وليام الفاتح: أول ملك فرنسي على انجلترا
نجحتْ إنجلترا في مقاومة غزو الفايكنج لقرون، وصمدت خلال الحروب الداخليّة الدامِيَة، حتى فقدت استقلاليّتها على يدِ شابٍ فرنسيّ في الثلاثينات من عمره؛ حيث قتلَ آخرَ ملوكِها الأصليين، وبدأ عصرًا جديدًا من حكم فرنسا على إنجلترا، وسبّبَ عداوةً دامت لقرونٍ بين البلدين.
ابتُليت إنجلترا بجحافلٍ عظيمةٍ من محاربين أقوياء، جاؤوا بالألوفِ كَسَيْلٍ من جرادٍ جائعٍ من أقصى شمال أوروبا -الدنمارك والنرويج بالتحديد- بأجسادٍ ضخمة مثل الثيران، وعيونٍ غاضبةٍ مثل الأسود، وقلوبٍ وثنيةٍ لا تعترف بالرحمة أو التعاطف، ولا تحترم الدين أو تعرف الإنسانية، وبثيابٍ ممزَّقةٍ تكشف بِنيَتَهم القويّة وتثير الرعب في خصومهم، يحملون دروعًا غريبةً في أياديهم، و يرتدون خوذاتٍ مصنوعة من بقايا الحيوانات، فارّين من برد الشمال القارص وندرة الموارد وقلة الأراضي الزراعية، متجهين بهدفٍ واحدٍ نحو سهول إنجلترا الخضراء، حيث الأنهار والمواشي والجو الدافئ نسبيًا. وبينما كانت إنجلترا مقسمةً لأربعة ممالك متناحرة، تَوَغَّل محاربو الشمال داخل إنجلترا بسرعةٍ مذهلة، وعُرِفوا فيما بعد بـ “الفايكنج Viking”، وظلَّ هذا الخطرُ يهدد إنجلترا لـثلاثمائةِ عامٍ من 793م حتى 1066م.
بعد عدد من الغارات على فرنسا، اتّجه بعضُ محاربي الفايكنج إلى مقاطعةٍ في جنوب فرنسا على الساحل المقابل لإنجلترا، واستقروا هناك، فتعلّموا الفرنسية، واعتنقوا المسيحية فيما بعد، وأشهرهم المحارب رولو، وعُرفوا بالـ “نورمان Normans” نسبةً لأصولِهم الشمالية Men of The North، وسُمِيَت المقاطعةُ باسمهم “نورماندي”، وبالرغم من أن النورمان لم يَعتبروا أنفسَهم فرنسيين، إلا أنهم كانوا تابعين لملك فرنسا، ويدينون له بالولاء. وما إن تخلَّصت إنجلترا أخيرًا من الخطر الشمالي وعاشت فترةً من السلام والوحدة، حتى جاءهم “غزو النورمان Norman Conquest” في 1066م، على يد “وليام الفاتح” دوق نورماند بعمرِ الثمانية والثلاثين.
الابنُ غير الشرعي للشيطان
“أميرٌ من مقاطعةِ نورماندي في جنوب فرنسا، يعيشُ حياةً من الفسادِ والقتلِ والنَهب، ينشر الرعب والذعر بين الناس، ويقتل رجال الدين، كرضيعٍ قام بعضِّ مربيته وقطع شعرها، كمراهقٍ قَتَل معلِّميه، وبِسِنّ العشرين أصبح قاطع طريق ومجرم. حاول الجميعُ اتّقاءَ شرِّه وكَسْبَ مودّتِه. حصَلَ على لقب “الفارس”، على أملِ التغلُّب على نزعة العنف والشر داخله، لكنّها زادت من جبروته وشره. يخافه الجميعُ، ولا مقابل لشجاعته وقوته، يُمكنه التغلُّب على أيِّ معارضٍ أو منافِس؛ فقد قتَلَ ثلاثين رجلًا في مواجهةٍ واحدة من قبل، وبعد رحلة ملعونة حول العالم ارتكب فيها كل الآثام الممكنة، عاد إلى بلدته في نورماندي، ثم قَتَل الراهبات في إحدى الأديرة، وعاد إلى منزله ليقابل أمه، فراع في عينيه ما رأى من الرعب والخوف في وجوهِ الخدم، وكيف هربوا من طريقِه ولم يجرأ أحدٌ حتى على مخاطبته، ولأوّلِ مرةٍ يقعُ في نفسِه ما ارتكبه من آثامٍ وجرائم، وشقَّ قلبَه بسكينٍ من الندم، فأسرع إلى أمّه يسألها لماذا أنا هكذا، ما كل هذا الشر، من أنا، ومن جعلني هكذا، ثم أخرجَ سَيفَه مجبِرًا أمّه على كشف الحقيقة، فتخبره أنه ابن الشيطان؛ فيسقط في نوبةٍ من الحسرة والألم، ويتَملَّكه العارُ والحزن، لكنه لا يستسلم للإحباط، ولا يقنط من رحمة الله، فيشقُّ طريقَه إلى الأراضي المقدسة في الفاتيكان، وينزل تحت قدم البابا يسأله المغفرة والرحمة، ويدعُ الله أن يغفرَ له ما اقترف في حقِّ الرب والناس، ثم يقضي ما تبقّت له من أيامٍ في طاعة الله وخدمة عباده الصالحين والدفاع عن الأراضي المقدسة، حتى يموتُ قدسيًا زاهدًا رافضًا كل الألقاب والعطايا، ويلقى ربّه، علّه يغفر له حياةً من الإثم والخراب”.
انتشرت أسطورة روبرت الشيطان بشكلٍ واسعٍ في القرون الوسطى، والتي كانت فترةً خصبة لمثل تلك القصص، ولكن العديد من المصادر والمؤرّخين يصفون روبرت “العظيم” الدوق السادس لنورماندي ووالد “وليام الفاتح” بالمقصود من القصة؛ فقد عاش حياةً ليست بالمثالية، شنَّ خلالها حربًا ضد شقيقه من أجل الحكم، لكنه فشل، ومات شقيقُهُ مسمومًا بعدها بعامٍ، فكان المُتّهم الأول، والمستفيد الأوحد، ويُقال أنه قام بتسميم شقيقه، وقد فاز أخيرًا بمنصب دوق نورماندي، كما شنَّ حربًا شرسةً على كلِّ من دعموا شقيقه من قبل، ومهنم العديد من رجال الدين والكنيسة، وأبرزهم عمّه رئيس الأساقفة؛ مما أدّى إلى غضب الفاتيكان ونبْذ مقاطعة نورماندي بكاملها بسبب حاكمها، حتى رضَخَ روبرت وأعادَ الأسقفَ إلى منصِبِه، وأنجَبَ ابنًا واحدًا غير شرعي، أطلقَ عليه “وليام”، وقام بتعيينه وليًا للعهد، وبعدها ذهب في رحلة أخيرةٍ للحجِّ في الأراضي المقدسة في القدس للتكفير عن ذنوبه، ولم يعُدْ منها؛ حيث مات في طريق العودة عام 1035م، تاركًا طفلًا بسنِّ الثامنة يخلفه في منصبه، ليصبح فيما بعد وليام الفاتح أو العظيم، وأحيانًا وليام غير الشرعيّ (The Bastard) لأعدائه.
حاصرت المشاكلُ والصراعاتُ الطفلَ وليام بعد وفاة والده؛ فقضى طفولةً مروّعةً وصعبة، في البداية لأنه ابنٌ غير شرعي؛ مما فتح المجال للطامعين لأن يرفضوا حكمه، ومن ناحيةٍ أخرى لأنه طفلٌ لا يمكنه تولّي الحكم، فتمَّ تعيين أكثر من وصيٍّ على الطفل على مدار السنوات، وخلال ذلك قامت التمرُّدات والخلافات بين النبلاء، وتوسَّع كلٌّ منهم في بناء القلاع ومهاجمة الأراضي المجاورة، مستغلّين ضعف الدوق الصغير وانشغال الأوصياء عليه في تحقيق مكاسبهم الشخصية، حتى بدأت سلسلةٌ من الاغتيالات لهؤلاء الأوصياء، في صراعٍ للسيطرة على الدوق الصغير، حتى وصل الدوق لسنِّ الخامسة عشر وحصل على لقب فارس من ملك فرنسا، معلنًا صلاحيته في تولّي الحكم بنفسه، فحرص على اختيار معاونين ومساعدين من نفس سنّه ليضمن ولاءهم وصداقتَهم لأطولِ فترةٍ ممكنة، وبدأ رحلةَ تصفيةِ الخلافات، والقضاءِ على التمرد، وفرْضِ سلطتَه على النبلاء؛ ممّا دعى بعضُهم إلى الثورةِ، فحاولوا خلعه من منصبه وتعيين قريب له، حتى أن الدوق الشاب هرب من مقاطعته، وطلب مساعدةً ملك فرنسا.
بسبب العلاقات المميّزة بين والد وليام وملك فرنسا، وافق الأخيرُ على تقديم العون، وبحلول عام 1047م انطلقَ جيشٌ ضخمٌ بقيادة ملك فرنسا هنري الأول ووليام دوق نورماندي، حيث سحقَ وليام أعداءه، وبسَطَ سيطرته أخيرًا للأبد. خلال سنوات، امتدّت قوتُه ونفوذُه إلى حدٍ مذهلٍ، وتوسّعَ بأراضيه وأملاكه، حتى أن ملك فرنسا خَشِي قوتَه بعدها، وبدأ وليام بعد ذلك في النظر إلى ما اعتقدَ أنه حقّه الشرعي في العرش الإنجليزي.
محتلٌ أم ملِكٌ شرعيّ؟
استدعى ملكُ إنجلترا “إدوارد المعترف” وليام دوق نورماندي -أحد أبناء عمومَتِه- إلى إنجلترا، مُستقبِلًا الدوقَ الشابَ استقبالَ الملوكِ، في الصرحِ الملكيّ عام1051م، ثم عادَ الدوقُ إلى بلادِه بسلام. اختلف المؤرّخون في سبب استدعاء الملك للدوق وليام من فرنسا، لكنَّ أغلبَهم ذهب إلى أن الملك قرَّر أن يكون وليام ولي العهد، خاصةً وأن الملك إدوارد لم يُنجبْ، وخشية أن يستولي أعداؤه على العرشِ بعد وفاته، علاوةً على ذلك، يُعتقد أنه كان يريد ردَّ الجَميلِ لأقاربه النورمان، الذين أحسنوا إليه، وساعدوه في منفاه من قبل أن يصبح الملك، ومنهم روبرت “العظيم أو الشيطان” والد وليام، وسببٌ آخرٌ مهم، هو زواج الدوق وليام من ابنة حاكم دولة الفلافندرز Flanders، وهي دولةٌ قديمةٌ ضمَّت مناطقَ من هولندا وبلجيكا وفرنسا، وكانت في عَداءٍ مع إنجلترا، أما في حالة تقلد وليام العرش فقد تتحسّن العلاقات وينتهي العداء، ولكن خِطَطَ الملكِ انتهت بقيامِ تمرُّد عليه بجيوشٍ من الفلاندرز وآيرلندا، فسقط الملك في أيدي النبلاء، وأصبح ضعيفًا وحيدًا ودميةً في يد أقوى عائلةٍ في إنجلترا.
لكن في عام 1064م، وصلَ إلى مقاطعةِ نورماندي هارولد أحدُ أهمِّ رجال النبلاء في إنجلترا وشقيقُ الملكة والمرشحُ الأول لخلافة الملك إدوارد، إما أنه وصل هناك بسبب حادثة أثناء الصيد، أو لأن يُقنِع وليام بالتخلِّي عن رغبته في العرش، أو من أجل إعادة شقيقه الأصغر وابن شقيقه الأكبر، اللذَيْن كانا سجينين في نورماندي. اختلف المؤرِّخون على السبب، لكن خلال إقامته في نوررماندي، انتهى الأمر بهارولد أن أقسَمَ على مساعدة وليام في تحقيق وعد الملك إدوارد وتولي عرش إنجلترا، وأن يتزوَّجَ إحدى بنات وليام.
