين كرخام لا يحسّ، ومنذ أن تليّنتما أحببتكما أكثر أنتما يا الحبيبين.
شكلكما الناعم المكتنز هو مجد صدري الأسمر، وسواء خبّأتكما تحت شبكة الذهب أو عرّيتكما، فأنتما تتقدّماني ببهائكما.
كونا إذاً هذه الليلة سعيدين، وإذا كنت أبتكر دعابات فهي لكما وحدكما حتى الصباح...
إن بيلتيس تنام هذه الليلة مع بيلتيس.
(13) الصديقة الملاطفة
دامت العاصفة طوال الليل
وكانت عندنا سيلينيس ذات الشعر الجميل تغزل معي
فبقيتْ خوفاً من الوحل ونمنا معا في سريري الصغير
وعندما تنام حبيبتان معاً يظلّ النعاس على الباب.
"قولي يا بيلتيس قولي لي من تحبّين؟"... وتركتْ فخذها ينزلق على فخذي وهي تناغشني بلطف، وهمست: "أعرف يا بيلتيس من تحبّين، أغمضي عينيك فأنا ليكاس"
فأجبتها وأنا أمسّها: ألا أرى جيداً أنك فتاة! أنت تمزحين في وقت ليس للمزاح.
لكنها أردفت: حقاً أنا ليكاس حين تطبقين جفنيكِ... فها يداه، وها ذراعاه.
وهكذا بكلّ حنان أرضت هواجسي بوهم فريد.
(14) مباراة الكعاب
كنا نحبّه نحن الاثنتين، فتبارينا للفوز به، وكانت مباراة كبيرة حضرتها كثير من الصبايا.
وفي الجولة الأولى كانت هي الرابحة، وشعرتُ بخسارتي فابتهلتُ إلى الآلهة، وبدأنا الجولة الثانية... فربحتُ... ربحتُ الحبيب الذي نتنازعه.
لكني وقد رأيت وجهها يمتقع ويصفر، عانقتها وهمست في أذنها كي تمسعني وحدها: "لا تبكي أيتها الصديقة الصغيرة، فسنتركه يختار إحدانا"
(15) المزمار
لأجل حفلات هياستير أهداني مزماراً من القصب الجميل الصقل... لصق بالشمع الأبيض الحلو على شفتي كالعسل.
يعلّمني اللعب وأنا أجلس على ركبتيه، لكني مضطربة قليلاً فهو يلعب به بعدي... يلعب بهدوء حتى لا أكاد أسمعه.
ليس لدينا شيء لنتحدّث به ما دمنا قريبَيْن الواحد من الآخر لكن أغنياتنا تريد أن تتجاوب، ودوراً بعد دور كانت شفاهنا تتلاقى على المزمار.
جنح النهار وها غناء العصافير الخضر يبدأ مع الليل، ولن تصدّق أمّي أني مكثت هذه المدّة كلّها، وأنا أبحث عن زنّاري الضائع.
(16) الكأس
لمحني ليكاس مقبلة وحيدة ألبس غلالة بسيطة لأن النهار كان حاراً، فأراد أن يُخرج نهدي الذي كان مخبوءاً.
تناول قليلاً من الخزف الناعم، عجنه بالماء الطري الخفيف، وحين ضغطه على بشرتي، كنت أحسّ أني أضعف بمقدار ما كان هذا التراب بارداً.
وعمل من نهدي المفرغ كأساً مدوّرة ذات سرّة، ووضعها في الشمس كي تجفّ ونقشها بالأرجوان والتراب الحديدي وهو يعتصر حوله الزهور
وبعد ذلك ذهبنا إلى النبع؛ نبع العرائس، ورمينا الكأس في المجرى، ورشقنا معها قرنفلاً.
(17) الندامات
لم أجب في البداية، وغمر الخجل وجهي، وآلمت نهدي دقات قلبي. كم قاومت. قلت: كلا كلا. وأرجعت رأسي إلى الوراء، فلم تتجاوز القبلة شفتيّ، وما أدرك الحب ركبتيّ المتلاصقتين.
