كيف نرفع حجاب المايا؟

13-06-2020

كيف نرفع حجاب المايا؟

د. فتحي المسكيني:

ربمّا ما أرّخه الشاعر هو تغيّر طبيعة العلاقة الأوروبية مع الهند: من الجغرافيا إلى العقل. وليس ذلك غير بروز النزعة الرومانسية باعتبارها مقام الروح في أفق الألمان. ولأوّل مرة تجرّأ تقليد ألمانيّ صريح وضخم، يذهب من هردر إلى شوبنهاور ونيتشه، مرورا بفلاسفة من قبيل فيشته وشيلنغ وهيغل وشلايرماخر، أو شعراء من حجم غوته وشلّر ونوفاليس، تجرّأ على كسر القرار الكلاسيكي الذي أسّست عليه أوروبا الجديدة «حداثتها»: ذاك الذي يحصر أصل النهضة الأوروبية في اليونان والرومان. وفي نطاق توتّر عميق بين الشعور الصوفي العريق لدى الألمان منذ المعلّم إيكهارت (ت. 1328) وبين نزعة التناسق الصارم للثقافة الكلاسيكية اللاتينية، حيث انحسر الفرنسيون والإنجليز، تولّدت الروح الرومانسية الألمانية ووجدت طريقها إلى الهند: بلاد كلّ ما هو «أصلي» من أديان وأعراق وآداب وفلسفات وتصوّف.

الهند هي الأصل

قال فريدريك شليغل: «كلّ شيء، أجل، كلّ شيء من دون استثناء إنّما يستمدّ أصله من الهند».

لكنّ تلفّت الفلاسفة والشعراء الرومانسيين الألمان نحو الهند إنّما كان أكثر تعقيدا من مجرّد فضول بعض الشعوب على أخرى. يقول كارل يونغ (ت. 1961) عن أحد المستشرقين الذين اهتمّوا بالهند (وهو يقصد Anquetil-Duperron) : «لقد قام بإدخال الروح الشرقية في الغرب، أمّا تأثير ذلك علينا فهو أمرٌ نحن لا نزال غير قادرين على تقديره. وعلينا فقط ألاّ نهوّن من شأنه». وحسب يونغ ليس من الصدفة أبدا أن يتمّ ذلك في لحظة اندلاع الثورة الفرنسية. ولا ننس أبدا أنّه حين جاء الإسكندر الأكبر غازيا للهند، و»الغرب» الأوروبي يبحث عن تاريخ لذاته، كانت الهند قد أكملت طورا مديدا من عمر العالم. هل ساهم هذا التفاوت في التوقيت الميتافيزيقي بين الهند والغرب في تحديد طبيعة اللقاء بينهما ؟ وما دور الفلاسفة الألمان في ذلك؟
يقول أموري دي ريانكور في كتابه روح الهند:»إنّ ما لم يستطع الغرب أن يفهمه هو أنّ الهند، مثلها مثل الصين، هي منذ زمن طويل قد تجاوزت نقطة التطوّر التاريخي التي بلغتها أوروبا وأميركا في القرنين التاسع عشر والعشرين».

إنّ عادة الغرب أن ينظر إلى الثقافات «الأخرى» وكأنّها صيغة منقوصة من «ذاته»، وليس باعتبارها كيانات «مكتملة» في ذاتها. وكان كانط وهيغل قد ضبطاَ الصياغة الفلسفية النموذجية عن هذا التصوّر، والتي تحوّلت إلى ضرب من الحسّ المشترك عند الغربيين: إنّهم شعوب الذاتيّة بحصر المعنى. وكلّ شعب لم يبن هويته على «كوجيطو» معيّن هو يمشي «خارج» التاريخ.

