مئات الدعاوى الخاسرة: الحرب رفعت الأخطاء الطبية 20 %
الأخطاء الطبية التي لم تفارق المستشفيات السورية يوماً ازدادت بشكل واضح خلال الحرب… فالهجرة والحصار والدمار وضعف الرقابة، كانوا أسباباً أساسية لرفع نسبة الأخطاء الطبية، خاصة في ظل واقع طبي تغيب عنه معايير التقييم، ويكون الخصم هو الحكم في كثير من الأحيان، فمن يحمي أرواح السوريين من خطر شبح قاتل يلوح أمام مريض، في كل مرة يزور فيها أحد المستشفيات؟!
المتهم… القدر
لم يكن والد الطفل (ع، ج) ابن السنوات العشر يتوقع بعد أن دخل ابنه معه ماشيا على قدميه، إلى أحد مستشفيات دمشق العامة بحرارة مرتفعة فقط، أنهم سيقولون له بعد أقل من نصف ساعة أن طفله فارق الحياة، إبرة واحدة فقط، ظن أنها ستخفض حراراته، كانت سبباً في فقدانه إلى الأبد، صراخ ذلك الرجل بكمية كبيرة من القهر والألم ومحاولته البحث عن الطبيب الذي تسبب في هذه الكارثة، انتهت بإخراجه مكبل اليدين من المستشفى تاركاً طفله جثة هامدة مع أم ثكلى لا تقوى على الوقوف.
اللافت يومها أنه وقبل البدء حتى بأي تحقيق قال الجميع بنبرة واحدة إن الطفل تحسّس من الإبرة وفارق الحياة، ومن هنا أدرك الأبوين أن الجواب والتبرير جاهزان والتهمة ألقيت مقدماً على القدر…
حالة هذا الطفل وذويه تكررت مراراً، وكان الضحايا أناس لم يفكروا حتى برفع الدعاوى، لأنهم وبكل أسف غير واثقين من جدواها.
البتر… بسهولة
في الحرب كان هناك الكثير من الإصابات، والكثير أيضاً من الأخطاء الطبية، والتي تأتي غالباً نتيجة التساهل في العلاج نظراً لكثرة عدد الجرحى، فيرى بعض الأطباء أن البتر هو العملية الأسهل والأقل وقتا وجهداً، وكثير من حالات البتر هذه، كان من الممكن تلافيها لو حكّم الطبيب وجدانه، ولو كانت الرقابة عليه حاضرة.
المريض (ع،ع) أصيب إصابة بالغة في ذراعه بعد أن سقطت قذيفة قربه، وقبل أن يوضع على سرير العمليات بنية بترها، وصل أحد أقربائه، طبيب، لينقذه في اللحظة الأخيرة، ونتيجة العمل الجراحي استطاع هذا الشاب استعادة ذراعه ولو أنها تعاني من عجز جزئي، بعد أن كان سيكمل بقيه حياته من دونها…!
رجل آخر قصد مستشفى «المجتهد» نتيجة إصابة في أصابع يده، وبعد أن اتخذت المستشفى قراراً ببترها، حوله أحد الأطباء إلى مستشفى المواساة ليخضع هناك لعمل جراحي مكنه من استعادتها من جديد.
والقصة الأخيرة لطفل دخل مستشفى المواساة مؤخراً بعد أن تعرضت ساقه لضربه قاسية، ليؤكد الأطباء هناك بعد تصويرها أن لا كسر فيها، وبعد ألم عدة أيام راجع أهله طبيب خاص ليؤكد من جهته إصابتها بكسر واضح يستوجب وضع جبيرة فورية لها.
مئات الدعاوى
هذه الأخطاء تم تداركها، واكتشفها المرضى أو ذويهم قبل فوات الأوان، إلا أن أخطاء أخرى أودت بحياة البعض، أو تركت عندهم إعاقة أو عقم أو تشوه، من دون أن يتمكن أحد من منع حدوث ذلك أو حتى محاسبة المتسبب فيه.
مصدر طبي أكد أنه لا يوجد في سورية أي ضابط لتشخيص الأخطاء الطبية، ولا يشتكي المريض في أغلب الأحيان لأنه يائس مسبقاً من القضاء ومن نقابة الأطباء، ويعتبر أن عدم دخوله مستشفى، يوم العناية المشددة فيه 150 ألف هو السبب فيما حدث له.
