الفيسبوك يمزق كينونة العامة
الممكن حين تستقر ماهيته في الرغبة يتحول إلى فكر، والفكر هو فكر الوجود: «الفكر تفكير في الوجود، ما دام ينتمي إلى الوجود فهو يصغي له». فماهية الإنسان لا تعني سوى العلاقة التي للإنسان بالوجود، ولذلك فالإنسان عندما يدير ظهره للوجود فإنه يضحي بماهيته، أي بنزعته الإنسانية، لكن ما علاقة الفيسبوك بالنزعة الإنسانية؟ وهل يساهم في نشرها؟ أم يقود إلى انهيارها؟ وكيف يتم استغلال الفيسبوك من قبل أعداء هذه النزعة؟
لقد أصبحت الفلسفة في نزاع دائم مع التيار العدمي، ويبدو ذلك من خلال ردة فعل هذا التيار، الذي يسعى إلى الهيمنة بواسطة العنف الرمزي، ولذلك: «أضحى يلاحقها الخوف من ضياع إشعاعها إذ هي لم تصر علما». ولعل هذا الخوف نفسه هو الذي كان سائدا في عهد السوفسطائيين، الذين كانوا يدّعون بأنهم يصنعون كل شيء، حتى الحذاء الذي يلبسونه، ولذلك كان الفكر يعيش تحت رحمتهم. فمهمة الفلسفة الآن، حسب رسالة هايدغر، هي السعي إلى إرجاع الفكر إلى عنصره كونه، «نزعة عقلانية». بواسطة ذلك الفهم اليقظ الذي تنتجه اللغة، إذ من خلال اللغة أمكن للفلسفة أن تتساءل؛ هل ما زال بإمكان النزعة الإنسانية أن تعود من جديد؟ وهل ما زال الحب هو الحب، والجمال هو الجمال؟ أم أن التقنية مزقتهم؟
لقد كانت النزعة الإنسانية في طريقها نحو الأفول، لو لم تتدخل الفلسفة بقوة من أجل حمايتها، فمع العودة الرائعة إلى الفن، كما دشنته ما بعد الحداثة التي اعتمدت على نيتشه، أصبح الحديث ممكنا عن النزعة الإنسانية من جديد. هكذا تحولت إقامة الإنسان بجوار العمل الفني، أي المسرح، والسينما، والموسيقى، والرسم، فجعل الإنسان إنسانا يستقر في ماهيته، لا بد من الفكر الفلسفي الذي يروم إعادة تشييد الإنسان في ماهيته، ولذلك يتساءل هايدغر قائلا: ما هي غاية الهم « le souci » إذا لم تكن هي إعادة بناء الإنسان داخل ماهيته؟ وكيف يكون ذلك ممكنا بدون تدخل الفلسفة؟
كلما كانت الثقافة متأثرة بالمدارس الفلسفية، اختصت بالتنقيب في الفن والجمال، هكذا تكون النزعة الإنسانية نزعة ثقافية وفنية، والشاهد على ذلك أن عصر النهضة بدأ يميز بين النزعة الإنسانية والنزعة البربرية، انطلاقا من العمل الفني، الذي مجد الحرية، وقد انتقل هذا التمجيد إلى الرومانسية الألمانية، عندما انتشرت في الشعر والموسيقى والفلسفة. إنها تجليات الروح، لأن الروح لا تكون روحا إلا عندما تدرك ذاتها في الفن، وتصبح بذلك تتمتع بالأبدية، ولذلك نجد سقراط يتساءل قائلا: «ألا تدرك أن نفسنا خالدة وأنها لا تفنى أبدا»، أما نيتشه فإنه يأمل في أن تكون الحياة خالدة: «أنا أريدك لأنك أنت الحياة الخالدة». لكن هل بموت الفن سيموت الإنسان؟
جاء في كتاب «الأستطيقا» لهيغل أن كل الفنون ستموت، موت الفن، بيد أن: «الشعر سوف يعيش أطول من العلوم والفنون الأخرى»، ذلك أن الشعر يذهب في اتجاه الإنسان، إذ يكشف عن النمو الروحي للإنسان. ومع ذلك: «فالشعر غريب في هذه الأرض، يتبع النداء الذي ينكشف له ويجعله سائرا في الطريق إلى امتلاك وجوده. هكذا تكون الإقامة الشعرية في الشعر مجرد اغتراب للروح في العالم، لأنها تمتزج بالجسد المحسوس: «وإذا حدث أن ظهرت في المحسوس، فإنما تكون ضالة، لأنها تنتمي إلى المفارق للمحسوس، فهي غير قابلة للفساد». وربما يكون هذا الانتماء إلى العالم الحسي، هو السر في اغترابها: «والغريب هو الذي لا يكلمه أحد، يثقل ويقلق بحضوره.. إنه المتجه إلى العالم الآخر». لكن ألا يكون هذا المكان الآخر هو الفلسفة؟ يقول أفلاطون: «منذ أن نوجد نكون دائما في الفلسفة» فالفلسفة تذكّر والجهل نسيان، ولذلك من يريد أن يكون سعيدا، لا بد أن يتفلسف، لكي يتذكّر ماهيته، إذ لا أحد يستطيع أن يهرب من نفسه، أينما وجد الإنسان فثمة الفلسفة: «والفلسفة لا تتطلب سوى الصحة والخلوة وكتب وأوراق وقلم» إنها نعمة لمن يعرف قيمتها، لكن من عادة المنحطين احتقار الفلسفة وتمجيد الثروة والسلطة والشهوة، فهؤلاء النوابت، بلغة الفارابي، «كالشوك الضار للزرع».
فهم يجعلون لاكتساب الشهوات الحسية أهمية تفوق العناية بنفوسهم وطباعهم وأخلاقهم.فالهروب من الفلسفة هو مجرد هروب من «الفيلين»، أي المحبة، ولذلك أن الذي لا يحب نفسه، فكيف يمكنه أن يحب «السوفون»، أي الحكمة؟ فحياته خالية من التأمل، لأنه حطم عقله، وأضحى كالحيوان، وأخشى أن يتحول الفيسبوك إلى مدرسة للأغبياء من أجل تعميم النزعة اللاإنسانية، والشاهد على ذلك أن أغلب الأصدقاء أعداء في الحقيقة، خاصة أولئك الذين أعمى الدين والجهل بصيرتهم«ينبغي أن تعود إلينا، إن وجهك شاحب وعينيك يمزقهما الخوف، هل تحب الحياة؟ أنت فيها ولكنك غريب عن طبيعتك، عن نفسك، يجب تعود»، لأن الإنسان أصبح يحيا فيسبوكيا في هذا العالم.
- عزيز الحدادي
إضافة تعليق جديد