حينئذ استسمحني وقبّل شعري، وأحسست بنفسه الحارّ ومضى. وأنا الآن وحيدة، أطوف ببصري في المكان الفارغ والغابة المصحرة، والأرض الموطأة...أعض أصابعي حتى الندم، وأخنق صرخاتي في العشب.
(18) إلى الغاسلات
أيتها الغاسلات لا تقلن إنكن رأيتنني
إني إليكن أفيء فلا تخبرن أحداً. جلبت لكنّ شيئاً بين غلالتي ونهدي. إنني كصوص مجفل ولا أدري إذا كنت أجرؤ أن أبوح لكنّ
وقلبي يدقّ كما لو أني أموت.
إنه غطائي ذاك الذي أجلبه، غطاء سريري وشرائط فخذي...
فأنتن ترين: ترين الدم، وحقّ أبوللو، كان ذلك رغماً عني.
لقد قاومت. قاومت جيداً. لكن الرجل المحبّ أقوى منا
إغسلنها جيداً ولا تدّخرن الملح والحوّار...
سأضع لأجلكن أربعة فلوس على قدمَي أفروديت
ودرهماً من الفضة أيضاً.
(19) أغنية
حين عاد خبّأتُ وجهي بيديّ، فقال لي: لا تخافي شيئاً. من عرف بقبلتنا، ومن رآنا، الليل والنجوم والسحر والقمر:
القمر تمرأى في البحيرة، وقالها للماء تحت الصفصاف، وماء البحيرة قالها للمجداف، والمجداف حدّث بها القارب، والقارب نقلها إلى الصيّاد... ويلاه ويلاه لو وقف الأمر عند هذا، لكن الصيّاد قالها لامراة...
إذاً سيعرف أبي وأمّي وأخوتي وهيلاس كلّها.
(20) الرسالة الضائعة
واحسرتاه على نفسي فلقد ضيّعت رسالته التي خبّأتها في دفء نهديّ
كنت أركض فسقطت
أريد أن أعود على أعقابي فإذا وجدها أحد ما، سيُعلم بها أمّي، وسأُجلد أمام أخواتي الساخرات
إذا وجدها رجل سيُعيدها إليّ، وحتى لو أراد أن يكلّمني سرّاً، فأنا أعرف الوسيلة التي بها سأخطفها منه
أما إذا وجدتها امرأة فيا رفس الحارس قِني شرَّها، لأنها ستُشهّر بي، أو ستنتزع منّي حبيبي...
(21) النصائح
دخلت سليليكيما فاستأنستْ بنا كثيراً وجلست على المقعد
أجلستْ غلوتي على إحدى ركبتيها وأجلست كيزي على الثانية
قالت: تعالي هنا يا صغيرتي
لكني بقيت بعيدة فأعادت القول: هل أنت خائفة منا؟ اقتربي فهاتان الصبيّتان تحبّانك، وسيعلّمانك ما تجهلينه من غزل المرأة للمرأة
الرجل كسول ولا يُطاق، وأنت من دون شك تعرفين ذلك، صدره مستوٍ وبغيض، وبشرته كالخشب، ورأسه أجرد، وذراعاه يكسوهما الوبر
والنساء كلّ ما فيهن جميل وناعم
النساء وحدهن يعرفن الحبّ فظلّي معنا ظلّي يا بيليتيس
فإذا كنت تتمتّعين بروح ملتهبة فسترين جمالك على جسد عشيقاتك كما ترينه في المرآة.
