54 % من السوريين في فقر شديد
في شارع صغير، ليس ببعيد عن مركز المدينة (ساحة المرجة)، يتشارك عشرات الأشخاص، بمحالهم القديمة وبسطاتهم المتناثرة على جانبي الشارع، عرض قطع وأدوات منزلية قديمة، قد تكون صالحة للاستخدام أو لا تكون، لكنها لا تخرج عن دائرة «مهملات» المنازل. هنا يبحث المئات من معدومي الدخل يومياً عما يمكن شراؤه في ظل موجة الغلاء القاسية، التي تجتاح الأسواق المحلية.
صحيح أن هذا السوق ليس وليد سنوات الأزمة، لكن تدهور الأوضاع المعيشية لشريحة واسعة من السوريين زاد من عدد زبائنه، سواء الراغبين منهم في الشراء، أو أولئك المضطرين لبيع بعض أدواتهم ومقتنياتهم المنزلية «المتهالكة».
وحالما يترك الزائر ذلك الشارع ويتقدم عدة خطوات يرى مشهداً آخر يختزل معاناة شريحة أخرى من السوريين. أكياس سوداء كبيرة فيها ما تبقى من عظام ذبائح الأغنام تعرض للبيع لمن اضطر لإخراج اللحوم من قائمة مشتريات السلع الغذائية لعائلته شهرياً، وما أكثرهم اليوم.
فقد أدى الاتساع المتزايد للفجوة بين مستويات الأسعار المسجلة خلال العامين الأخيرين، والدخل الشهري المترنح تحت ضغط فقدان ما يزيد على 2.6 مليون فرصة عمل، إلى تغير سلبي عميق في أنماط الاستهلاك للعائلة السورية، التي وجدت نفسها مضطرة لإعادة ترتيب أولوياتها بما ينسجم ودخلها الشهري.
وبمقاربة إحصائية بسيطة لمتوسط إنفاق الأسرة عام 2009، البالغ رسمياً نحو 30 ألف ليرة (600 دولار)، وآخر رقم قياسي لأسعار المستهلك صادر عن المكتب المركزي للإحصاء في شهر آب من العام الماضي، يتبين أن الأسرة السورية تحتاج شهرياً إلى إنفاق نحو 96 ألف ليرة لتعيش بمستوى معيشة عام 2009. وبإضافة الزيادات المتكررة التي حصلت على أسعار جميع السلع المدعومة خلال النصف الثاني من العام الماضي، فإن متوسط الإنفاق الشهري يقفز بنهاية عام 2014 ليصل إلى 125 ألف ليرة (625 دولارا وفق سعر صرف قدره 200 ليرة)، فيما لم يتجاوز متوسط الرواتب والأجور رسمياً أكثر من 22 ألف ليرة.
20% في فقر مدقع، أي لا يستطيعون تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية
هذه الفجوة دفعت الأسر السورية إلى محاولة التأقلم مع ما هو متاح لقدرتها الشرائية. لا بل إن الدكتور شفيق عربش الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق يذهب إلى حد القول إن الأسر « أكرهت على نمط معيشي جديد حتى تتجنب الجوع والحرمان، فغيّرت سلتها الاستهلاكية لتتكون من المواد الأرخص والأقل تغذوية». ومن شأن هذا الأمر ترك تأثيرات صحية خطيرة، ولا سيما على «الأطفال الذين لا يحصلون اليوم على ما يحتاجون إليه لنمو أجسادهم. فنحن نأكل ولا نتغذى. قد يكون البالغ أقل تأثراً من الطفل، لكن تحول نمط المعيشة نحو أشياء محددة سيؤدي إلى زيادة الطلب عليها، وتالياً ارتفاع أسعارها لتصل الأسر لاحقاً إلى مرحلة تعجز فيها عن تأمين حتى الحد الأدنى لمعيشتها».
ويتبدى التغير الذي طرأ على أنماط معيشة السوريين خلال العامين الأخيرين من خلال تطورين هامين. الأول يتمثل في ارتفاع نسبة ما أصبح يشكله الغذاء من إنفاق الأسرة على سلة احتياجاتها اليومية، حيث تشير تقديرات الباحثين إلى أنه بات يمثل ما يقرب من 60% مقارنة بنحو 45% قبل الأزمة، دون أن يعني ذلك تحسناً في الحالة التغذوية للأسر بالنظر إلى الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية وتدني مصادر الدخل، كما أن حصة الوقود والكهرباء وتكلفة توفير السكن شهدتا هي الأخرى ارتفاعاً ملحوظاً.
أما التطور الثاني، فيتعلق باتجاه غالبية الأسر نحو السلع والخدمات الأساسية ذات الجودة المتدنية. فإلى جانب الإقبال على شراء السلع الغذائية المتدنية المواصفات، اضطرت العديد من الأسر ولاسيما تلك التي نزحت عن منازلها للإقامة في أماكن غير مهيأة للسكن ولا تتمتع بظروف صحية سليمة. وكل ذلك كان أيضاً على حساب إنفاق تلك الأسر على بنود رئيسية أخرى كالصحة والتعليم.
ومع ذلك، فإن تحوط الأسر السورية وشد حزامها الاستهلاكي لم يمنعا الكثير منها من الوقوع في مصيدة الفقر. فتقديرات الباحثين تجزم بأن «نحو 54.3% من السوريين يعيشون في حالة الفقر الشديد، إذ لا يستطيعون تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية، كما أن 20% يعيشون في حالة من الفقر المدقع، أي لا يستطيعون تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية، ويزداد الوضع سوءاً في المناطق المحاصرة والساخنة حيث ينتشر الجوع وسوء التغذية».
يستعيد المحامي فاروق الرباط مؤسس جمعية حماية المستهلك مشروعاً كان قد قدمه خلال رئاسته للجمعية قبل سنوات لتغيير أنماط الاستهلاك، لكن التداعيات السلبية للأزمة اقتصادياً واجتماعياً أدت إلى انقلاب جذري في أنماط الاستهلاك كما يقول، إذ زاد «الاستهلاك الشعبي الذي اعتادته الأسر الشعبية الفقيرة»، مبيناً أنه «وباعتبار أن الغالبية العظمى من الأسر السورية أصبحت من الأسر الفقيرة لاضمحلال الطبقة المتوسطة، فقد بات من الضروري التركيز على الاستهلاك الشعبي الذي يخدم أكثرية أبناء المجتمع».
تركيز يلخصه الدكتور عربش بجملة خطوات يفترض بالحكومة اتخاذها، أهمها «تأمين مستلزمات إطلاق عجلة الإنتاج، إذ لا يمكن في ظل فقدان حوامل الطاقة والتعقيدات في استيراد المواد الأولية فعل ذلك، فمن شأن إعادة العملية الإنتاجية تحقيق عدة نقاط إيجابية منها زيادة التشغيل، تأمين دخل، وتوفير مواد في السوق المحلية وغيرها».
زياد غصن
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد