ما الذي يفكر فيه بوتين وماذا يريد؟
نشر موقع ناشونال إنترست (National Interest) الأميركي مقالا مطولا للصحفي الروسي البارز كونستانتين ريمشوكوف، مالك ورئيس تحرير صحيفة “نزافيسيمايا غازيتا” (Nezavisimaya Gazeta) الروسية، سلط خلاله الضوء على رؤية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجيوسياسية للعالم وأزمة بلاده مع الغرب وأسباب حربها في أوكرانيا، وحاول خلاله الإجابة عن أسئلة عديدة حول القضايا الراهنة.
وأوضح ريمشوكوف -الذي يعد مرجعا في السياسة الروسية- أن المعلومات والأفكار الواردة في مقاله لا تستند على تحليل النصوص والسياسات المتعلقة ببوتين فحسب، بل تستند أيضًا إلى ملاحظاته الشخصية لمنطق الرئيس ودوافعه لاتخاذ القرارات، وفقا لأحاديث الرئيس عن نفسه وسياساته خلال اجتماعاته المنتظمة مع رؤساء تحرير وسائل الإعلام الروسية. مشيرا في هذا الإطار إلى أن آخر لقاء جمعه بالرئيس بوتين كان في سان بطرسبورغ في منتصف ليل 17 يونيو/حزيران الماضي وقد وفر له نافذة حقيقية على عقلية الرئيس وأهدافه.
مخاوف بوتين الرئيسية
يقول ريمشوكوف إن لدى بوتين قناعة بأن المصالح الإستراتيجية للأمة الروسية لا تعتمد على من يتربع على هرم السلطة في الوقت الراهن، أكان القيصر نيكولاس الثاني، أو ستالين أو غورباتشوف أو يلتسين أو بوتين، لأن المصلحة الوطنية للبلاد ثابتة وهي الأمن. وأن توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقا يشكل تهديدا أمنيا واضحا لروسيا. وقد كانت هذه القضية حاضرة في ذهن بوتين على مدى 15 عاما عامًا كما كانت حاضرة في محادثاته مع نظرائه الغربيين لكنهم تجاهلوا نقاشاته.
كما يقول الكاتب إن حقوق الشعب الروسي تعرضت للانتهاك فيما يخص احترام التميز الثقافي واللغوي. ويرى أن بوتين لا يمكنه أن يتقبل المنطق الذي يقول إن حماية حقوق الأقليات الجنسية أمر واجب، لكن حماية حقوق الشعب الروسي ليست كذلك. وهذا هو المنطلق الذي شكّل موقف بوتين الأخلاقي وفق الكاتب، والذي يقوم على أن “ترك رفاقك (شعبك) في ورطة أمر شائن ووصمة عار. وأنه من الشرف ودواعي الفخر حمايتهم مهما كلف الثمن”.
ويوضح ريمشوكوف أن بوتين سبق وأن عبر عن هذا الموقف من قبل عندما قال إنه لولا طموح الناتو لضم أوكرانيا إلى قائمة أعضائه، لما قلق بشأن شبه جزيرة القرم، ناهيك عن دونباس. وأشار في هذا الإطار إلى العلاقات الطبيعية التي كانت تربط بلاده بقادة أوكرانيين سابقين موالين للغرب، موضحا أنه حتى ذلك الوقت لم يكن الغرب قد بدأ بعد مرحلة تحويل أوكرانيا إلى بؤرة استيطانية مناهضة لروسيا.
ويقول الكاتب إن أهم عامل أسهم في تدمير الثقة بين روسيا والغرب هو الاستهتار والظلم والخيانة التي أجمعت عليها دول الغرب، والتي كان من أبرز تجلياتها العقوبات غير المبررة الناجمة عن اتهامات لا أساس لها من الصحة بوجود تواطؤ روسي مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ويشير بهذا الصدد إلى أن وسائل الإعلام الغربية فسرت أي اتصال للرئيس ترامب مع الروس على أنه دليل إدانة، وحلت الدعاية محل المعلومات، وحرم الروس من الحق في اعتبارهم أبرياء حتى تثبت إدانتهم.