مضيفاً: قلة الثقافة أيضاً تلعب هنا دورا مهماً، فثقافة الشكوى غائبة في كل المجالات وليس الطبية منها فقط.
دعاوى الأخطاء الطبية التي تصل سنوياً إلى القصر العدلي بالمئات حسب مصدر في القصر العدلي، ذلك على الرغم من قلة المشتكين، وأكد المصدر أن القضية تنتهي في أغلب الأحيان بالخسارة وفي أحسن الأحوال بالتعويض لذوي المتوفي، نتيجة خطأ طبي غالباً بحوالي مليوني ليرة.
الحاضر الغائب
نقابة الأطباء الحاضر الغائب في موضوع الأخطاء الطبية فلا يقصدها إلى القلة من المشتكين، وهنا يقول نقيب الأطباء عبد القادر الحسن لـ «الأيام» أن للنقابة الدور المهم في النظر بموضوع الأخطاء الطبية، ومن المفترض أن تكون الملجأ لجميع المرضى الذين يشكون بأي خطأ طبي، وتمنى النقيب أن يتوجه جميع هؤلاء إلى أفرع النقابة للتقدم بشكواهم.
وعن سير الشكوى فيما لو وصلت إلى النقابة يوضح الحسن أن النقابة لديها مجلس مسلكي مؤلف من قاضي برتبة مستشار، وأطباء من المجلس النقابي ومن وزارة الصحة والقطاع الخاص، وهذا المجلس يحدد مدى الخطأ أو الإهمال الذي نجم عنه الاختلاط، وعندما يرى هذا المجلس حاجته لخبرة معينة يستعين بأطباء اختصاصيين لديهم هذه الخبرة، لافتا أنه وفيما لو لم يعجب المريض أو ذويه قرار المجلس، يحق لهم رفع دعوى قضائية، كما يحق لهم التوجه إلى القضاء فورا من دون المرور على النقابة.
واللافت أن نقيب الأطباء أكد أن المجلس المركزي اجتمع خلال العام الجاري، مرتين فقط بهذا الشأن ونظر في 3 قضايا، وأن جميع هذه القضايا كانت اختلاطات طبية وليست أخطاء!
فهل يعقل أنه لا أخطاء طبية في ملف نقابة الأطباء خلال هذا العام؟!
المتهم الحَكم
المشكلة التي يشكو منها المتضررون من هذه الأخطاء أن الحَكم والمتهم في صف واحد، فالأطباء يحاولون جاهدين أن لا يضروا بعضهم، لأنهم يتوقعون أن يكونوا في نفس الموقف يوماً ما، ومن هنا تكون الثقة في الحكم ضعيفة للغاية.
والمشكلة الخطيرة التي أشار إليها محمود زاهي قواص عضو مؤتمر في نقابة الأطباء، هي عدم وجود المعايير التي من شأنها أن تكون الحكم في حدوث الخطأ الطبي حيث يقول: الواقع الطبي اليوم بلا معايير طبية واضحة، ولا نظام صحي وطني شامل، وضابط، لكل الوزارات والمؤسسات ولا الطب الخيري، و التنافس بينها غير أخلاقي سواء من حيث التعرفة أوالضرائب، وتبعا لذلك يسود الطب المزاود، على حساب الطب اﻷفضل المعياري العالمي… فالمعايير هي المقياس الذي يفرق علميا بين الخطأ الطبي والاختلاط بأنواعه، فعندما يكون المعيار شخصيا وضبابيا يؤدي ﻹلغاء أي إمكانية للوصول إلى الحقيقة، القاعدة التي يبنى عليها إحقاق الحق، والعلم والصحة اﻷفضل بالنظام العادل للجميع.
مضيفاً : المعايير العالمية الأساسية تجبر الطبيب على التقيد بضوابط ثابتة ومعينة في كل مراحل الطب، من الوقاية حتى التشخيص و المعالجة والمتابعة، وعندها من السهل تحديد إذا أخطأ الطبيب أو لم يخطىء، أما في سورية فمع اﻷسف لا معايير واضحة في الطب لذا من السهل التنصل من أي خطأ.
ويرى قواص أن علينا إما أن نتبع المعايير العالمية أو أن نبدع معايير محلية تناسب الدول الناميةن كأن تكون أكثر تشددا في الإجراءات اﻷعلى كلفة، وتناسب الواقع وفي الوقت نفسه تلبي الاحتياجات بشكل عادل، وتكافئ الفرص للجميع من مرضى وعاملين في القطاع الصحي سواء العام والخاص والخيري.
