الذكرى السنوية لتكفير عميد الأدب العربي طه حسين

11-03-2022

الذكرى السنوية لتكفير عميد الأدب العربي طه حسين

محمود حسنى رضوان :  فى شهر مارس من كل عام نتذكر قصة تكفير الأزهر لعميد الأدب العربى طه حسين ، وكيف استطاع مشايخ الأزهر تعبئة الرأى العام وحشد جحافل هائلة من الغوغاء للتظاهر ضد طه حسين مطالبين بذبحه !!
كيف كان ذلك؟
فى عام 1926 أصدر طه حسين كتابه الشهير "فى الشعر الجاهلى".. كان طه حسين نموذجا للمثقف الثورى الذى سبق عصره ، وكان الكتاب نموذجا راقيا وغير مألوف للبحث العلمى ، ونقلة كبيرة فيما يتصل بحرية العقل فى الاجتهاد .. وقد سلك طه حسين المنهج الديكارتى في البحث ، وكان هذا المنهج غريبا على العقول الأزهرية العتقية التى ترفض التفكير وتقدم النقل على العقل .. كان منهجا مختلفا عن المناهج التقليدية النقلية التى يستخدمها الأزهر..
وكان هذا الكتاب بمثابة إعلان حرب على التراث..
وهنا بدأت محنة طه حسين الكبرى..
ففى 5 يونية 1926 تقدم أحد مشايخ الأزهر (الشيخ خليل حسين) ببلاغ للنائب العمومى يتهم طه حسين بأنه كذّب القرآن صراحة وطعن فى آياته ، وطعن على النبى وعلى نسبه الشريف !!... إلخ وطالب بمحاكمته..
وكتب الشيخ عبد ربه مفتاح رئيس قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر مقالا فى مجلة الكواكب إتهم فيه طه حسين بالزندقة والإلحاد والتعدى على الدين !!
وفى 5 يونيه أرسل شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوى تقريرا للنائب العمومي كفر فيه طه حسين ، وقال:-- "أن الكتاب فى ظاهره إنكار للشعر الجاهلى ، ولكنه في الحقيقة دعامة من دعائم الكفر ومعولا لهدم الدين" !!  وطالب بمحاكمة طه حسين ، وكان التقرير مشفوعا بتوقيع عدد من مشايخ الأزهر..
كما أرسل شيخ الأزهر أيضا تقريرا إلى أعضاء مجلس النواب يطالبهم بالتحرك ضد طه حسين ومحاسبته !!.. وصدر ضد طه حسين أكثر من 20 كتابا (فى الفترة من 1926 إلى 1030)..
وسارت المظاهرات بقيادة مشايخ الأزهر تطالب برأس طه حسين ، والمدهش أن هؤلاء المتظاهرين لم يقرأ أحدا منهم كلمة واحدة من كتاب "فى الشعر الجاهلى"!!..
وفتحت جريدة الأهرام صفحاتها أمام مشايخ الأزهر يكيلون الاتهامات لطه حسين بالزندقة والإلحاد والخروج من الملة ومطالبين بإقامة الحد عليه !!
ولم تكن القضية ذات بعد دينى فقط ، ولكنها أخذت بعدا سياسيا أيضاً ، حيث أراد بعض السياسيين انتهاز الفرصة ومغازلة السذج والبسطاء واللعب على مشاعرهم الدينية لاكتساب شعبية وتحقيق مكاسب سياسية رخيصة !!.. ففى 14 سبتمبر تقدم عضو مجلس النواب عبد الحميد البنان ببلاغ للنائب العمومى متهما طه حسين بإهانة الإسلام وذلك حتى يبدو أمام العوام بأنه حامى حمى الدين !!.. وتحول البرلمان إلى منصة لإطلاق النار ضد طه حسين ، وكان سعد زغلول هو رئيس البرلمان.. ومن المؤسف أن سعد زغلول قد سقط سقطة مدوية وتاجر هو أيضاً بمشاعر الغوغاء لتحقيق مكاسب سياسية رخيصة !!.. فقد تظاهر طلبة الأزهر مطالبين برأس طه حسين واتجهت المظاهرة لمنزل سعد زغلول، ولما أطل عليهم من شرفته قالوا له:-- "إننا كما إتخذناك سلاحا نحارب به المغتصبين فإننا نريدك سلاحا نحارب به الملحدين"!! وألقى فيهم سعد زغلول كلمة أساء فيها إلى طه حسين إساءة بالغة قائلا لهم :-- "وماذا علينا إذا لم يفهم البقر"!!
وهكذا نصب الأزهر نفسه وكيلا عن السماء ، ونجح فى تعبئة الرأى العام ضد طه حسين ، وكتبت زوجته فى مذكراتها بعنوان "معك" أنه عانى محنة قاسية ..
وبدأ المدعى العمومي محمد بك نور التحقيق مع طه حسين .. وكان من حسن ظن طه حسين أن محمد بك نور كان مثقفا كبيرا ويمتلك عقلا ناقدا واعيا ، وكان على علم بمناهج البحث وكيفية توثيق المصادر ومدركا لأدبيات وقواعد النقل والاقتباس وضرورة التحلى بالأمانة العلمية .. قرأ محمد نور كتاب "فى الشعر الجاهلى" قراءة جيدة ، واستعان بمراجع علمية ودرس تفاصيل القضية قبل أن يبدأ التحقيق .. ولم يتأثر محمد نور بالمناخ العام المعادى لطه حسين ، ولا بمظاهرات الغوغاء ولا إتهامات الأزهر ولا مكائد الساسيين.. إستمر التحقيق مع طه حسين لمدة 6 شهور ، وجادله محمد نور فى كل تفاصيل الكتاب..
ومن حسن الحظ أن الكاتب الراحل خيرى شلبى قد عثر  بالصدفة على مذكرة التحقيق الأصلية وعليها توقيع محمد بك نور فى إحدى المكتبات المتخصصة فى الكتب القديمة.. وتعتبر هذه المذكرة وثيقة هامة من تراث الاستنارة..
وفى مذكرة التحقيق هذه لم يستخدم محمد نور لفظ "المتهم" فى وصف طه حسين ، وإنما استخدم لفظ "باحث".. وأصدر محمد نور قرارا تاريخيا فى 30 مارس 1927 بحفظ التحقيق لعدم كفاية الأدلة.. ووصف محمد نور كتاب طه حسين بالعبارات التالية :-- "بحث علمى لاتعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه ، وإن العبارات الماسة بالدين التى أوردها الباحث كانت مما تقتضيه قواعد البحث العلمى ، وبناءً عليه ينتفى القصد الجنائي وتحفظ الأوراق إداريا وتبرئة طه حسين مما نسب إليه" !!..
ووصف خيرى شلبى مذكرة التحقيق بأنها لم تكن صياغة قانونية جافة ومملة وإنما بحثا علميا راقيا مكتوب بأسلوب أدبى بليغ حين تقرأة تظن أنك في إحدى أروقة الجامعة تستمع إلى إحدى أطروحات الدراسات العليا وأبحاث الترقية !!
واليوم بعد مايقرب من 100 عام على هذه القصة ، فقد ذهب مشايخ الأزهر بقيادة شيخهم محمد أبو الفضل الجيزاوى إلى مجاهل النسيان ، وبقى طه حسين علماً شامخاً وسراجاً منيراً..

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...