من يدفع للزمّار يختر اللحن.. (رياح الاستخبارات تلعب بأشرعة الأدب)

31-05-2022

من يدفع للزمّار يختر اللحن.. (رياح الاستخبارات تلعب بأشرعة الأدب)

عماد عبيد:

إلى أي مدى يستطيع الأديب أو المفكر أو المثقف أن يكون حرا، ولا سلطة عليه إلا سلطة الإبداع المحتكم إلى الموهبة والحصيلة المعرفية وصحوة الضمير برسالته الأخلاقية والإنسانية؟ وهل استطاعت قوى الضغط السلطوي والاقتصادي والإغرائي والإعلامي أن تحرف الأدب والفكر والثقافة عن مسارهم الاختياري الحر؟ وهل المتغيرات النهجوية في حركة الأدب والفكر والثقافة تاريخيا، جاءت نتيجة تطور في السياق الطبيعي للمجتمعات؟ أم أنها أتت بإملاءات وضغوطات قصدية فرضتها قوى مهيمنة قامت بالتوجيه والتدجين والترهيب لخلق مناخات وتحولات تخدم مراميها؟


ما أن انتهيت من قراءة كتاب (من الذي دفع للزمار) للصحفية البريطانية (فرانسيس ستونر سندرز) حتى عادت

Image
غلاف كتاب من يدفع للزمار

بي الذاكرة إلى مقال قديم للكاتب الصحفي الأمريكي اليهودي (سيمون هيرتش) وهو من ضمن مقالات تدرّس لطلاب الإعلام يقول فيه قولا حاسما ملخصه: (سيصبح الإعلام أهم سلاح على الأرض، به ستسقط حكومات وتنتصر حروب، ويتغير نمط تفكير الشعوب) ... والمعروف عن (هيرتش) أنه من أهم الكتاب الصحفيين عالميا ومن أكثرهم جرأة وفضحا للسياسة الأمريكية، وخاصة في كتابيه (خيار شمشون) الذي فضح فيه مجزرة (مي لاي) التي ارتكبها الجيش الأمريكي في فيتنام عام 1968، و(ثمن القوة) عن حياة (هنري كيسنجر) في البيت الأبيض، كما فضح استخدام أمريكا لليوارنيوم المخضب في حرب العراق، وكشف أكاذيب (جورج بوش) ووزيره (ديكتشيني) عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وعرّى الغطرسة الأمريكية وما ارتكبته من فضائع في سجن (أبو غريب)، وكلامه هذا ليس تنبؤا غيبيا، ولا تهويلا لدور السلطة الرابعة، بل هو رأي مبني على تجارب واستنتاجات عرفها و واكبها  من خلال خبرته واطلاعه على دور الإعلام المسيس والموجه في تجييش الرأي العام وصنع القرارات وتنفيذ الأجندات السياسية، وهذا ما برعت به أجهزة المخابرات الغربية وخاصة الأمريكية في توجيه الإعلام للسيطرة على العالم، ومن بين توجهات تلك الأجهزة تسييس الأدب واحتوائه وتوجيهه بما يخدم مصالحها.

Image
سيمون هيرش

 انتهت الحرب العالمية الثانية والدول المنكوبة لم تلملم جراحها بعد، لتبدأ الحرب الباردة بين قطبيها الجديدين، الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومنظومة الدول الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي، هذه الحرب الجديدة لا تقل تجييشا وتجهيزا وانفاقا وحرارة عن معارك الحروب الساخنة، فأمريكا اعتبرت نفسها مسؤولة عن أمن العالم، وأخذت على عاتقها مهمة جديدة وهي محاربة الشيوعية على مساحة الكرة المدورة، فأسست وكالة المخابرات المركزية (CIA) بقرار من الرئيس ترومان في شهر تموز من عام 1947، هذه الوكالة التي صار اسمها مخيفا في مدونة التاريخ العالمي، امتدت أذرعها الأخطبوطية في سائر أنحاء المعمورة، ولم يقتصر نشاطها على الحراك السياسي، بل تدخلت في كل المفاصل، وبرعت بصناعة وترويض الأدب والفكر والثقافة وفقا لنموذج ذهنية العم سام.