النقابة: لا زيادة في الأخطاء
وفي الوقت الذي يرى فيه رئيس الهيئة العامة للطب الشرعي في سورية زاهر حجو، أن القضايا التي يعود فيها القضاء إلى الطب الشرعي لوجود أخطاء طبية زادت بنسبة حوالي 20% خلال الأزمة، حسب تقديره الشخصي كطبيب شرعي، يرى النقيب أنه لا زيادة في الأخطاء الطبية خلال الحرب.
ويشير حجو إلى أنه ليس هناك أي إحصائية دقيقة في وزارة الصحة، عن عدد القضايا أو الأخطاء أو حتى الوفيات، إلا أنها موجودة وازدادت بشكل ملحوظ خلال الأزمة، ومنها ما كان مميتاً.
ويُرجع السبب في ذلك إلى هجرة معظم الأطباء الأكفاء أو أطباء الصف الأول كما أسماهم، مؤكداً أن ذلك كان له الدور في رفع نسبة الأخطاء الطبية بشكل ملحوظ.
وهنا أيضاً يخالفه الحسن القول حيث يرى أن الأطباء الموجودون في البلد عددهم كاف، وكفاءتهم عالية والحديث عن هجرة العقول منهم والمميزين غير دقيق على الإطلاق!
حصار وشحّ في العدد
ويشرح حجو وجهة نظره حيث يرى أن الأطباء الموجودين جيدون ووطنيون، تمسكوا بالبقاء في البلاد رغم الحرب والظروف الصعبة وبأجور قليلة، إلا أنهم محاصرون لا يمكن لهم السفر خارج البلاد للمشاركة، في المؤتمرات الدولية وتطوير معرفتهم، فهم من المستحيل أن يحصلوا على أية فيزا، مضيفاً أن عدد الأطباء انخفض بشكل واضح، ما شكّل عبئا كبيراعليهم، وهذا العبء من شأنه أن يزيد الأخطاء الطبية، فالطبيب من الممكن أن ينظر في اليوم إلى 10 – 20 حالة مريض، إلا أنه في الواقع يتابع 200 حالة يومياً في المستشفى الحكومي، ومن الطبيعي أنه لن يبقى بكفاءته نظراً لكثرة الحالات: إصابات حربية، حوادث، أمراض وجرائم، ويؤكد رئيس الهيئة أن لدينا شح في الأطباء وهذه مشكلة.
وعن إجراءات التقدم بشكوى بخصوص الأخطاء الطبية للقضاء، يوضح حجو أنه يتم تشكيل لجنة من طبيب شرعي وطبيب مختص بالحالة وطبيب تخدير مثلا، الطبيب الشرعي يقرر الحالة أولا، واذا اعترض المشتكون تشكل هذه الجنة الثلاثية.
مؤكداً أنه لا محاباة في ذلك عند اللجوء للقضاء، ومستعدون للنظر وإنصاف أي مواطن يتقدم باعتراض على قرارنا.
ويلفت الطبيب الشرعي إلى وجوب التفريق بين الخطأ والاختلاط، مؤكداً أن كليهما وارد وفي كل دول العالم بنسب محددة، وأن من الضروري أن نعلم أننا في حالة حرب وهذا ما قد يسبب تراجعاً في ضبط هذه الأخطاء، وعلى الرغم من وجود أخطاء قاتلة إلا أنها قليلة، ويضيف: النقابة تأخذ إجرءات صارمة والقضاء لا يتساهل، وفي النهاية لا يوجد طبيب له مصلحة في أن يقع في خطأ، فإذا استثنينا العامل الأخلاقي، وهو الأساسي، لن يخطئ أيضاً من مبدأ تجاري فضرب سمعته سيضره في النهاية.
ويرى حجو أن الأطباء مظلومون ومعظمهم يبذلون قصارى جهدهم، لذا يجب أن لا يتسرع الناس في الحكم على الطبيب والتشهير به قبل صدور الحكم القضائي
مبينا وجود أحد الحالات في حلب تعرض فيها طبيب من أكثر الأطباء كفاءة، للتشهير نتيجة رفع دعوى بارتكابه خطأ طبي، علماً أنه بريء تماماً، وهنا من الممكن أن نخسر هكذا طبيب رغم أنه لم يهاجر رغم الظروف القاسية، وبقي في سورية يتقاضى مبلغ 35 ألف ليرة بينما يستطيع أن يهاجر ويتقاضى 35 ألف ريال قطري في عرض قدم له.