بعدها بأقلّ من عامين، توفى الملك إدوارد، فأخلَفَ هارولد وعده وحنثَ بالقسم، وأصبح ملِكًا لإنجلترا في يناير 1066م، تاركًا وليام في موقفٍ صعبٍ وغضبٍ عارم؛ ممّا أنذرَ بقدوم الحرب، فهل كان وليام هو الوريث الشرعيّ أم لا؟ خاصةً وأنَّ كلَّ تلك الوعود والأقسام لم تكن رسميّة قط.
سقوطُ آخر ملوك إنجلترا الأصليين
لأسبوعٍ كاملٍ من شهر أبريل عام 1066م لاحَ مُذنَّبُ “هالي” في الفضاء، مضيئًا سماء إنجلترا ليلًا، وناشرًا الذعر نهارًا، يَظهرُ كنجمٍ في السماء أكبر بأربع مرات من كوكب الزهرة، ويشعُّ نورًا بمقدارِ ربع ما يعكسه القمر، اعتبره البعضُ نذيرَ شؤمٍ أو تحذيرًا من السماء، فيما رآه آخرون أنّه علامةٌ لسقوطِ الملوك، كان يُعرف هذا الظهور وقتها بـ “مرهب أو مرعب الملوك Terror of Kings”، وتحقَّقَ النذيرُ فعلًا على “هارولد الثاني” آخر ملكٍ إنجليزي على إنجلترا، والذي مات في ديسمبر من نفس العام في معركةِ “هاستينج Hasting”.
بعد وصول خبر تتويج هارولد ملكًا لإنجلترا، جنَّ جنون وليام، فبدأ الاستعدادات لأخذ عرشه بالقوّة، وحضَّر لغزوٍ شاملٍ لإنجلترا، حتى وإن كان هذا الغزو مستحيلًا نظريًا؛ وذلك لصعوبة عبور البحر إلى الساحل الإنجليزي، ومحاربة الطقس غير المستقرّ، وأن الجيش الإنجليزي سيكون مستعدًا على الأرض في معركةٍ مفتوحةٍ بانتظار الفرنسيين؛ ممّا دعى أغلب النبلاء وحلفاء وليام لرفض المشاركة ونبذ الفكرة، لكنه نجحَ أخيرًا في إقناعهم بالعصا أو الجزر، فيما كان المذنَّبُ مباركةً لـ “وليام الأول” دوق نورماندي، حيث كان قد أرسل للفاتيكان يطلب الموافقة والبركة الإلهية لغزو إنجلترا في بداية العام، فأحسن إليه البابا “ألكساندر الثاني” وأرسل له رايةً مقدسةً مزيّنةً بصليبِ القدِّيس بيتر ليتم حملها في المعركة.
لكن مشاكل ملك إنجلترا لم تتوقف عند الغزو الفرنسي، فقد فاجأهم غزوٌ آخرٌ من الشمال على يد الفايكينج، مصحوبًا بشقيق الملك المتمرد، في نفس الوقت الذي حضَّرَ فيه وليام جيشًا من سبعة آلافِ مقاتل وسبعمائة سفينة، وحطَّ الأسطولُ الفرنسي في جنوب إنجلترا بلا مقاومة، حيث كان الإنجليز منشغلون بمواجهة غزو الفايكنج من الشمال، حتى وصلت الأخبار أن ملك إنجلترا سحق الفايكنج عن طريق المفاجأة، وقرر أن يقوم بنفس الشيء مع الفرنسيين، فأراد مفاجأة وليام أيضًا بالهجوم على الفرنسيين ليلًا، لكن وليام فطِنَ لخطة الملك، فتحرّك بجيشه إلى هاستينج وأمر أن يظلَّ الجنودُ على أُهْبَة الاستعداد ليلًا، وفاجأ الإنجليز بقلب الطاولة عليهم، وأوقع بهم هزيمة نكراء، قُتل فيها الملك هارولد، آخر ملوك إنجلترا الأصليين، معلنًا بذلك عصرًا جديدًا من تاريخ أوروبا وإنجلترا، ومسبّبًا عداوةً تاريخيّة استمرت لقرونٍ وقرون، ومعلنًا فصلًا جديدًا من تاريخ جزيرة بريطانيا، وبداية حكم أحد أقوى ملوك إنجلترا على مرِّ العصور.
المحطة
إضافة تعليق جديد