ولذلك فإنّ ما سوف نصرف جهدنا إليه في هذه المقالة هو أمر آخر: لماذا فشلت الرؤية الرومانسية في تعويض الأصل الروحي للغرب (أي الأصل اليوناني- المسيحي) بالأصل الهندي ؟ ما الذي منع الغرب من «التبنّي» الميتافيزيقي للهند باعتباره نموذجا للوعي الإنساني الكوني ؟ خاصة وأنّ الغرب ليس له مع الهند أيّة «حروب هووية» من قبيل «الحروب الصليبية» مع المسلمين أو من نوع الثأر اللاهوتي من اليهود صَلبة المسيح؟ هل فعلاً يتعلق الأمر بما سمّاه أحد المتفلسفة الفرنسيين المعاصرين: «نسيان الهند»؟ في تصادٍ لا تخطئه الأذن الفلسفية مع أطروحة هيدغر عن «نسيان الكينونة»؟

لم يكن الهنود بالنسبة إلى كانط غير شعب «غير أوروبي» تماما، وبهذا المعنى هو «غير مسيحي» تماما، بل هو لا يشبه حتى «المحمّديين» أو هو عكسهم. قال كانط في أحد هوامش كتابه المثير «الدين في حدود مجرّد العقل»:» «فعند الهنود ليس البشر شيئا آخر غير أرواح (تسمّى ديفاس Dewas) حبيسة في أجسام حيوانية عقاباً لها على جريمة سابقة»، ويقول:» «إنّ دين محمّد (derMohammedanism) فهو يتميّز بالكبرياء، إذ بدلاً من المعجزات، هو قد وجد التأييد الخاص بإيمانه في الانتصارات وفي قهر الشعوب الأخرى، وطقوس عبادته كلّها من نوع شجاع. أمّا المعتقد الهندي فهو يمنح أتباعه طابع عدم الشجاعة (Kleinmütigkeit) لأسباب مناقضة تماما لتلك التي ذكرناها للتوّ».

الشرق اللاّ ذاتي
ظلّت الهند نوعا صارخا من المحال الأخلاقي بالنسبة إلى كانط: إنّها تمثّل ثقافة تقع خارج مقاييس الرجل المسيحي.

لكنّ هذه النظرة سرعان ما سوف تنقلب انقلابا حادّا مع مجيء الحركة الرومانسية، حيث صار مهمّة نظرية قائمة بنفسها أن يتمّ تذيل الهند منزلة فلسفية تخصّها. لقد بدأت الهند - بعض الوقت - تنافس اليونان في لعب دور سرديّ نموذجيّ بالنسبة إلى المبدعين، ومن ثمّ بالنسبة إلى تمثّل الغربيين لهويتهم العميقة، إمّا سلباً أو إيجاباً.

مع هيغل صار الشرق بعامة عيباً تأمّلياّ: كلّ ما هو «شرقي» هو «غير مبالٍ ذاتيّاً» أو هو يجهل مبدأ الذاتيّة. وبهذا المعنى كان أقصى اتّهام فلسفيّ يمكن رفعه ضدّ سبينوزا هو كونه سقط في «بانثيوسيّة» الشرقيين، حيث لا «ذاتيّة» للطبيعة بل هي جوهر محض، عمى ميتافيزيقي نائم فوق كلّ روح متناه. وبهذا المعنى أتى هيغل إلى وصف «مطلق» شيلنغ، أي معرفة «الواحد» حيث يكون الكلّ مساوياً للكلّ، بأنّه أشبه شيء بـ «الليل حيث يكون كلّ البقر أسودا» كما يقول في تصدير «فينومينولوجيا الروح».

فجأة صار الهند تحدّيا رومانسيّا لا يمكن تفاديه: فهو إمّا تهمة تأمّلية أو هو مصدر إلهام استثنائي. تهمة ملقاة في وجه شيلنغ ومصدر إلهام يفتخر به شوبنهاور.

ففي رسالة بتاريخ 18 /‏‏‏‏ 12/‏‏‏‏ 1806 يقول شيلنغ:» إنّ ترميم الوحدة بين الشرق والغرب هو المشكل الأكبر الذي يعمل روح العالم الآن على حلّه. إذْ ماذا هي أوروبا إنْ لم تكن الغصن العقيم في ذاته الذي يدين بكلّ شيء إلى تطعيمات شرقية ولا يمكنه أن يكتمل إلاّ بفضلها ؟..إنّ ما ينبغي فعله هو إعادة التواصل الحرّ والمفتوح مع الشرق». وبهذا المعنى كان شيلنغ يشيد بأهمّية البحث في الأصل الشرقي للمنحى الصوفي لدى اليونان.

