مسيرات الردع والإنذار فوق كاريش: الأهداف وحساسية التوقيت
شارل أبي نادر:
ربما لم يكن منتظراً لدى البعض، أن يعمد حزب الله إلى إرسال سرب صغير من مسيّراته الاستطلاعية فوق حقل “كاريش” المتنازع عليه مع لبنان، قبل حصول الحكومة اللبنانية على الرد النهائي من العدو الإسرائيلي على عرضه الذي حمله للمبعوث الأميركي آموس هوكستين.
يقول هذا البعض إن المقاومة تسرعت في هذا الإطلاق الاستطلاعي المسيّر، ولم تعط الحكومة اللبنانية متسعاً من الوقت لكي تأخذ مبادرتها (عرضها) مداها الطبيعي الذي تحتاجه حكومة العدو للرد، وبالتالي فإن ذلك يشكل نوعاً من الضغط على موقف لبنان الرسمي.
فكيف يمكن مقاربة هذا الأمر؟ وما هي أهداف حزب الله الفعلية من وراء ذلك؟
بدايةً، لولا المقاومة وموقفها وقدراتها، لما وصل لبنان إلى ما وصل إليه من موقف محصن وجامد من الند للند، ومتكافىء للتفاوض مع العدو القوي والمدعوم أميركياً في هذا التفاوض غير المباشر على ترسيم الحدود البحرية، وهو ( أي لبنان) في هذا الموقف الداخلي الضعيف والمشرذم والمنهار اقتصادياً، يعكس أمرا غير طبيعي، إذ كان من المفترض أن يتناسب موقفه التفاوضي مع موقفه الداخلي الفعلي.
ثانياً: دائماً، كانت المقاومة تختار التوقيت والعمل الذي تقدم عليه، وخاصة بمواجهة العدو الإسرائيلي، ليكون مناسباً ومنتجاً بالشكل والمضمون لمصلحة لبنان الفعلية، ولمصلحة سيادته، وكامل مسار المواجهة والمقاومة الذي انخرط فيه حزب الله يشهد على ذلك، و طبعاً ليس كما يروج البعض من المرتهنين للعدو أو للمؤيدين للتطبيع معه، ومن الطبيعي أن تكون قد اختارت اليوم في إرسال هذه المسيّرات الاستطلاعية فوق حقل “كاريش”، التوقيت والأسلوب المناسبين لمصلحة لبنان.
عندما قدم لبنان عرضه الرسمي مؤخراً بطريقة غير مباشرة للعدو الإسرائيلي عبر المندوب الأميركي، والذي تضمن ما يشبه تسوية الأمر الواقع، إذ ابتعد عن ذكر ترسيم الحدود البحرية، أو موقفه بالتحديد من الخطين ٢٩ و ٢٣، متطرقاً فقط إلى فكرة استفادة العدو من استخراج الغاز من “كاريش” مقابل استفادة لبنان من استخراج الغاز من حقل قانا، كان ( لبنان) في ذلك، قد ذهب إلى أقصى ما يمكن أن يقبل به ضمن تسوية الأمر الواقع هذه، وكان على العدو الإسرائيلي أن يقبل بها من دون محاولة التذاكي واستغلال الوضع الاقتصادي اللبناني المنهار للفوز بمكتسبات أكثر مما تنازل عنه لبنان.
من هنا، جاءت عملية المقاومة في إطلاق المسيّرات حاملة الرسائل التالية:
١- رسالة دعم للدولة اللبنانية، بهدف إعادة تذكيرها بقدرة الردع التي استفادت منها هذه الدولة في موقفها التفاوضي المتكافىء، والقول لها إن عناصر القوة التي تملكها عبر المقاومة، جاهزة لكي تدعم موقفك وتجعلك تثبتين أكثر وأكثر على الخط الذي رسمته عبر هذا (العرض – التسوية )، تسوية الحد الأدنى أو تسوية الأمر الواقع.
٢- رسالة للعدو الإسرائيلي بأن لبنان ليس ضعيفاً، وبأنه يملك كل المقومات التي تجعله يصرّ على نيله حقوقه وتجعله يحمي سيادته، وبأن المقاومة جاهزة لكي تقوم بكل ما يلزم ومن خلال كل ما تملك من قدرات، لمنع هذا العدو من التعدي على حقوق لبنان و من الاستخفاف بموقفه وبموقعه في عملية التفاوض هذه.
وهذه الرسالة للعدو أيضاً، جاءت على شكل إنذار واضح، أولاً عن جدية المقاومة في مقاربة هذا الملف ومتابعته، وثانياً عن إمكانيات المقاومة وقدراتها، والتي تعرفها “إسرائيل” جيداً، وذلك من خلال إطلاق ثلاث مسيّرات استطلاعية غير هجومية، لتكون عملية متدرجة، تؤسس لمناورة محضرة ومدروسة، تبدأ من الاستطلاع أولًا، لتنتقل إلى التدخل العسكري لاحقاً، وبمستويات تصاعدية، في المسيرات وأنواعها أو في الصواريخ أو في العمليات البرمائية الخاصة.
٣ – رسالة للأميركيين، للقول بأن دوركم يجب أن لا يتخطى ما يترجم كامل مسار جلسات التفاوض السابقة ومجمل مضمونها، إذ إن موقف لبنان كان واضحاً بثباته على حقوقه وثرواته في البحر، وفي المناطق المتنازع عليها مع العدو الإسرائيلي، وبأن هذا الدور ( دور الأميركيين) يجب أن لا يكون خبيثاً، في محاولة استغلال الوضع الاقتصادي الصعب للبنان لإرضاخه أو لإجباره مكرهاً، على التنازل عن حقوقه الطبيعية والقانونية.
ورسالة أيضاً للأميركيين لعدم استغلال التوقيت الدولي والإقليمي الحساس، بين الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على ملف الغاز حول العالم، وبين تطورات التفاوض النهائي على الاتفاق النووي مع إيران، في محاولة تمرير ما كان يصعب تمريره سابقاً مع لبنان، لناحية ملف الغاز والحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي في المناطق الاقتصادية الخالصة لفلسطين المحتلة.
وأخيراً، تبقى الرسالة الأكثر حساسية التي أرادت المقاومة إيفادها عبر هذه المسيّرات فوق حقل “كاريش”، وهي رسالة للشعب اللبناني، لكامل الشعب اللبناني، من المؤيدين أو غير المؤيدين لحزب الله، بأن مسيرة المقاومة والتحرير وحماية لبنان التي خاضها هذا الحزب منذ نشأته لأربعين سنة خلت، هي مسيرة مستمرة، ثابتة على حماية لبنان وصون حقوقه وحفظ سيادته وثرواته، مهما كانت التحديات.
الميادين
إضافة تعليق جديد