سوزان سونتاج: الروايات تكافح الجفاف العاطفي

04-08-2022

سوزان سونتاج: الروايات تكافح الجفاف العاطفي

ترجمة / د.علي عبد الأمير صالح

تقديــم :
ولدت سوزان سونتاج (اسمها الأصلي سوزان روزنبلات) في نيويورك، أبواها أمريكيان هما جاك روزنبلات وميلدريد ياكوبسين. كان والدها يعمل في تجارة الفراء في الصين وتوفي بمرض السل حينما كانت سوزان طفلةً في الخامسة. بعدها بسبع سنوات تزوجتْ أمها من ناثان سونتاج. مُنحت سوزان وشقيقتها جوديث اسم زوج أمهما مع أنه لم يتبناهما رسمياً.

نشأت سونتاج في توكسون، أريزونا، وفي ما بعد، في لوس أنجليس، حيث تخرجت من مدرسة نورث هوليوود الثانوية في سن الخامسة عشرة. بدأتْ دراساتها في بيركلي إلا أنها تحولتْ إلى جامعة شيكاغو حيث أنجزت دراسات الفلسفة و الديانة الكاثوليكية والأدب (كان ليو شتراوس وكينيث بورك من بين المحاضرين) وتخرجتْ بشهادة البكالوريوس في الآداب. أنجزت أطروحة الدراسات العليا في الفلسفة، الأدب والدين في هارفرد، كلية القديسة آني، أوكسفورد والسوربون.
في سن السابعة عشرة، حينما كانت في شيكاغو، تزوجت سونتاج فيليب ريف بعد تودد استغرق عشرة أيام. دام زواج سونتاج وريف ثماني سنوات وانفصلا في سنة 1958. أنجب الاثنان ابناً حمل اسم ديفيد ريف أصبح في ما بعد محرراً لأمه في كتابها (فارار، شتراوس، وجيروكس). هو أيضاً أصبح كاتباً. نُشر كتابها (ضد التأويل) (سنة 1966)، الذي صاحبه صورة فوتوغرافية لافتة لغلاف ورقي لكتاب مجلد التقطها المصور الفوتوغرافي هاري هس، ساعد في تأسيس سمعة سونتاج بوصفها (السيدة العابسة للآداب الأمريكية)، بسبب سيطرتها على جيلها نستطيع أن نلغي قوة حضورها الجسدي في حجرةٍ ما. نجوم السينما من مثل وودي ألن، الفلاسفة من مثل آرثر دانتو، وسياسيون من مثل المحافظ جون لينديس تنافسوا على التعرف إليها.
في ريعان شبابها تجنبت سونتاج ضروب التصنيف كلها. على غرار جين فوندا، ذهبت إلى هانوي، وكتبت عن مجتمع فيتنام الشمالية بمزيد من التعاطف والتقدير. حافظت على فارق جلي، على أي حال، بين فيتنام الشمالية والصين الماوية فضلاً عن الشيوعية الأوروبية، التي انتقدتها لاحقاً بقسوة بكونها ((فاشية ذات وجه إنساني)).
توفيت سونتاج في مدينة نيويورك في الثامن والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)، 2004 عن عمر واحد وسبعين عاماً من جراء تعقيدات المتلازمة الميلوديسبلاستيكية myelodysplastic syndrome. هذه المتلازمة نشأت عن لوكيميا نخاع العظم الحادة. كانت المتلازمة في الأرجح نتيجة للعلاج الكيمياوي والمعالجة بالأشعة السينية اللذين تلقتهما سونتاج قبل ثلاثة عقود من الزمن بسبب إصابتها بسرطان الثدي، ولاحقاً بنوعٍ نادر من سرطان الرحم. دفنت سونتاج في مقبرة مونتابارنيس في باريس، فرنسا.
بدأت مسيرة سونتاج الأدبية وانتهتْ بالروايات. بعد أن درّستْ الفلسفة في جامعة كولومبيا، كرّست سونتاج نفسها للكتابة كلياً. في سن الثلاثين نشرت رواية تجريبية حملت عنوان (المُحسن) (سنة1963)، بعدها بأربع سنوات صدرت لها رواية (عدة الموت) (سنة 1967). على الرغم من النتاج القليل نسبياً في هذا الجنس الأدبي، سونتاج تعدّ نفسها بشكل رئيس روائية وكاتبة قصة. قصتها القصيرة (الطريقة التي نحيا بها) نشرت باستحسان كبير في السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، 1986 في جريدة (النيويوركر). هذه القصة التي كُتبت باسلوب سردي تجريبي، تبقى نصاً أساسياً في موضوع وباء الأيدز. حققتْ سونتاج نجاحاً شعبياً متأخراً من خلال روايتها (عاشق البركان) (سنة 1992) التي حققت أفضل المبيعات وأمستْ سونتاج روائية ذات رواج واسع. في سن السابعة والستين نشرت سونتاج روايتها الأخيرة (في أمريكا) (سنة 2000). كلا الروايتين تجري أحداثهما في الماضي، وتقول سونتاج، إن ذلك منحها حريةً أكبر في الكتابة بصوت متعدد (بوليفوني).