(22) الشهوة
دخلت عليّ بكلّ ولع، وعيناها مغمضتان. جمعت شفتيها في شفتيّ وتعارف لسانانا، فكانت قبلة لم أذق مثلها أبداً طيلة عمري
كانت تقف قبالتي وكلّها رضى وحبّ وكانت إحدى ركبتيّ تصعد رويداً رويداً بين فخذيها الدافئين، كانا يستسلمان لي كما يستسلمان لعاشق، وكانت يدي الحانية على غلالتها تبحث لتستبطن الجسد المخبّأ؛ الجسد الذي كان أحياناً يتعطّف مائجاً وأحياناً يتصلّب وهو يتلوّى
بشرتها كانت ترتعش وبعينَيْها المجنونتَيْن كانت تشير إلى السرير
لكن لم يكن لنا الحقّ بما تريده قبل طقس الأعراس... فافترقنا فجأة.
(23) الماضي الحيّ
سأُبقي السرير كما تركته ممزّقاً متكسّراً مخرّب اللحف كي يبقى شكل جسدها منطبعاً قرب جسدي
وحتى الصباح لن أغتسل ولن أرتدي ثياباً ولن أسرّح شعري خوف أن تُمحى آثار البهجة
وصبيحة هذا اليوم لن آكل، ولن آكل هذا المساء كذلك
وعلى شفتيّ لن أضع الأحمر ولا الأبيض حتى تبقى قبلتها
وسأترك المصاريع مغلقة ولن أفتح الباب خوف أن تهرب مع الريح ذكراها الباقية.
(24) ثديا ميناسيديكا
أزاحت غلالتها بكلّ عناية عن صدرها ومدّت لي ثدييها الفاترين الرخصين كما يُقدَّم زوج من اليمام الحيّ
أحبّيهما، قالت لي، فكم أحبُّهما، إنهما عزيزان، ولدان صغيران، عندما أكون وحيدة أصرف لهما أفكاري، ألعب معهما وأبعث فيهما الغبطة.
أغسلهما بالحليب وأرشّ عليهما الزهر وأفرد فوقهما شعري الناعم المحبّب إلى حلمتَيْهما، أداعبهما وأنا أرتعش، وأُرقدهما في الصوف.
وأنا لا أولاد لي، فكوني رضيعتهما. ولأنهما جدّ بعيدين عن شفتيّ، فباسمي اغمريهما بالقبل.
(25) ضوء خافت
تحت لحاف الصوف الشفيف انزلقنا أنا وهي حتى رأسَيْنا، وكان السراج ينير من فوقنا اللحاف. وهكذا كنت أبصرها، جسدها الغالي في نور عميق، كنا أكثر قرباً من أي وقت مضى وأكثر حرّية وأكثر صفاء وأكثر عرياً، كنا في غلالة واحدة كما قالت
وبقينا متلاصقتي الرأس كي يتّحد جسدانا أكثر أكثر
وفي جوّ السرير الضيّق كان يتصاعد عبق امرأتَيْن، عبق مجمرتَيْن إنسانيتَيْن
لا أحد في العالم، ولا حتى السراج نفسه، لمحنا تلك الليلة
فأيّنا كانت الحبيبة؟ هي وحدها وأنا نستطيع أن نعرف، أما الناس فلن يعرفوا شيئاً عن ذلك.
(26) القبلة
سأمرّغ شفتي على طول جناحَي رقبتك السوداوين الطويلين... أيتها العصفور الوديع، أيتها الحمامة التي تحت يدي ينبض قلبها.
سأقبض فمك في فمي، كما يقبض الطفل ثديي أمه. ألا فارتعشي، القبلة تنفذ عميقاً، وفيها كفاية الحبّ.
سأطوّف لساني الرشيق على ذراعيك وحول عنقك وسأدوّر على جوانحك المرهفة دعاب الأظافر المديد
أصغي يا ميناسيديكا أصغي. سأهدر في أذنَيْك صخب البحر كلّه، إن نظرتك تتعبني. سأقيّد أجفانك الملتهبة، سأقفل عليها بقبلتي كما أقفل على الشفاه.
(27) العناق
أحبّيني ليس بالبسمان والمزامير أو الزهر المضفور، لكن بقلبك، بدموعك، كما أحبّك أنا.
حين يقابل ثدياك ثديي. حين أحسّ حياتك تلامس حياتي، حين تنتصب ركبتاك ورائي.
