البطالة في سوريا… أكبر من مجرد أرقام
تتجه الأنظار هذه الأيام إلى مدينة حلب، التي يخوض الجيش العربي السوري معاركعنيفة على تخومها لفتح الطريق الرئيسية بينها وبين العاصمة دمشق، أحد أهم الطرق في سوريا.
وبينما يأمل كثيرون في أن تساهم هذه العملية بدفع عجلة الإنتاج في عاصمة سوريا الاقتصادية، يشكك كثيرون بأثر هذه الخطوة على المدى المنظور، حيث يعاني الاقتصاد السوري من أزمات عدة متشابكة ومتداخلة بمجملها.
وعلى الرغم من أن فتح الطريق سيسهل حركة البضائع على أحد أهم الطرق في سوريا، يستشهد كثيرون بتحرير مدينة حلب قبل ثلاث سنوات، والإحباط الذي أصاب الاقتصاديين بعد عودة المدينة إلى سيطرة الحكومة، حيث لم تنجح عمليات الإنعاش المتتالية في تنشيط – ولو بنسبة بسيطة –حركة الإنتاج، فإضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمعامل والمصانع في عاصمة الشمال السوري، برزت عوامل أخرى عرقلت الإنتاج، بينها ارتفاع تكاليفه في ظل تراجع قيمة الليرة السورية، وعدم توافر الطاقة، أو ارتفاع تكاليفها، وعدم توافر أسواق للتصريف، إضافة إلى النقص الشديد الذي تعاني منه حلب في اليد العاملة الخبيرة، وفق ما أكده أحد صناعيي المدينة
الحديث عن عدم توافر يد عاملة يخلق مفارقة إذا ما قورنت هذه المشكلة بأرقام وإحصاءات رسمية سورية، أو حتى عالمية، تشير جميعها إلى الارتفاع الكبير في نسبة البطالة، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن نسبة البطالة في سوريا تتجاوز الـ 50 بالمئة من قوة العمل، الأمر الذي قد يوضح مشكلة أعمق من مجرد أرقام ونسب ومعدلات.
الحرب… وما قبلها
في دراسة أجراها مركز “مداد” السوري للدراسات، حملت عنوان “اختلالات سوق العمل في الاقتصاد السوريّ وسياسات تصحيحها 2001-2017″، تبيّن أن سوق العمل في سوريا يعاني من مشاكل عديدة تراكمية زادت حدتها مع اندلاع الحرب.
وتشير الدراسة إلى أن من أبرز المشاكل التي تواجه سوق العمل “ضعف التنسيق بين مؤسسات وبرامج سوق العمل، وعدم وجود استراتيجية أو سياسة لتنظيم سوق العمل بمكوناته كلها، والاعتقاد السائد بأن القطاع العام هو أفضل مكان للعمل من القطاع الخاص، تحديداً للخريجين والنساء”، محددة اربعة اختلالات رئيسية “بنيوية وقطاعية وجندرية وأخرى تتعلق بالأجور”.
وبحسب البحث، فإن معدلات البطالة قفزت بشكل كبير جداً إلى مستويات لم يلحظها الاقتصاد السوري من قبل، فطوال الأمد الواقع بين (2013/2017) وصلت معدلات البطالة وبشكل وسطي إلى نحو 37 في المئة من قوة العمل، بفعل نتائج الحرب الاقتصادية والاجتماعية وما أفرزته من تدمير البنى التحتية والقطاعات الاقتصادية كلها، وتراجع قيمة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة وسطية تقدر بنحو (60%) عما كان عليه عام 2010، وكان أعلى معدل للبطالة في عام 2015، إذ قاربت تلك النسبة نحو (48%) من قوة العمل، فقد أدت الحرب إلى تراجع أعداد المشتغلين في الاقتصاد من نحو خمسة ملايين مشتغل عام 2010 إلى نحو (2.6) مليون مشتغل عام 2015، لكن في العام 2017 زاد عدد المشتغلين إلى نحو (3.6) ملايين مشتغل مقارنة مع عام 2015، لكنه بقي أقل بنسبة (28%) عما كان عليه عام 2010 أيضاً.