اختلاطات
وبدوره يرى قواص أنه لابد من الإشارة إلى أن هناك ردود فعل غير متوقعة لجسم الإنسان على أي تداخل طبي وإجراء أو دواء وهي ما نسميه «اختلاطات» ، حيث من الممكن أن يتحسس المريض من أدوية معينة وبشكل غير متوقع، فجسم الإنسان هو تركيبة فريدة ومعقدة، وقد لا يمكن الإحاطة بكل تعقيداتها، ولكن هناك ضوابط تحد من المزاجية والأخطاء لابد من فرضها… وليدخل في لجان الضبط الصحي العديد من الاختصاصيين لتحديد وجود خطأ طبي ما، ولكن أولا يجب أن يكون هناك قانون متكامل شامل و معايير وضوابط معتمدة، ويتم التقيد بها والقياس عليها وهذا غير موجود، فالمعايير موجودة الآن عند بعض شركات التأمين إلا أنها من المفترض أن تكون علنية شاملة و معممة… حتى على المواطنين والمؤمّنين على صحتهم، فالوضوح هو مع الصحة العلمية والقانونية للجميع.
على سبيل المثال في أوروبا هناك لجنة وفيات في المستشفيات، مؤلفة من أعضاء من كافة الاختصاصات تناقش موت أي مريض وحالته منذ دخوله المستشفى إلى حين وفاته، و تحلل علميا كل إجراء وخلل.. وهنا من السهل عليها تحديد وجود خطأ إن وجد، ما يقي من الوقوع بنفس الخطأ لبقية المرضى… أي هي ضبط وحساب ذاتي من قبل الجهاز الصحي الوطني…أما في سورية فلم تحدث لجنة الوفياتً في مشافينا، ولم يقنن موضوع الرقابة الذاتية والمحاسبة المسبقة على التقصير قبل الوصول للإهمال أو الخطأ،لا سمح الله.
فشل طبي
ما يحدث لا يمكن أن نسميه أخطاء طبية فقط، فهو من الممكن أن يكون نوع من الفشل الطبي بدءاً من اختيار الأطباء واختصاصاتهم كلّ حسب إمكانياته حيث يقول المصدر الطبي أنه لا يجب أن توزع الاختصاصات بشكل عشوائي أو حسب الدرجات، على سبيل المثال لا يجوز إلا أن يكون الجراح لديه يد ماهرة ومحترفة، وغير ذلك سيخرج لنا طبيباً فاشلا وأخطاء كثيرة، هذا إلى جانب احترام جميع الاختصاصات، فالجراح هو صاحب القرار في سورية، بينما هو عالميا المنفذ للتشخيص الذي يحدده غيره من المختصين، مبيناً أن هذه فوضى من شأنها أيضاً أن تؤدي إلى أخطاء كارثية، إلى جانب غياب النظام الواضح.
وهذا ما أوضحه قواص بدوره: في العالم المتطور الطب هو نظام متكامل و يعمل، فالطب مثل الآلة، عبارة عن تكامل خبرات فريق وتكنولوجيات، مع مهارات فردية مع إدارة جودة و ضوابط. أما عند عدم توفرها وتكاملها فإنه وإن عملت الآلة فإن هذا النظام لا يعمل وفق الأصول العالمية، وبجدوى أقل حتى ولو أنفق عليه المال اﻷكثر.
وهنا من الممكن القول إن النظام الطبي في سورية غير متكامل و بلا ضوابط ولم يؤسس بعد وفق المعايير الطبية العالمية. وبذلك فلا نحصل على الجدوى العلمية والصحية الوطنية، بل ويصل ﻷن يتاجر به من قبل الطب الرديف والخيري والحكومي اﻷرخص واﻷقل جودةً وضبطاً.
فوضى
فشلُ النظام الصحي في وضع آليات ومعاييرمحددة للعمل يُصعّب مهمة مراقبته، وفي الوقت نفسه يُسهل مهمة التراخي في الأخطاء الطبية وتبريرها، ما يترك المواطن بلا كفيل لحقّه في الحفاظ على حياته وصحته من فوضى وإهمال الأطباء والمستشفيات.
لودي علي – الأيام
إضافة تعليق جديد