وجهة نظره الجيوسياسية
يرى الكاتب أن الرئيس الروسي لديه قناعة بأن بلاده، بناءً على حجم وخصوصية المشاكل التي تطبع علاقاتها بالدول المجاورة لها -والتي يبلغ عددها 14 دولة- لا يمكنها تحت أي ظرف، تفويض القضايا المتعلقة بسيادتها للمنظمات الخارجية والقائمين عليها. ولتقريب ذلك للأذهان، لا يمكن لإستونيا أو ليتوانيا مثلا التأثير على قرارات السياسة الخارجية الروسية.
كما يؤمن بوتين أيضا بأن روسيا -شأنها شأن الولايات المتحدة والصين- يجب أن تتمتع بالسيادة الكاملة في اتخاذ جميع القرارات المتعلقة بها. وهو يرى أن “السيادة” لا تقبل التجزئة، وهي أكبر قيمة وأهمية بالنسبة لبوتين من قيم أخرى مثل “الحرية” و”الديمقراطية”.
ويرى الكاتب أن كل القرارات التي اتخذتها القيادة الروسية في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين وبداية عهد الرئيس بوتين خلال السنوات الأخيرة والمتعلقة بانسحاب روسيا من التزامات دولية تنطلق من هذا المنطق.
ما الذي يريده بوتين؟
يبرز الكاتب أن الرئيس الروسي بوتين يريد من الغرب الاعتراف بالمصالح الجيوسياسية الحصرية لروسيا، خاصة فيما يتعلق بأمنها. ويصر على الحق في إبعاد الناتو عن حدود روسيا. الأمر الذي يعني إبعاد الحلف عن حيز الاتحاد السوفياتي سابقا كحد أدنى.
ويرى بوتين أن هذا الحق مقدم على حق الدول المجاورة في إبرام اتفاقيات كما تشاء. ويرى الكاتب أن هذا الموقف يمثل عودة لبعض عناصر سياسة السيادة المحدودة التي طبعت عهد رئيس الاتحاد السوفياتي السابق ليونيد بريجنيف.
ويمضي ريمشوكوف للقول إن بوتين لا يعترف بالمفهوم الشائع والغامض من الناحية القانونية الذي يطلق عليه “النظام العالمي القائم على قواعد”. ويقول -والضمير هنا يعود لبوتين- إن روسيا لا تفهم هذه القواعد، ولم تشارك في وضعها ولن تتبعها. كما يرى أن اتفاقية سلام يالطا -التي وقعت عام 1945 بين الاتحاد السوفياتي من جهة وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة أخرى- قد انتهت بسبب الانتهاكات الدائمة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة من قبل الدول الغربية. ويسوق أمثلة ذلك من بينها قصف بلغراد والعراق وليبيا وكوسوفو.
تغيير النظام العالمي
ويقول ريمشوكوف إن بوتين يسعى لإعادة ترتيب النظام العالمي الجديد دون اللجوء لحرب نووية عالمية. كما يريد من الغرب قبول أي أساليب سياسية محلية في روسيا على أساس غير تمييزي.
كما يشدد بوتين على وجهة نظره بأنه لا يوجد نموذج عالمي للدولة والهياكل السياسية إلزامي لجميع البلدان. ويرى أن السياسات في الغرب تحدد في أروقة السلطة ومكاتب الشركات الكبرى، وقد كشف حرمان دونالد ترامب من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي زيف الادعاءات بشأن حرية التعبير في الولايات المتحدة.
وفي إشارة إلى ما حصل في الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية التي حملت الرئيس جو بايدن إلى سدة الحكم، يقول الكاتب إن استخدام التكنولوجيا في الانتخابات لإدلاء المواطنين بأصواتهم عبر البريد دون وسائل للتحقق الكافي من هوية الناخبين قد أذهل بوتين، وإن شركات التكنولوجيا الكبرى، التي تعتمد على الأرباح المفاجئة غير المسبوقة والوصول إلى الناخبين، قد أصبحت من العوامل الرئيسية التي تضمن الفوز بالانتخابات.
ويتوقع الكاتب في ختام مقاله استمرار الصراع في أوكرانيا لمدة 4 أو 5 سنوات، ويرى أن على الجميع الاستعداد لذلك، إذ لا توجد أسس بعد يمكن أن يبنى عليها السلام، ولن تكون هناك احتجاجات شعبية في شوارع روسيا لأسباب اجتماعية واقتصادية في خريف هذا العام ولا في الصيف المقبل، فالتغيير في روسيا سيأتي من الأعلى، كما هو الحال دائمًا وفق رأيه.
إضافة تعليق جديد