ولعل أغرب مهام هذه الوكالة هو التركيز على تسييس الثقافة والسيطرة على الأدب تحت واجهة الحرية والديمقراطية لمواجهة الثقافة الشيوعية الاشتراكية، فبدأ العمل على صناعة مؤسسات عالمية تعنى بشؤون الثقافة والأدب، تظهر للعالم بمظهر الاستقلالية والدعوة للثقافة الحرة المستقلة، لكن في الخفاء تديرها وتمولها أجهزة وشخصيات مخابراتية تابعة للـ (CIA) تحاول استقطاب أدباء من مختلف أنحاء العالم من ذوي التوجهات الليبرالية المعادية للشيوعية، كما تسعى لاحتواء أدباء ومثقفين انشقوا عن الشيوعية، إضافة إلى مهمة أخرى وهي دعم اليسار الأوربي غير الشيوعي وتأليبه على الشيوعية.


هذه الأحداث بتفاصيلها وجزئياتها نقلتها لنا الصحفية البريطانية الشابة (ف – س - سوندرز) في كتابها الفضائحي (من الذي دفع للزمار) تجول فيه على أهم الأحداث التي مارستها المخابرات الأمريكية في السيطرة على الأدب وتدجينه لتشكيل نمطا فكريا مواجها لإيديولوجيا الأدب والثقافة الشيوعية، لذلك سنقرأ في هذا الكتاب عن أسماء أدباء كبار ومعروفين تم احتوائهم إما عن سابق اتفاق معهم، أو بطريقة التدليس دون أن يعلموا أن وراء هذا الاستقطاب أياد خفية تستدرجهم لصناعة مواقف تتاجر بها وتناحر المد الشيوعي الذي استطاع أن ينشط هو الآخر على المستوى الثقافي والأدبي عالميا.


فما أن افتتح الاتحاد السوفييتي (بيت الثقافة ببرلين) حتى سارعت أمريكا بافتتاح المراكز الثقافية في أوربا الغربية ودول العالم وبدأت ترسل فرق المسارح والسينما والندوات الأدبية والفرق الموسيقية، خاصة فرق الزنوج لتظهر عدالتها وبراءتها من التمييز العنصري، بنفس الوقت الذي ركزت فيه على تعرية الشيوعيين الأمريكيين ونشر الفضائح عنهم والتضييق عليهم، سيما الشخصيات المشهورة منهم مثل نجوم الفن السابع (شارلي شابلن ومارلون براندو، ومارلين مونرو) والكتّاب أمثال (إرنست همنغواي وآرثر ميلر "زوج مارلين مونرو" ووليم فوكنر وغيرهم) لدرجة أن بعضا منهم مات اغتيالا أو انتحارا.


أهم المنظمات الثقافية التي اشتهرت نشاطاتها وتوسع مسرح عملياتها في هذا الصدد (منظمة الحرية الثقافية) التي تأسست عام 1950 بقرار من (CIA) والتي تولى إدارتها رجل المخابرات الأمريكية الصحفي (مايكل جوسلسون) بحيث بلغ عدد فروعها أكثر من خمسة وثلاثين فرعا موزعين على دول العالم، وأصدرت أكثر من عشرين صحيفة بأكثر من عشر لغات موجهة لنشر ثقافة وأدب ظاهرهما الحرية والديمقراطية، وباطنهما التصدي للثقافة الشيوعية، ومن تلك الصحف (كومنتري – نيوليدر – بارتيزان ريفيو – سوفييت سيرفي - انكاونتر) وهذه الأخيرة استقطبت أهم كتاب العالم مثل (برتراند راسل وأرنولد توينبي و هربرت سبنسر، وألبير كامو)، فضلا عن إقامتها للمعارض والحفلات الموسيقية والأفلام السينمائية والمسرحيات والتي غايتها إعطاء صورة عن الحياة الأمريكية المنفتحة الحرة المسالمة، وجميعها تمول من وكالة المخابرات الأمريكية والبنتاجون ومؤسستي (فورد وروكفلر) المتحكمتين بالقرار السياسي الأمريكي.


بنفس الوقت استطاع السيناتور (جوزيف مكارثي) أن يمرر مشروع قانون في الكونغرس بإنشاء لجنة غايتها الرقابة على الثقافة ومواجهة كل نشاط مخالف للسياسة الأمريكية، حيث عرفت تلك المرحلة (بالمكارثية)، فأي حراك أو نشاط أدبي أو فكري معارض لتوجهات أمريكا الرأسمالية مراقب ومرفوض تحت طائلة التخوين والاتهام بالتآمر، سيان أكان داخل أمريكا أو خارجها، وبالتالي لابد من تنشيط كل فكر وثقافة وأدب يمجد عالم أمريكا الحر، نعم إنها المكارثية الكارثية التي أسست لسياسة الإرهاب الثقافي.