بل أكثر من ذلك: ففي الدرس السابع من مؤلّفه فلسفة الميثولوجيا 4 يذهب شيلنغ (منطلقا في ذلك من ملاحظات أ. و. شليغل و. فون هومبولت) إلى حدّ اختراع نسب فيلولوجي مطمور بين كلمة «المايا» (Mâyâ) السحرية في ثقافة الهند وبين اللفظة الألمانية «Mögen» (القدرة، الاستطاعة)، بحيث يخلص إلى أنّ «المايا» الهندية إنّما تعني شيئا من قبيل «الإمكان» (Möglichkeit) و»السلطان» (Macht) و»القدرة» (Mögen)، وكلّ ذلك يجتمع في معنى «agia»، أي «السحر».

لكنّ «شرق» شيلنغ في فلسفة الميثولوجيا التي طوّرها كمفتاح لقراءة تاريخ العالم هو لا ينحصر بالضرورة في الهند: إنّ مصر القديمة هي عنده أهمّ دلالة تأمّلية من الهند 6. وضدّ «الهوس الرومانسي بالهند» يتساءل شيلنغ مستنكرا في الدرس العشرين من هذا المؤلّف :» أيّ معنى لأن نتخيّل الهند باعتبارها الموطن الأصلي للثقافة وللأفكار الدينية ومن ثمّ لكلّ الميثولوجيا ؟»

في الدرس الرابع والعشرين من كتابه فلسفة الميثولوجيا، نحن نعثر على إجابة تأمّلية مفصّلة عن تصوّر شيلنغ لمنزلة الهند في تاريخ روح العالم. – هو يقرّ أوّلا بأنّه لا وجود إلاّ لثلاث ميثولوجيات هي على التوالي المصرية ثمّ الهندية ثمّ اليونانية. وإنّه في ضوء مقارنة داخلية مع ما هو مصري وما هو يوناني إنّما يمكننا أن ننفذ إلى ما هو هندي.

يقول شيلنغ:» ثمّة شيءٌ موحش (unheimlich) وشبحيّ (geisterhaft) في الكينونة الهنديّة برمّتها، كما في الآلهة الهنديّة. إنّ الطابع المادّي للميثولوجيا إنّما يمّحي في عين الوعي الهندي، تماما مثلما أنّ الهنديَّ نفسه هو نفسٌ أكثر منه جسداً...إنّ الهنديّ هو بالأخصّ نفسٌ، فإنّ جسده لا يضمحلّ فقط مع حكمه الأخلاقي، بل إنّ تبعيّته الماديّة حتّى تجاه جسده هي أقلّ ما تكون. لا أحد يأخذ الموت أو يتقبّله بهذا القدر من الاستخفاف (Leichtigkeit) مثل الهنديّ..إنّ النفس تصعد هنا كما على السطح؛ ولم يعد الجسد بالفعل سوى مظهر فقط، وهو لا يطفو إلاّ مثل حلم في وعي الهنديّ. وما يقرّه الهنديّ في فلسفته، من أنّ العالم المحسوس هو وهمٌ وظاهرة انتقالية، إنّما يترجم نفسه عليه، في مظهره الخارجي، الفيزيائي. إنّ الجسد بالنسبة إليه هو مثل لاشيء (wie nichts)، ما هو سوى أداة طيّعة، يفعل بها ما يشاء.»

علينا أن نقرأ هذا المقطع باعتباره طريقة فلسفية متوارية في ردّ التهمة الرومانسية التي تتعلق بالعلاقة مع التراث الهندي. وقد بذل شيلنغ وسعه في تقديم «النفس» وكأنّها اختراع هنديّ، والحال أنّ تاريخ النفس من أفلاطون إلى المسيحية، ومن أغسطين إلى ابن سينا وديكارت هو أمرٌ معروف لدى الفلاسفة الألمان قاطبة. إنّ مغزى الإلحاح على بتر «النفس» الهندية عن أيّ استمساك أخلاقي بالجسد هو إبراز هشاشتها الأنطولوجية. إنّها حسب شيلنغ تشبه «شعاعاً يمكن أن ينطفئ عند أوّل نفخة»11. وينسحب هذا الحكم على فكرة الجمال عند الهنود: إنّه «شاكونتالا»(Shakuntalâ): «ما يمكن أن نقول عنه إنّه عمل أنجزته النفس لوحدها، من دون تدخّل الإنسان». هي نفسٌ مشتّتة، فقدت جسدها، ولهذا هي تعوّل على صرف النفس نحو تأمّلات بلا جسد، يسمّونها «يوغا»، وتحرّر كامل يسمّونه «موكشا» (oksha)، نحو الانقراض التام في «الإله»، هو ضربٌ من «الامتصاص والإعدام الجوهري للكائن البشري» يشبه «النوم» 13 الميتافيزيقي.

