حمام النسوان اليوم: المساج بدل الشداد والهمبرغر مكان المجدرة
الجمل ـ تحقيق: ليلى نصر:اعتاد أبو حسام الجلوس على كرسي خشبي أمام حمام (البكري) في باب توما لاسيما في الفترة المخصصة لحمام النساء، فهو (الحمامي) صاحب الحمام الذي يعود بناءه لعام 1027 هـ وعلى بابه نقش بيت شعري يقول:
لأبي المواهب بالكمال بنى بكري حماماً بإحكام
فنظمت في شعري أؤرخه لأبي المواهب خير حمام
استهل كلامه بعبارة (رزق الله أيام زمان) فقديماً كان لا يشعر بالوقت كيف يمضي إذ يستأنس بالذاهب والآتي، وبحرارة السلام وأحاديث أهل الحي، ففي الماضي كان هذا المكان الملجأ الوحيد لأهالي الحي يرتادونه بمعدل مرة أو مرتين أسبوعياً من أجل النظافة والاستحمام، لعدم توفر الحمام في المنازل، إذ يستخدم المطبخ لهذا الغرض، فيجدون في حمام السوق التدفئة الممتازة والماء الساخن الوفير لاسيما في أيام الشتاء البارد، وقد كان عدد الحمامات في دمشق حوالي مئة وستة وثلاثين حماما، تقلص عددها مع وجود الحمامات في الأبنية الحديثة إلى ما يقارب الأحد عشر حماما ً، أربعة حمامات منها تعمل بشكل جيد.
مسرح
كل شيء تغير على حد قول أبي حسام، المحبة التي كانت تلف الجميع، والطيبة التي ما عادت موجودة في أيامنا هذه، فقد كان حمام السوق مسرحاً لشتى الأنشطة الاجتماعية، تُحل فيه خلافات الحارة، وتعقد الصفقات التجارية، وكان ملجأ للثوار الموجودين في الغوطة أيام الانتداب الفرنسي، حيث يرسلون مندوباً لإعلام صاحب الحمام بقدومهم، وعندما تنام عيون الناس يأتون للاستحمام والراحة، ويخرجون منه مطلع الفجر للعودة مجدداً إلى الغوطة. عداك عن المناسبات الاجتماعية التي تجمع أهالي الحي فيه، كحفلة الخطوبة والتلبيسة، وحمام كل من العريس والعروس لدى الزواج، وما يرافقه من طقوس احتفالية مميزة.
وفي أيامنا هذه قل ارتياد حمام السوق كثيراً، لكن موجه شبابية حديثة منذ عشر سنوات تقريباً تحاول إحياء طقوس المناسبات التي كانت تحصل في حمام السوق، ولعل الهدف الأساسي من زيارته هو الاجتماع بالأصحاب، والرقص والغناء، وإمضاء وقت ممتع في هذا البناء الشامي القديم أكثر من استخدام الحمام.
وقد أكدت كلام أبي حسام الفتاة (إيفون) التي أحبت أن تستغل مناسبة زواجها وتجتمع مع أهلها وصديقاتها في حمام السوق لتحيي حفلة الحمام فيه، فحجزته قبل يومين من زفافها في الفترة المخصصة لحمام النساء.
رقص وفقش
لدى دخولي الحمام كان في استقبالي على بابه (أم أديب) أخت العروس حيث قالت: كما ترين (اللمة والرقص والفقش) فالهدف من وجودنا هو تغيير الجو والاجتماع مع الأصدقاء، أكثر من استخدام الحمام، مع أنه أفضل بكثير من حمام المنزل، حيث التلييف والتكييس والبخار الذي يخلص الجسم من الطبقة الميتة، ليغدو أكثر نضارة، ومن المفترض أن يستخدم مرة كل أسبوعين على الأقل، لكن مسألة الإحراج من وجود أحد غريب، هي التي تمنع الكثيرين من ارتياده، وأن تحجزه مجموعة منفردة قد يكون ذلك مرهقاً مادياً لها.
للريجيم
أما العروس (إيفون) التي لم تر حمام السوق، وإنما تعرف أجواءه من خلال أحاديث الكبار عنه، وما صورته الدارما السورية، حيث الرقص والغناء والأركيلة، وتناول الغداء والمشروبات، فأحبت أن تستغل المناسبة، للتعرف عليه وتغيير المعتاد، حيث تقول: أول ما دخلت الى الحمام أدهشني البناء المعماري القديم, الأرض المبلطة بالرخام، والبحيرة التي تتوسط الليوان، ونافورة المياه، وبعد أن بدلنا ملابسنا في الممر الواصل بين الغرفتين، ودخلنا إلى الغرفة المتوسطة، كاد أن يغمى علي من شدة الحر، ولكن ما إن مضت ثوانٍ عدة حتى تأقلمت مع الجو، وعندما دخلنا إلى الغرفة الداخلية الساخنة التي تدعى بحمام البخار، أعتقد أن وزني نقص أكثر من خمسة كيلو، فهو طريقة للريجيم.
شبك الطرحة
تتابع (إيفون) حديثها وتقول: ولأنه لا مفر من الحمام اجتمعت صديقاتي عليّ، ووضعنني أمام حوض الماء أو الجرن كما يسمونه، وبدأن بتحميمي، ثم وضعنني تحت رحمة المكيّسة (أم سامر) حتى غدا جسمي ناعماً كالحرير، وبعدها بدأن بعملية المسّاج، وعند الانتهاء غنّين لي، وزغردن، وقمن بقرصي لكي يصبن بعدوى الزواج مثلي، ثم شبكن الطرحة التي أحضرتها معي مع طقم العريس، وهو تقليد قديم أيضاً لكي نبقى معاً طوال العمر، ولا نفترق أبداً.