حينذاك لا يعرف فمي المهجور، لا يعرف حتى أن يجد فمك.
اغمريني كما أغمرك. فالسراج انطفأ. نمتزج في الليل، أغوص في جسدك المائج، وأصغي إلى أنّتك الدائمة، إنّي أنيناً يا امرأة. إنّي. فإيروس يتجرجر بالألم، وأنت هنا على هذا السرير؛ سرير حبّنا الأعمق ألماً، إنّي. كما لو كنت تضعين طفلاً للعالم.
(28) الحبّ
ويلاه! إذا فكّرتُ بها يتيبّس حلقي، يتنكّس رأسي، يتخشب نهداي ويؤلمانني، أرتعد وأبكي وأنا أمشي.
إذا رأيتها يتوقف قلبي، ترتعش يداي، تتجلّد قدماي، تصعد إلى خدّي حمرة النار، ينبض صدغاي بحسرة.
وإذا لمستها أصبح مجنونة، يتصلّب ذراعاي، وركبتاي تتهالكان، وأسقط أمامها، وأرقد كامرأة توشك أن تموت، أشعر أني أُجرح من كل كلمة تقولها لي، فحبّها عذاب والعابرون يسمعون انتحابي. فيا ويلاه! كيف أقدر أن أدعوها حبيبتي؟
(29) أمسية قرب النار
الشتاء قاسٍ يا ميناسيديكا وكل شيء بارد خارج فراشنا،
مع ذلك انهضي وتعالي معي، فقد أخرجت ناراً عظيمة من الجذوع اليابسة والخشب المحطّم.
سنتدفأ جاثيتَيْن عاريتَيْن وشَعرانا يتطاولان على ظهرَيْنا
وسنشرب الحليب بكأس واحدة ونأكل الأقراص المعسّلة، أقراص الدقيق والزبدة والبيض.
كم هو اللهيب مصلصل وجذلان، ألست قريبة الآن؟
جسدك يحمرّ فاتركيني أقبّل أنحاءه التي تضطرم بالنار، ووسط الجمر المتأجّج سأحمي المكواة وأزيّن لك شعرك، وبالجذوة المنطفأة سأكتب اسمكِ على الجدار.
(30) صمت ميناسيديكا
ضحكتْ طول النهار، وحتى لقد سخرت مني قليلاً، فقد أبت أن تطيعني أمام نساء غريبات عدّة
ولما رجعنا تظاهرتُ أني لا أكلّمها. وحينها ارتمت على عنقي قائلة: أأنت غاضبة، قلت لها: آه، لست كالسابق لست أبداً كما كنت في اليوم الأول، لقد تغيّرت يا ميناسيديكا.
فلم تجبني بكلمة، لكنها تزيّنت بجميع تحفها التي لم تتزيّن بها منذ زمن طويل، وارتدت الثوب الأصفر الموشّى بالأزرق؛ الثوب نفسه الذي كانت ترتديه يوم تلاقينا.
(31) الرسالة
هذا محال، محال أتوسّل إليك متذلّلة بدموعي... بكل الدموع التي أرقتها على هذه الرسالة المريعة أتوسّل إليك ألا تهجريني هكذا.
أتتصوّرين كم هو مخيف أن أخسرك مرّة ثانية وإلى الأبد، بعد أملي العظيم بالظفر بك
آه يا حبّي ألا تشعرين إلى أي درجة أحبّك
أصغي إليّ واقبلي أن أراك مرّة واحدة
ما رأيك أن تكوني غداً أمام باب دارك وقت غروب الشمس؟ غداً أو بعد غدٍ كي آتي وآخذك؟ لا ترفضي ذلك.
قد تكون المرّة الأخيرة
لكن اسمحي لي أن أراك هذه المرّة
هذه المرّة
استسمحك وأصرخ عليك
وتصوّري أن على جوابك تتوقّف البقية الباقية من حياتي.