وبالمقارنة مع المصريّ القديم، يبدو الهنديّ متعلّقا بكلّ ما هو «هشّ» في كينونته. يقول شيلنغ:» بالنسبة إلى المصريّ، يظلّ الجثمان الخالي من الحياة مقدّساً، في حين أنّ الهنديّ إنّما يسعى بكلّ قواه إلى تدميره بأسرع وقت ممكن وإلى ردّه إلى عناصره بواسطة الوسيلة الأكثر إبادة.» 14 ذلك بأنّ الخلاص عند الهنود لا يتمّ إلاّ في أبديّة انتصرت فيها النفس على كلّ الحواس وعلى العالم واتّحدت مع العنصر الإلهي. والخلاص يعني أنّ هذا الإنسان صار قادرا على ألاّ يعود إلى منزلة الفانين: «من يتّحد بالإله، لا يعود» 15، أي لا يكرّر وضعيته البشرية المعذّبة مرة أخرى (حسب عقيدة التناسخ)، وينعتق من أطوار الولادة. ولذلك يبدو الهندي في لحظة «امّحاء» مستمرّ: لحظة «النفس» التي لم تبلغ إلى مرتبة «الروح» اليونانية، كما أنّها لا تتمتّع بمادّية «الجسد» المصري. وفي حين تبدو آلهة اليونان «كيانات روحية جسدية»، تبدو آلهة الهند «كيانات شبحية»، أمّا آلهة مصر فهي «كيانات جسدية» 16. وحسب شيلنغ فإنّ الميثولوجيا الهندية هي أكثر الميثولوجيات الثلاث شقاءً وأكثرها ضياعا.

في هذا السياق تحديدا يكشف شيلنغ عن الحكم المسبق «الغربي» الذي ظلّ يخفيه طيلة التحليلات السابقة: إنّه المقياس اليوناني باعتباره أداة الحكم على جميع أرواح الثقافات الأخرى. والشعار الصامت هنا هو: كلّ الشعوب لا معنى لها إلاّ في ضوء المعجزة اليونانية. ما هو يوناني هو نموذج كلّ ما هو إنساني بعامة.

يصرّح شيلنغ بذلك قائلا دون مواربة: « إنّ ما يميّز الهند في ديانته وفي فلسفته، كما في نحته وشعره، هو النفس. لكنّ ما ينقصه، وما يفسّر إلى حدّ كبير وجوه الفقر في كينونته- سواء نظريّا أو عمليّا- ما ينقصه هو روح الإغريق.» فبالمقارنة مع الميثولوجيا المصرية تبدو الأساطير الهندية مقطعة الأوصال، بلا وحدة؛ أمّا بالمقارنة مع الميثولوجيا اليونانية فهي تبدو بلا روح. وفي ترتيب غريب، يفرضه شيلنغ فرضاً تأمّلياّ، يبدو تاريخ العالم بمثابة متوالية من الشعوب التي لا يربط بينها غير مصير «الإنسانية» نحو قدرها الكبير، بحيث أنّ كلّ شعب «يأخذ على عاتقه» مصير الشعب السابق ولكن انطلاقا من «بدء» جديد يخصه. وبهذا المعنى هو يقول صراحة:» نحن يمكننا القول بأنّ الشعب الهندي قد ضحّى بنفسه أو جعل نفسه قرباناً (zumOpferwerden) من أجل الشعب اليوناني الذي هو أقرب الشعوب إليه. إنّ الشعب اليوناني إنّما يبدأ لأوّل وهلة بالحرية إزاء القوى الخارقة، تلك الحرية التي لم يبلغها الشعب الهندي إلاّ بعد صراع مرير. ولهذا السبب هو يمكنه أن يعود إلى العالم المادي الذي يكتفي الشعب الهندي بمجرد العلاقة معه.»