بوصفها كاتبة مقال، على أي حال، نالتْ سونتاج شهرةً وسوء سمعةً في زمن مبكر واستمر ذلك زمناً طويلاً. كتبت سونتاج مراراً عن التقاطع بين الأدب الرفيع والأدب الهابط. كانت مقالتها الشهيرة والمقروءة بصورة واسعة التي كتبتها سنة 1964 والموسومة بـ (ملاحظات حول معسكر) تعريفاً لعهد تميز بأحداث بارزة، ومعاينة لحساسية بديلة للجد والهزل. وأومأت أول مرة إلى مفهوم ((التحسن نحو الأسوأ)) في الثقافة الشعبية. وكذلك ساهمتْ سونتاج بمقالة (في التصوير الفوتوغرافي) سنة 1977. هذه المقالة منحتْ طلبة وأساتذة الإعلام وجهة نظر مختلفة تماماً تتعلق بالكاميرا في العالم الحديث.
سكنت سونتاج في سيراييفو شهوراً عديدةً خلال الحصار، في ما كانت تخرج مسرحية (في انتظار غودو) في مسرح سراييفو المضاء بالشموع.
في سنة 1989 كانت سونتاج رئيساً لـ (مركز القلم الأمريكي)، الفرع الرئيس في الولايات المتحدة لمنظمة القلم العالمية الخاصة بالأدباء. ففي تلك السنة أصدر آية الله الخميني فتوة باهدار دم سلمان رشدي بعد نشره لرواية (الآيات الشيطانية). ذهب خميني وبعض الإسلاميين الأصوليين إلى أن الرواية كانت تجديفية. دافعت سونتاج دفاعاً عنيداً عن رشدي وحشدتْ الكتاب الأمريكيين للدفاع عن قضيته. بعد ذلك بسنوات قلائل لفتت سونتاج الانتباه بإخراجها لمسرحية بيكيت (في انتظار غودو) خلال حصار سراييفو الذي استغرق نحو أربع سنوات. في وقت مبكر من ذلك النزاع أشارت سونتاج إلى الاجتياح الصربي والمذبحة التي جرت في البوسنة بوصفها ((الحرب الاسبانية الأهلية لعصرنا)). أثارت جدلاً بين اليساريين في الولايات المتحدة بسبب تأييدها التدخل العسكري الأمريكي والأوروبي.
أثارت سونتاج الغضب بسبب كتابتها أن ((موزارت، باسكال، الجبر البوولي، شكسبير، الحكومة البرلمانية، الكنائس الباروكية، نيوتن، تحرير النساء، كنط، باليهات بالانشين (راقص ومصمم رقص روسي – م.) لا تكفر عما جلبته هذه الحضارة تحديداً من خطايا إلى العالم. العِرق الأبيض هو سرطان التاريخ الإنساني)) (مجلة بارتيسان رفيو، شتاء 1967، ص57). قدّمت سونتاج اعتذاراً ساخراً على هذا التعليق، قائلةً أنه (أي التعليق) كان متبلداً بإزاء ضحايا السرطان.
في سنة 1968 أُنتقدت سونتاج بسبب زيارتها لـ هانوي، عاصمة فيتنام الشمالية، خلال الحرب الفيتنامية.
أثارت سونتاج جدلاً على تعليقاتها المنشورة في صحيفة (النيويوركر) الصادرة يوم الرابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2001 بشأن الآثار الفورية لهجوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. كتبتْ سونتاج قائلةً: ((أين هو الاعتراف بأن هذا لم يكن هجوماً (جباناً) على (الحضارة) أو (الحرية) أو (النزعة الإنسانية) أو (العالم الحر) إنما هجوم على الدولة التي تنادي بنفسها بوصفها (القوة العظمى) في العالم، وقد جرى هذا الهجوم بوصفه نتيجة لتوافقات وأفعال أمريكية محددة؟ كم من المواطنين الأمريكان كانوا يعون بالقصف الأمريكي المستمر للعراق؟ وإذا ما جاز لنا أن نستخدم كلمة (جبان)، فربما هي تنطبق بصورة مناسبة على أولئك الذين يقتلون البشر مما وراء مدى الانتقام، عالياً في السماء، أكثر مما تنطبق على أولئك الذين يقتلون أنفسهم كي يقتلوا الآخرين. في ما يتعلق بمسألة الشجاعة : مهما يقال عن مرتكبي مذبحة الثلاثاء فهم ليسوا جبناء.))
في أكثر من كتاب واحد كتبت سونتاج عن المواقف الثقافية من المرض. عملها الأخير غير القصصي (في ما يتعلق بوجع الآخرين) فحصت الكاتبة ثانيةً الفن والتصوير الفوتوغرافي من وجهة نظر أخلاقية. ويتحدث الكتاب عن كيفية تأثير الاعلام على رؤى الثقافة للصراع.