استثمرت وكالة المخابرات الأمريكية سقطات السلطات الشيوعية السوفيتية ولاسيما ديكتاتورية (جوزيف ستالين) والطريقة القمعية التي عامل بها الأدباء المعارضين لنهجه بإرسالهم إلى معسكرات (الجولاج) وضلوعه بقتل مكسيم غوركي تسميما على خلفية تمنعه عن كتابة رواية أو سيرة ذاتية تحمل اسم (أبو الشعوب) حينما قال لستالين عبارته الصادمة: (إن العصافير لا يفرض عليها الزقزقة)  وإعدام الكاتب (نيكولاي غوميلوف) زوج الكاتبة (إنا إخماتوفا) والتي سجنت ومنعت من الكتابة كما سُجن ابنها، والنهاية المأساوية للشاعر (الكساندر بلوك) بعدا أن مُنع من السفر للعلاج في ألمانيا، والتلميع الوهاج لشخصية الأديب الروائي (ميخائيل شولوخوف) الذي يقال أن رواية (الدون الهادئ) ليست من نتاجه وإنما من تعود للكاتب الضابط في الجيش الأبيض القوزاقي (فيدور كريكوف) الذي قتله الجيش الأحمر السوفيتي أثناء الحرب الأهلية، ووجدوا في حقيبته تلك الرواية العظيمة فانتقوا لها كاتبا مطيعا للكرملين وهو (ميخائيل شولوخوف)، هذه السقطات وغيرها أضحت مادة دسمة للتشهير بالنظام الشيوعي الشمولي في المجال الأدبي والثقافي، استثمرتها وكالة المخابرات الأمريكية وذراعها (منظمة الثقافة والحرية) أيما استثمار، بينما على مقلب آخر  وفي الوقت نفسه كانت أجهزتها تلاحق كاتب أمريكا الكبير (إرنست همنغواي) وتنشر عنه شائعات ما أنزل الله بها من سلطان إلى درجة انهياره نفسيا، ويحكى أنه مرة زار طبيبا نفسيا تحت اسم مستعار، وحين اكتشف أمره الطبيب تمنع عن استقباله وأخبر وكالة الـ ( (FPIعنه، ووصل به اليأس والاكتئاب إلى الموت بطلقة في الرأس انتحارا، كما منعت أعمال الكاتب الفرنسي (جان بول سارتر) من التداول في مكاتب مراكزها الثقافية، وحاربت نشاطاته، وقامت بحملة شنيعة لمنع ترشيح وفوز شاعر التشيلي (بابلو نيرودا) بجائزة نوبل عام 1964، وبعد أن فاز بها عام 1971 عندما كان سفيرا لبلده في فرنسا إبان رئاسة الرئيس (سلفادور أليندي) تم اغتياله عام 1973 على إثر انقلاب (أوغستو بينوشيت) بواسطة المخابرات الأمريكية نفسها، والتي قتلت أيضا الرئيس (سلفادور أليندي)، أما ممارساتها مع الممثل العالمي (تشارلي شبلن) فلم تتوقف عند الاستجواب والتحقيق معه مرارا بتهمة الشيوعية، بل وصل الأمر بها إلى نفيه إلى سويسرا ومات هناك، أيضا نجمة