ربما أفلح شيلنغ في دفع تهمة النسب الهندي عن فلسفة الميثولوجيا التي أسّسها، ومن ثمّ نجح في إثبات نسبها «اليوناني» وتأكيد ولائه للتقليد الأوروبي الرسميّ منذ عصر النهضة، أي الولاء للكلاسيكية اليونانية-الرومانية كبرنامج وحيد وحاسم للحداثة. لكنّ ذلك ليس نصرا فلسفيا محضا، بل هو جزء من سياسة الخطاب الهووي للغرب في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر: اليونان ضدّ الهند. ليس كمجرّد قرار سردي بل كقرار يدخل في تأويلية الذات العميقة للأوروبيين.

انقلاب

في ضوء هذا الموقف الهووي بالتحديد إنّما تسطع طرافة موقف شوبنهاور (ونيتشه في معجم مغاير) في قلب هذا الجدل حول أصل الغرب.

ففي تصدير الطبعة الأولى (1818) من كتابه العمدة العالم إرادةً وتمثّلاً ينبّه شوبنهاور إلى أنّ قارئه لا يمكنه أن يُقْدم على قراءة كتابه إلاّ إذا سبق وتوفّر على ثلاثة شروط أساسية : أوّلا معرفة فلسفة كانط؛ وثانيا تهيئة نفسه من خلال تعاليم أفلاطون؛ أمّا الشرط الثالث فهو معرفة التراث الهندي. وهو لئن قدّم الشرطين الأوّلين باقتضاب واضح، فإنّه تعمّق في تفصيل الشرط الثالث على نحو مثير.

قال:» أمّا إذا كان القارئ قد نال حظّا من صنيع وبركات كتب الفيدا المقدّسة Vedaالتي كان المدخل إليها من خلال كتب الأوبانيشاد (dieUpanishaden) وهو ما يعد في نظري أعظم إنجاز يمكن أن يتباهى به هذا القرن الشاب الذي لا يزال ناهضا على غيره من القرون السابقة؛ إذ أنّني أعتقد أن أثر الأدب السنسكريتي سوف يتغلغل بعمق لا يقلّ عن عمق إحياء الأدب اليوناني في القرن الخامس عشر- أقول إذا كان القارئ قد تلقّى أيضا واستوعب تقديس الحكمة الهندية القديمة وتقبّلها، فإنّه سيكون أفضل شخص مهيّأ لأن يسمع ما سأقوله له. فعملي عندئذ لن يتحدث إليه- مثلما يتحدث بالنسبة لبعض الهنود- بلسان غريب عليه وربما عدائي بالنسبة له؛ إذ أنني بمقدوري التأكيد- ما لم يتبدّ في ذلك كثير من الزهو- على أنّ كلّ حكمة بمفردها وعلى حدة من مجمل الحكم التي تتألف منها كتب الأوبانيشاد، يمكن استخلاصها كنتيجة من الفكر الذي أودّ الإفصاح عنه هنا، بينما العكس غير صحيح على الإطلاق، وهو القول بأن فكري الوارد هنا يمكن التماسه في كتب الأوبانيشاد.»

يتعلق الأمر مع شوبنهاور بشيء مثل الانقلاب في براديغم الهند الفلسفية: من تهمة تأمّلية (كما نرى ذلك لدى هيغل وشيلنغ) ينبغي رفعها محافظةً على الدور الهووي الذي يلعبه اليونان في تشكيل التاريخ أو النسب الأخلاقي لأوروبا الحديثة، هو قد صار مع شوبنهاور إلى مصدر إلهام حاسم لإبداع فلسفي كوني جديد في أفق الغرب. وهو ما استجمعه شوبنهاور في إشكالية «العالم بوصفه إرادةً وتمثّلا». فإنّ أطروحة أنّ «العالم تمثّلٌ» من تمثّلاتنا وليس له أيّ وجود مستقلّ عن إدراكنا إنّما يرجعها شوبنهاور صراحة إلى «المبدأ الأساسي لفلسفة الفيدانتا (Vedânta)» وأنّ «خطأ كانط الأوّل هو إغفاله لهذا المبدأ»21. لا يقف شوبنهاور عند التقليد الحديث في فهم «التمثّل» كما استعمله ديكارت أو كانط (علاقة العقل بالموضوعات الخارجية من خلال تصوّرات مطابقة) بل هو يعود به إلى باركلي (أنّ العالم الخارجي هو غير موجود خارج إدراكنا) من أجل تفجيره بواسطة ما يقوله حكماء الهند عمّا يسمّونه «حجاب المايا». إنّه يدفع بمعنى «التمثّل» إلى مفهوم «الحلم»: إنّ العالم واقعة يلتبس فيها الفاصل بين الواقع والحلم. إنّ العالم هو أحد أحلامنا. وبهذا المعنى فإنّ «مظاهر» «الخداع» هي جزء من «حقيقته».