وبحسب البحث، يعتبر القطاع الزراعي في سوريا الأكثر تضرراً، فبينما كان يشغّل القطاع الزراعي أكثر من 50 في المئة من القوى العاملة في سوريا، انخفضت النسبة إلى نحو 10 في المئة.
وعانى العاملون في قطاع الزراعة في سوريا من أزمة خانقة قبل اندلاع الحرب، وتحديداً بين عامي 2006 و2010، حيث شهدت البلاد موجة جفاف حادة دفعت عدداً كبيراً من العاملين في القطاع الزراعي في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا تحديداً إلى النزوح نحو مراكز المدن بحثاً عن مصادر رزق جديدة.
مستقبل غامض
يعاني قسم كبير من خريجي الجامعات والمعاهد في سوريا من عدم وجود فرص للعمل بعيداً عن القطاع العام، الذي ينظر إليه، رغم تدني مستويات الأجور فيه، إلى مصدر أمان، الأمر الذي خلق ضغوطاً مضاعفة على الحكومة، وزاد من ترهل تلك المؤسسات التي تستوعب بشكل مستمر موظفين جدد، في كثير من الأوقات لا تحتاج إليهم، وهو ما يطلق عليه الباحثون “البطالة المقنعة”، والتي تظهر تراجع في معدلات البطالة، دون أية زيادة في الإنتاجية، وفي بعض الأوقات تراجعها حتى.
كذلك، تسببت الحرب باعتياد قسم من القوى العاملة على الجلوس والاعتماد على المساعدات للعيش، سواء في المخيمات سوريا، أو حتى في دول اللجوء. ضمن هذا السياق، يشير أحد العاملين في مجال الإغاثة، شارك في عمليات إغاثية وتوزيع مساعدات في حمص وحلب، إلى أن من الإشكالات التي واجهها خلال عمله ركون قسم كبير من الشبان إلى العيش على المساعدات، وعدم البحث عن فرص للعمل، رغم توافر بعض الفرص، سواء الوظائف، أو حتى إقامة المشاريع الخاصة عن طريق توافر فرص للحصول على قروض ميسرة في بعض الأحيان.
وأوجدت الحرب خلال السنوات العشرة الماضية فرصاً مؤقتة للعمل، سواء في الأعمال القتالية، أو حتى ضمن بعض المهن التي خلقتها الحرب، كالعمل ضمن المنظمات الإغاثية، أو خدمات النقل وغيرها من الأعمال، إلا أنه ومع انحسار الحرب، وتراجع الأعمال القتالية، انحسر قسم كبير من هذه المهن، في ظل عدم توافر بدائل للعمل، لينضم قسم كبير من هؤلاء العاملين إلى قائمة “منتظري الفرج”، وفق التعبير السائد بين خريجي الجامعات الذين ينتظرون فرصاً للعمل في سوريا.
وعلى الرغم من تعقيدات الأوضاع السياسية والميدانية والاقتصادية بعد تراجع حدة القتال في سوريا، فإن مستقبل قسم كبير من العاطلين عن العمل ما يزال غامضاً، فبينما يمنّي كثيرون أنفسهم بانطلاق أعمال حقيقة لإعادة الإعمار، أو بدء دوران عجلة الإنتاج، لا توحي الظروف الحالية بأن انفراجاً كبيراً ستشده الأوضاع ضمن المدى المنظور، ففتح طريق حلب هو جزء من صورة كبيرة يتعلق بعضها بدول الجوار والأسواق المتاحة، وبعضها الآخر بمدى قدرة الحكومة على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومدى قدرة الاقتصاد السوري على استرجاع المستثمرين، والعقوبات المفروضة على سوريا وكيفية تجاوزها، ومدى ملائمة مخرجات التعليم لسوق العمل الحقيقي، جميعها عوامل يجد العاطلون عن العمل أنفسهم مجبرين على التفكير بها والخوض في متاهتها.
علاء حلبي
إضافة تعليق جديد