(32) إلى جيرينو
لا تظنّي أنني أحببتك
لقد التهمتك كتينة ناضجة وشربتك كماء مستمرّ
وأحطتك بنفسي كزنّار من اللحم
لعبت بجسدك لأن شعرك قصير ونهدَيْك كالشوك على جسدك الضامر وحلمتَيهما سوداوين كتمرتَين ناضجتَين صغيرتَين
كما هو التمر والماء لا غنى عنهما كذلك المرأة...
لكني في هذه اللحظة
أجهل اسمك أنت يا التي مرّت بين ذراعيّ كظلّ لمعبودة أخرى
بين لحمَيْنا حلم ملتهب يتملّكني
سأشدّك إليّ - أنا الجريحة - وأصرخ: ميناسيديكا... ميناسيديكا...
(33) أغنية
أهداني الأول عقداً من اللآلئ يساوي ميدنة بقصورها ومعابدها وكنوزها وحواريها.
وأبدع الثاني قصائد من أجلي، قال: شعري كالليل وعيناي زرقاوان كالصباح.
أما الثالث فكان جميلاً، جميلاً حتى أن أمّه لم تقبّله إلا واحمرّت. فقد وضع يديه على ركبتيّ وشفتيه على قدمي العارية.
وأنتَ لم تقل لي كلمة ولم تهدني شيئا لأنك فقير ولست جميلاً
ولكن أنتَ... أنتَ من أحبّ.
(34) قبر غانية صبيّة
هنا يرقد جسد ليديا الأملد، جسد الحمامة الصغيرة التي كانت أكثر الغواني فرحاً وأكثرهن ولعاً بأعياد الخمر. جسد ليديا ذات الشعر المتموّج والرقصات الخيزرانية وغلائل اليواقيت.
أكثر من أيّ واحدة أخرى أحبّت الشهوة، ودغدغت الوجه والألعاب التي يراها السراج وحده والحبّ الذي يكسر الضلوع، وهي الآن ظلّ صغير، لكن قبل أن تودع في القبر زُيّنت بأبهة وغُمرت بالورود... حتى الحجر الذي يغطّيها أُشبع بالأريج. أيتها الأرض المقدّسة يا معطية الجميع تلقّي الميتة المسكينة بكلّ هدوء. وأرقديها بين ذراعيك أيتها الأمّ
وأنبتي حول قبرها لا القيص والعوسج لكن البنفسج الأبيض الحنون.
(35) فانيون الصغيرة
توقَّف أيها الغريب
وانظر إلى من تشير إليك
إنها الصغيرة فانيون من كوس، وهي جديرة بأن تؤثرها.
تأمّل شعرها المجعّد كالكرفس وبشرتها الناعمة كزغب عصفور، هي صغيرة وسمراء وبارعة في حديثها، وإذا أردت أن تتبعها فلن تسألك جميع المال الذي تحمله في سفرك... كلا، لكنها ستسألك درهماً أو خفّاً، وستجد لديها فراشاً جميلاً وتيناً طرياً وحليباً وخمراً، وإذا كان الجو بارداً ستجد لديها ناراً.
(36) الحبيب الأخير
أيها الفتى لا تعبر من دون أن تحبّني فأنا ما أزال جميلة في الليل
وسترى كم هو خريفي أكثر دفئاً من ربيع أي امرأة أخرى
لا تبحث عن حب العذارى
فالحب فنّ عسير لا يعرفن عنه غير القليل
وقد تعلّمته طيلة حياتي لأمنحه إلى حبيبي الأخير.
أعرف أنك أنت حبيبي الأخير
فها فمي الذي مرض من أجله شعب كامل
وها شعري؛ الشعر نفسه الذي غنّته بسافا العظيمة.
سأضحّي معك بكلّ ما تبقى لي من شبابي الضائع، وسأحرق من أجلك الذكريات نفسها، وأعطيك مزمار ليكاس وزنار ميناسيديكا.
اعداد: المهندس كمال شاهين
صفحة سورية التاريخ والحضارة
إضافة تعليق جديد