إليزابيث فارنزورث : نالت رواية سوزان سونتاج المسماة (في أمريكا) جائزة الكتاب القومي للأدب القصصي سنة 2000. كانت هذه الجائزة آخر التشريفات العديدة التي نالتها سونتاج – بضمنها (هبة مكارثر للنبوغ – مكارثر جينيس غرانت)، التي كتبت ثلاث روايات أخرى، قصصاً قصيرةً، مسرحية، وستة أعمال لا تندرج ضمن الجنس القصصي. ذات مر أعلنتْ سونتاج بأن كل عمل من أعمالها يقول : ((كنْ جاداً، كن مشبوب العاطفة، استيقظ.)) عاشتْ حياةً تورطت بقوة بالأفكار ومذهب الفعالية(). قرأت وكتبت بنهم، مغطيةً موضوعات تتراوح بين المرض والتصوير الفوتوغرافي، بين السينما والأدب. حازت أول مرة اهتماما واسعاً بمقالة كتبتها سنة 1964 حملت عنوان (ملاحظات حول معسكر)، وفيها عرّفتْ بصورةٍ مؤثرة ذلك المصطلح الزلق، المراوغ. بوصفها ناشطة مناوئة للحرب، زارت سونتاج هانوي في أثناء قصف الولايات المتحدة هناك، لكنها في ما بعد وبختْ اليسار الأمريكي بسبب عدم انتقاده الأنظمة الشيوعية القمعية في أوروبا الشرقية واي مكان آخر بمزيد من القوة.
سوزان سونتاج : إنه، إذاً شيء ذو معنى حين يقول بتروف : ((أنتِ تجعلينني عصبياً.))

إليزابيث فارنزورث : في السنوات الأخيرة أخرجت سونتاج مسرحية صموئيل بيكيت المسماة (في انتظار غودو) في سراييفو المحاصرة، مستخدمةً الأضواء الومضية والشموع في غياب التيار الكهربائي. سافرت أكثر من دزينة من المرات الى المدينة في ذروة الحرب التي دارتْ هناك. وثمن الجمهور المخاطر التي واجهتها هي وطاقم التمثيل كي يقدّموا المسرحية. كانت روايتها (عاشق البركان) الصادرة في سنة 1992 من أفضل المبيعات. وهي معروفة جيداً كي تكون في قائمة معتقدات كيفن كوستنر في دوره بوصفه لاعب بيسبول في الفيلم السينمائي (البوليس السري دورهام).
الممثلة : ما الذي تؤمن به، إذاً؟
كيفن كوستنر : عجيزة امرأة، الكرة المعلقة المائلة، الخُلُق الرفيع، الويسكي الجيد، إلا أن روايات سوزان سونتاج مغامرة خطيرة، منغمسة ذاتياً، ومفرطة.
الممثلة : هل ترى وركيّ؟
كيفن كوستز : أجل.
الممثلة : وأعتقد أن سوزان سونتاج لامعة الذكاء!