الإغراء العالمية (مارلين مونرو) اتهمت بالشيوعية لأنها طلبت أن تزور موسكو، فتم التضييق عليها وملاحقة زوجها الكاتب (آرثر ميلر) بنفس التهمة، وتعتبر قضية طلاقهما نتيجة للشائعات التي روجتها وكالة المخابرات الأمريكية وتهديدهم بفضح أسرارهم الشخصية، فماتت (مارلين) بعد عام واحد من انفصالهما 1962، باغتيالها بجرعة زائدة من مادة (الباربيتوارت)، وتتالى ممارسات التصفية لتصيب مواطنين أمريكيين عارضوا سياسة أمريكا فنسبت إليهم تهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفييتي الشيوعي، ولعل قصة إعدام الزوجين (روزنبرغ) تعتبر الوصمة المخزية في سياسة أمريكا، وجهاز عدالتها، ووكالتها المخابراتية سيئة الصيت، فما أن أعلن الاتحاد السوفيتي عن نجاح أول تجربة اختبار ذري تم في شهر آب عام 1949 حتى جن جنون أمريكا وبدأت تبحث عن جواسيس سربوا أسرار القنبلة الذرية، فوقع الاختيار على الزوجين (جوليوس وإيثل روزنبرغ) لتوجهاتهم الماركسية ومعاداتهم لفحولة الكاوبوي الأميركي، فتمت محاكمتهم بلا أدلة ولا شهود سوى شهادة (ديفيد غرينبلاس) شقيق زوجة (جوليوس روزنبرغ) بصفته مشتبها به، بعد أن وعدوه بتخفيف التهمة عنه إذا أفشى أسماء الشركاء، فقدم لهم اسمي صهره وأخته، وقد كان بإمكان الزوجين (روزنبرغ) الإفلات من عقوبة الإعدام إن اعترفا بالتهمة، لكنهما رفضا متمسكين ببراءتهما بعد أكثر من ثلاث سنوات من التحقيق والمحاكمة، وفي يوم الإعدام بعثا برسالة مؤثرة لطفليهما ختماها بعبارة (ولتتذكرا دائما أننا أبرياء، ولم نستطع أن نخالف ضمائرنا) أما الزوجته (إيثل) وقبل ربطها على كرسي الإعدام الكهربائي، استدارت على السجانة  وطبعت قبلة على خدها، تلك المحاكمة التي أثارت سخطا واستنكارا على مستوى الرأي العام الأمريكي،  فلم تنفع وساطات المنظمات الإنسانية والحقوقية وشفاعة البابا (بيوس الثاني عشر) لدى الرئيس الأمريكي (أيزنهاور) ولا المظاهرات والاحتجاجات في أمريكا وأمام سفاراتها في الخارج، لأن التوجه الأمني والسياسي قد قرر التضحية بهما كعقوبة رادعة للآخرين، وقتها كتب المفكر الفرنسي (جان بول سارتر) مقالا اتهم أمريكا بالتوحش، جاء فيه ( عندما يحكم بالإعدام على اثنين من الأبرياء، فإن ذلك يصبح قضية العالم كله، ... فالفاشية ليست بعدد ضحاياها، وإنما بالطريقة التي تقتلهم بها)