وهذا الأمر له حسب شوبنهاور تاريخ ميتافيزيقي طويل عبّر عن نفسه في: صيرورة هرقليطس وازدراء أفلاطون للمحسوسات وأعراض سبينوزا وظواهر كانط..ثمّ يقول:»وأخيرا في الحكمة القديمة للهنود التي تقول إنّ المايا (Mâyâ، Maja)،حجاب الوهم، هي التي تطمس أعين الفانين، وتجعلهم يرون عالماً لا يستطيعون أن يقولوا عنه إنه يكون أو لا يكون؛ لأنه أشبه بحلم،...ولكن المعنى المقصود...ليس شيئا آخر سوى ما نتحدث عنه الآن، أعني العالم بوصفه تمثّلا خاضعا لمبدأ العلة الكافية».

ويقول:» وهنا تتبدى لنا حقّا في وضوحٍ الصلةُ الوثيقة بين الحياة والحلم. ولن يعترينا الخجل من الاعتراف بتلك الصلة بعد أن أدركها وعبّر عنها العديد من الرجال العظام. إنّ كتب الفيدا وأشعار البورناس لا تجد ما هو أفضل من كلمة الحلم كتشبيه لمجمل معرفتنا بالعالم الفعلي الذي تسمّيه حجاب المايا (dasGewebederMaja)، وهي تستخدم بصورة متكررة كلمة اللاشيء. وكثيرا ما يردد أفلاطون قوله إنّ الناس يعيشون فقط في الحلم، أما الفيلسوف وحده، فيجاهد ليبقى متيقظا.»

علينا أن نأخذ الجدول المفهومي الذي يريد شوبنهاور بناءه: إنّ نظرة المحدثين إلى العالم «بوصفه تمثّلا» هي أخطر من مجرّد أطروحة ترنسندنتالية تبني «موضوعية» الموضوعات على «مقولات العقل» البشري بشكل قبلي، بحيث أنّ معرفتنا هي في الحقيقة لا تتعدى «الظواهر» أمّا «الأشياء في ذاتها» فتظلّ موصدة دوننا، كما حاول كانط أن يقنعنا. بل إنّ العالم هو تمثّل محض حقيقةً، إنّه إدراكنا فحسب. وبهذا المعنى فإنّ «القرابة بين الحياة والحلم» هي أكبر من كلّ ما نتصوّره إلى حدّ الآن. العالم هو حلمنا، أي هو «لاشيء» بمعزل عن إدراكنا له. ومن ثمّ فالعالم هو أيضا في نفس الوقت وبنفس القدر «إرادتنا». هذا الوضع الفلسفي المزدوج حدا ببعض الدارسين إلى التساؤل عن إمكانية إرجاع عنوان كتاب شوبنهاور إلى شخصيتين مفهوميتين أساسيين في الثقافة الهندية: «برهمان-العالم بوصفه إرادة ؟ مايا- العالم بوصفه تمثّلا ؟»

إنّ العبرة الفلسفية هنا هي أكثر خطورة من مجرّد فضول استشراقي لدى فيلسوف رومانسي. بل إنّ ما يبحث عنه شوبنهاور في التراث الهندي هو مقام إشكالي يمكن من خلاله تحرير الثقافة الأوروبية من سرديتها الهووية، تلك القائمة على «العقل» اليوناني و»التكوين» اليهودي-المسيحي أي على التأسيس والسببية أو الطمع المعرفي في فرض خطاطة العلاقة علة ومعلول في كل شيء. إنّ القصد هو الكفّ عن محاسبة العالم بواسطة العقل السببي والبحث عن نمط آخر من الخلاص الفلسفي: الخلاص بلا سببية. ومن ثمّ التخلّص من عادة الغربيين في تحديد «أصل» و»غاية» لوجودنا في العالم أو للعالم نفسه. يقول شوبنهاور: «إنّ الفلسفة الراهنة التي نقدّمها هنا لا تسعى على الإطلاق إلى معرفة من أين أو لأيّة غاية يوجد العالم، وإنما تسعى فحسب إلى معرفة ماذا يكون العالم».