أكبر الحاضرات سناً جدة (إيفون) التي حملت نفس الاسم، وقد جلست جانباً، وأخذت تشرب الأركيلة.. تعود الجدة إلى حمام السوق هذا، بعد أربعين عاماً من غيابها عنه، للاحتفال بزواج حفيدتها، حيث أخذت تتذكر كيف كان حمام السوق مكاناً للتعارف بين النساء وتبادل الأحاديث والأخبار والتباهي بالجمال وامتلاك الحلي، واختيار العروس.. ولكن لماذا في حمام السوق، وكيف يتم ذلك؟
تقول: قديماً درجت عادة اختيار العروس في حمام السوق، حيث يظهر جمالها على طبيعته دون تبرج أو (ماكياج)، ويتم التأكد من صحتها، وكل ما يتعلق بجسدها من تفاصيل، فإذا أعجبت إحدى السيدات بفتاة ما، تتعرف عليها وتتقرب منها، وتحمل مواصفاتها إلى الشاب الذي يهمها أمره ويريد الزواج، فإذا أعجبته مواصفاتها، يسألون عن أهلها ويطلبون يدها، ليتم تحديد موعد الخطوبة، والتلبيسة في حمام السوق.
العرس والغمرة. والنفاس
وتسرد الجدة قائلة: إذا تم الزواج، حمام كل من العريس والعروس يكون في نفس المكان، بحضور جميع أهالي الحارة، حيث الزغاريد الخاصة بهذه المناسبة للعروس، والعراضة الشامية للعريس، وبعد أسبوعين منه تدعو أم العروس، العروسين وأهالي الحي والأقارب لحمام يسمى حمام الغمرة، وبعد الولادة هناك حمام النفاس أو الأربعين، وفيه تقوم النساء بعملية (الشداد)، إذ يطلين جسد النفساء بخلطة مؤلفة من (الزنجبيل، والخردل، والقرفة، والبيض)، ويضعنها على بيت النار، فهذه العملية كما يقال تشد عروق النفساء، وتعيد لجسمها حيويته التي كانت قبل الولادة.
قضامي مغبرة
اجتمعت جميع الفتيات في مقصورة واحدة، وبدأن بالرقص والغناء بعد الاستحمام على إيقاع ألحان وكلمات أغاني هيفا وروبي، يقلدن حركاتهن حيناً، وينتقلن للديسكو الغربي حيناً آخر، فأطلقت الجدة التي أخذت تراقبهن دون أية مشاركة تنهيدة قوية وقالت: أين الأغاني الشامية القديمة من هذه الأغاني ( يا قضامي مغبرة) و(ع اليانا) وأغاني صباح فخري و(يم العباية) والدلعونة، والأهازيج الخاصة بالمناسبة التي تطرب لها الآذان.
تولت أم أديب مسألة توزيع الطعام، الذي أحضر جاهزاً، في موعد تناوله من أحد المطاعم المجاورة، وقد تألف من البيتزا، والهامبرغر، والكولا، وغيرها ...فأضافت الجدة قائلة: كان للطعام نكهته المختلفة في هذا المكان، حيث يجتمع الموجودون في الحمام، الأقارب والأصدقاء وأبناء الحي على نفس المائدة كعائلة واحدة، إذ يتألف طعام الغداء عادة من المجدرة أو البرغل والبندورة والتبولة والخيار والمخلل والجزر الأحمر، ومع أن كل شيء محضر (ع البساطة)، لكن الجميع كانوا سعداء.
البناء القديم
مع كل التغيرات التي طالت عادات وتقاليد ارتياد حمام السوق، والتي طالت حياتنا كلها، هل ما زال حمام السوق محافظاً على طابعه القديم، أم نابه نصيب منها؟
يقول أبو حسام: ما زال حمام السوق محافظاً على طابعه القديم، من حيث البناء المعماري الإسلامي المتميز بالقبب، وتوزع أقسامه الرئيسية البراني والوسطاني والجواني، والأحواض الواسعة التي يجري فيها الماء الساخن والبارد، والمزينة بالزخرفة والنقوش، لكن بعض الحمامات أدخل إليها البورسلان كمادة جديدة، لكنها بقيت تتميز بمواد بنائها الأساسية وأهمها الكلس، وهو مادة حية تحافظ على الحرارة، وتعطي أكسجيناً للتنفس، إضافة لمادة طبية من (القصرمل) مصنوعة من الرماد المحروق مع الكلس، وعادة ما يكون النصف الأرضي من الحمام مكسواً بالرخام، والنصف العلوي بالكلس، إضافة للحجر المزي المميز بلونه الأحمر الجميل، لاسيما عندما يوضع عليه الماء، والحجر البازلتي الأسود، مع التزينات المرافقة له.
وبذلك اعتبرت دمشق المدينة الأولى في العالم التي امتازت بحماماتها، ويذكر أن الخليفة الوليد بن عبد الملك لما بنى الجامع الأموي تحدث إلى أهلها قائلاً: (تفخرون على الناس بأربع خصال بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة)
ومع الأهمية التي أولوها لعمارتها كانت متنفساً اجتماعياً ومكاناً للراحة والاسترخاء، وميداناً للتعارف وتبادل الأحاديث لاسيما بالنسبة للنساء حيث تحتضن سيرهن وهمومهن وأفراحهن، ويقضين فيها وقتاً ممتعاً، ومع أن دورها تهاوى مع ما لف حياة المدينة وحياتنا من متغيرات، ما زال الحنين إليها موجوداً، كجزء من الحنين لماض كان للمحبة والطيبة التي تلف قلوب الناس عنواناً في ذاكرة المكان، فهلا يعود ذلك الماضي الجميل ؟!
الجمل
إضافة تعليق جديد