Image
جان بول سارتر

كان اسم (سارتر) على القائمة السوداء في أمريكا ومؤسساتها الثقافية، كتبه ممنوعة من التداول، ولا يذكر اسمه في الصحافة ولا في النشاطات الأدبية، بل كان المطلوب أن يتم التقريع به استهزاءً وتسخيفا وتلفيق التهم له، إلا أنه بين عشية وضحاها تم فك الحظر عنه بسبب مقال كتبه مهاجما الاتحاد السوفييتي لتدخله في قمع مظاهرات هنغاريا عام 1956، حيث قامت المخابرات الأمريكية بترجمة مقاله هذا ومقال آخر للكاتب (ألبير كامو) يضرب على نفس الوتر، إلى عشرات اللغات وطبعوا منهما ملايين الطبعات وربطوها بمناطيد صغيرة (بالونات) وطيروها فوق أوروبا، ثم تغاضوا عن ترشيحه لجائزة نوبل عام 1964 مركزين اهتمامهم على منعها عن (بابلو نيرودا) لكن (سارتر) رفضها.


رواية (دكتور جيفاغو) للكاتب الروسي (بوريس باسترناك)، هي الرواية الوحيدة له، بقيت مخطوطا طيلة فترة حكم ستالين، وبما أن الرواية تعري أخطاء النظام السوفييتي فقد تواصلت (منظمة حرية الثقافة) مع الكاتب وتم إصدار روايته بإيطاليا على نفقة المنظمة الممولة من وكالة المخابرات الأمريكية، وترجمتها إلى أكثر من 40 لغة عالمية وطبعت منها آلاف النسخ ووزعتها مجانا في معرض بروكسل للكتاب عام 1958، وبنفس العام مورس الضغط على السير (داغ همرشولد) أحد الأعضاء البارزين في مؤسسة الجائزة، وتم ترشيحه وفوزه بالرغم من أن منافسه كان الكاتب الإيطالي الكبير (ألبرتو مورافيا) إلا أن (باسترناك) رفضها بضغط من السلطات السوفييتية.
الشاعر والناقد الأمريكي البريطاني (تي أس إليوت) أهم المدللين لدى الحكومة الأمريكية و (منظمة حرية الثقافة) وصحفها ونشاطاتها، فبسبب نزعته الليبرالية توجب المحافظة عليه ورفعه، فكان يدعى إلى المؤتمرات التي تقيمها المنظمة والاحتفاء به خوفا من استقطابه من الثقافة الشيوعية المعادية كما كانوا يصرحون في حواراتهم السرية، فقاموا بترجمة عمله (الرباعيات الأربع) إلى اللغة الروسية وألقوها بالطائرات فوق دول الاتحاد السوفييتي، هادفين إلى تعريف الشعب الروسي بالثقافة والفكر المغاير الذي تحجبه السلطات السوفيتية.


أيضا التقطت المنظمة روايات الكاتب (جورج أورويل) صاحب (مزرعة الحيوانات و1984) واستثمرت هاتين الروايتين أيما استثمار، فتواصلت مع مدير أعماله واشترت منه حقوق الطبع بمبالغ مجزية وترجمت العملين إلى لغات عدة ووزعتها في المعارض بعد أن وضعت على غلاف رواية 1984 رسما يطابق شخصية ستالين مستوحاة من شخصية (الأخ الكبير) الموظفة توظيفا سياسيا لإدانة الفكر الشمولي.


سعت التوجهات الفكرية في أميركا في تلك الحقبة إلى تعويم الحداثة الأدبية على أنها منجز أمريكي وغربي متطور عن النهج الشيوعي المقونن بالإيديولوجيا المحنطة على حد تعبيرهم، فعمدت على الاهتمام بالمبدعين الأمريكيين والترويج لهم بغض النظر عن ماضيهم، لاستقطابهم بقصد الاستعلاء بهم من جهة، وللتدليل على الروح الديمقراطية المتسامحة من جهة ثانية، بينما كان السبب الخفي هو إعادة استثمارهم من جديد، فالشاعر الأمريكي المغترب الموهوب (عزرا باوند) الذي تأثر بـ (موسوليني) ووقف مع الفاشية وكان يذيع البيانات ضد الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية من إذاعة إيطاليا، وكان هو الأمريكي الوحيد المتهم بالخيانة، تواصلوا معه وفوّزوه بجائزة (بوللنجن) عن عمله الشعري (أناشيد ليزا) كونه من الأدباء الأفذاذ المميزين عالميا للتباهي بهويته الأمريكية، وخوفا من استدراجه إلى المعسكر المغاير.


كتاب (من الذي دفع للزمار) الذي أرخ لمعظم الأخبار الواردة في هذا المقال، مازال يحوي على الكثير الكثير من التفاصيل والأحداث ويزخر بأسماء عديدة انتهجت مذهب الأدب والفن، تم استقطابها من قبل المخابرات الأمريكية عبر منظماتها ذات السمة الأدبية وشبكاتها المتفرعة عنها، بعض تلك الأسماء كان يعرف جهات التمويل والوظيفة المطلوبة منه، والبعض الآخر تم استغفاله دون أن يدري، وقد بذلت الكاتبة جهداً مضنياً وبحثت بإصرار ودأب أخذا منها وقتا وتعبا استثنائيين، مستغلة رفع السرية عن معظم الوثائق التي استقت منها معلوماتها، إضافة إلى تواصلها مع العديد من الشخصيات المحركة لأحداث هذا العمل، وإذ يكشف لنا الكتاب عمل وتدخل المخابرات الأمريكية في توجيه الأدب والسيطرة على أشرعته كأنموذجا ينسحب على مهمات المخابرات العالمية، فإن الحقبة التي تناولها الكتاب لم تنته ومازالت السلطات الأمنية تفعل فعلها في هذا الاتجاه، ليكون الأدب الضحية المتواطئة مع جلادها سواء عن سابق علم أم عن سذاجة، إن بقي أسيرا للدعاية ومكر السياسة، لنصل بالنتيجة إلى حتمية انحراف الأدب عن رسالته حين يصبح تحت أمرة شرطة الأدب وكهنة القرار.

 

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...