براءة العالم، هذا هو ما عثر عليه شوبنهاور في ثقافة الهند وما عدمه في حداثة أوروبا حيث حصر الفلاسفة أنفسهم في «تمثيل» العالم. ما هو مطلوب هو تجريد النظر تماما من العالم –التمثّل من أجل أن ينكشف العالم- الإرادة . بل على عالم- التمثّل أن يقف عند دور «المرآة» التي في نطاقها يمكن لعالم-الإرادة أن يعرف نفسه. وذلك يعني من الناحية الفلسفية: « الإثبات الكامل لإرادة الحياة»، إرادة تظلّ ثابتة لا تتغيّر، على نحو تكون، حسب شوبنهاور، إرادة المحمّديين: إنّ الطريق إلى «جنّة محمّد» كثيرة، بعضها من «عالم الواقع» وبعضها من «عالم الخيال»، لكنّ شكل الإرادة «يظلّ هو هو». ومع ذلك فالعاميّ في كلّ عصر ومكان هو لا يرى إرادته، ولا يرى إلاّ عالم الظواهر أي عالم التمثّل. وبعبارة شوبنهاور:» إنّ نظرة الفرد العامي هي مضطربة، كما يقول الهنود، بسبب حجاب المايا: فبدلا من الشيء في ذاته [أي الإرادة]، لا تنكشف له إلاّ الظواهر». نحن «مغلّفون بحجاب المايا» وليست الإرادة في أيّ مستوى من وجودنا إلاّ شكل الحياة الحرة حيث لا تعني أكثر من رفع حجاب المايا 33 والنظر لمرة واحدة في عين العالم بلا تمثّل، نعني النظر إليه في اتّحاد عميق وكأنّها جزءٌ من أنفسنا.

لكنّ شوبنهاور لئن نجح في تحويل تراث الهند إلى مصدر إلهام فظيع في فلسفته، فهو ليس سعيدا بهذا الإنجاز. إنّه لا يخفي مرارة ميتافيزيقية من طريقة الغرب في التعامل مع الهند: ما كان يريده في أعماقه هو النهج على ما كان يفعله اليونان مثل بيثاغورس وأفلاطون في الاستلهام من مصر القديمة. لكنّ سياسة الاستعمار لها منطق آخر. قال في سخريته المعتادة :» أمّا نحن، فنرسل إلى البراهمان بالقساوسة (clergymen) الانجليز وبتجّار القماش..من أجل أن يقوموا، على سبيل الشفقة، بهدايتهم إلى الطريق المستقيم...لكنّ ما يحدث معنا هو نفس الذي يحدث مع من يطلق النار على الحجر. أبداً، لن تجد دياناتنا جذوراً لها في الهند؛ والحكة الأولى للنوع الإنساني لن تحلّ محلّ تلك التي نشأت في الجليل. لكنّ الحكمة الهندية، التي دفعت بمدّها مرة أخرى نحو أوروبا، لابدّ لها وأن تحدث تغييراً أساسيّاً في نمط المعرفة والتفكير التي لدينا».

حكى الشاعر الألماني هينريش هاين (ت. 1856)، ذات مرة قائلاً: بالأمس كان البرتغاليون والهولنديون والإنجليز يعودون بكنوز الهند على سفنهم، بينما ظلّ الألمان متفرّجين؛ أمّا اليوم، وهو يعني النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، فإنّ كتّاباً مثل شليغل وهومبلوت وآخرين هم، على حدّ قوله، «ملاّحونا الأشدّاء نحو بلدان الهند الشرقية. وإنّ بون وميونيخ سوف تكونان مستودعاتنا الفكرية».

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...