إليزابيث فارنزورث : نعود إلى الحائزة على (جائزة الكتاب القومي) سوزان سونتاج. تهانينا.
سوزان سونتاج : لك وافر الشكر.

إليزابيث فارنزورث : كتاب (في أمريكا) أستند إلى قصة حياة حقيقية لممثلة بولندية (هيلينا موديسكا – م.) جاءت إلى أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر كي تخلق نوعاً من مجتمع يوتوبي. ماذا عن تلك القصة التي جذبتكِ وجعلتكِ ترغبين بأن تصنعي منها روايةً؟
سوزان سونتاج : حسن، أولاً، كنتُ أرغب دوماً أن أكتب رواية تكون فيها الشخصية الرئيسة عازفة موسيقية، امرأة، ممثلة، مغنية أوبرا، راقصة. ذات مرة شرعت بكتابة رواية لم أكملها حيث كانت البطلة مُلهمة بصورة مبهمة من قبل ايزادور دنكان (راقصة تعبيرية أمريكية – م.) لذا أردتُ أن أكتب روايةً عن المسرح، ومن ثم أردتُ أن أكتب رواية عن قومٍ يكتشفون أمريكا. لذا فإن الفكرتين خطرتا ببالي حين سمعتُ بهذه الممثلة التي أقبلتْ إلى أمريكا في سبعينات القرن التاسع عشر.

إليزابيث فارنزورث : وهل احتاج الأمر لأن تكوني في الزمن الماضي كي تقومي بما أردتِ أن تفعليه؟
سوزان سونتاج : حسن، ثانيةً، أردتُ أن أضعه في الزمن الحاضر. ومن ثم فكرتُ، ((أوه، لم لا، لم لا))، لأن ما هو ممتع جداً في الزمن الماضي هو أنه شديد الشبه بالزمن الحاضر. وان كل أنواع الأشياء التي نحسبها أمريكية معاصرة جداً كانت موجودة أصلاً في القرن التاسع عشر. لذا كان لي وقت رائع وأنا أكتشف تلك الحقبة الزمنية. انها تحديداً حقبة ما بعد الحرب الأهلية. لم أشأ أن أقوم بكل العمل الذي يتطلب أن أنشئه تدريجياً وبجهد وأن أصححه، لكنني أحسستُ في النهاية أنه عمل يستحق العناء بكل معنى الكلمة وهو مثير جداً.

إليزابيث فارنزورث : تناول العمل شخصية الممثلة بقدرٍ كافٍ لكنني كنتُ منذهلة بالقدر الذي تناولتْ فيها الرواية أمريكا، كما دهشت بالطابعين. ثمة نوع من طابع حدادي يتعلق بما ضاع هنا من الزمن الماضي، وكذلك هذا الطابع المبهج العظيم المتعلق بما هو متيسر وممكن هنا. هل هذا هو ما عنيتيه؟
سوزان سونتاج : حسن، الشيء الممتع أن هذه الأشياء كلها موجودة دوماً في أمريكا – في الحقبة التي أعقبت الحرب الأهلية كان أناس الولايات المتحدة يندمون على تبني الطرائق العصرية وعلى الفساد الأخلاقي والروح الجشعة ويرجعون إلى أمريكا الأسبق حيث كان الناس فضلاء، مستقيمين أخلاقياً وكانت القيم العائلية أقوى ولم يكن الناس مولعين جداً بالمال. فهي إذاً فكرة معمرة. ومن ثم يوجد هذا المعتقد المدهش، ينبغي لي القول إنني قاسمتُ نفسي، المعتقد المدهش في قوة إمكانية إعادة اكتشاف الذات. نحن دوماً نؤمن بأمريكا : بوسعنا أن نبدأ ثانيةً، يمكننا أن نقلب الصفحة، يمكننا أن نكتشف أنفسنا، يمكننا أن نحول ذواتنا من حال الى حال. لذا حسبتُ أن ذلك كان.. ذلك كان إغراء أمريكا لهذه المجموعة من المهاجرين البولنديين. هم ليسوا لاجئين اقتصاديين (أي جاءوا هرباً من الفقر والعوز – م.) ؛ لم يأتوا الى هنا بالأمكنة الرخيصة من سفن الركاب. اختاروا المجيء إلى أمريكا ؛ كانوا يريدون أن يصبحوا أناساً مختلفين. وثمة مغامرة كبرى هناك كي تحوّل ذاتك، أن تعيد اكتشاف ذاتك كما يفعل الممثلون، بطبيعة الحال، طيلة الوقت حين يكونون على خشبة المسرح.

إليزابيث فارنزورث : كيف تأتي إليكِ شخصية الرواية أو القصة أو المسرحية؟ مارينا، في سبيل المثال، الممثلة.. هل أن سطراً ما.. هل تأتي إليكِ الكلمات أولاً أم الملابس أم صورة ما؟
سوزان سونتاج : هذا سؤال جيد جداً، أنتِ تعلمين أن جون جيلجود (ممثل ومخرج انجليزي. مثل أدوار روميو وهاملت والملك لير وغيرها – م.) قال هو ذا ممثل، وليس كاتباً – قال ((أول شيء أحتاج إلى معرفته حين أنشئ شخصية تدريجياً وببطء هو كيف يمشي ذلك الشخص)). أعتقد أنني أحتاج إلى معرفة كيف يتحدث ذلك الشخص. أحتاج إلى سماع إيقاعات الكلام. إنها الطريقة التي يتكلم بها الشخص أو الطريقة التي يحس بها الشخص. إنها في النهاية مجموعة كاملة من الأحاسيس. لكنني أبدأ مع موضوع ما، ثيمة ما، وكانت هذه الثيمة مسرحاً، إعادة اكتشاف الذات، اكتشاف أمريكا. لكنني أردتُ أن أحكي رواية... أردتُ أن أكتب رواية، أحكي قصة، حيث تكون الشخصية الرئيسة امرأة مكافحة. وهل سيكون كتاباً يندرج ضمن المدرسة الواقعية؟ أعني، أن المرأة ليست ملاكاً، لكنني أحبها حباً جماً. أكن لها الإعجاب. وأعجب بشجاعتها. بجرأتها. وأردتُ أن أكتب روايةً عن إمرأةٍ ما.

إليزابيث فارنزورث : يمكنني أن أحدد مقدار حبك لها. هل أحببتِ أن تدوني ذلك الكتاب؟ أتذكر أنكِ قلتِ عن كتابكِ الأخير أنكِ كنتِ في حالة اهتياج حينما كنتِ تدونينه. هل كنتِ في الحالة نفسها مع هذا الكتاب؟
سوزان سونتاج : حسن، سأقول لك، هذا الكتاب كان إنجازه أصعب قليلاً لأنني دونت (عاشق البركان)، روايتي الأخيرة من دون انقطاع، على مدى سنتين ونصف، أشتغل عليه يومياً طيلة سنتين ونصف حين بدأ ينتهي، بصورة متعاقبة. أما هذا الكتاب فكان له بعض الانقطاعات الجدية. كنتُ في سراييفو في معظم الأوقات على مدى ثلاث سنوات وأثناء الحصار. كنتُ.. قد تعرضتُ الى حادث مروري خطير بعد مضي برهة قصيرة على نهاية الحرب ومن ثم أُصبت بالسرطان من جديد، وتوّجب عليّ أن أتوقف عن الكتابة سنةً كاملةً. لذا كنتُ أفكر دوماً بأنني ((أضعتُ الكتاب. خسرت الكتاب. خسرتُ الكتاب))، لأنني أعتقد أنه ينبغي لكِِ أن ترسمي بفرشاة ندية. وشعرتُ أن مارينا ربما أصبحتْ مكتئبةً نوعاً ما لأنني شخصياً شعرتُ بشيء من السوداوية. إنما في النهاية، لا، كان لديّ وقت رائع، إلا انه لم يكنْ نفس الإحساس بالنشاط والخفة. كان هناك المزيد من الكفاح في حياتي الشخصية، وما جعل كتابتي له تتعرض للانقطاعات. استغرقت كتابته زمناً أطول بسبب هذه الانقطاعات.

اليزابيث فارنزورث : أود أن أسالكِ عن الكفاح في حياتكِ الشخصية. كيف هي حالتكِ الصحية ومدى تأثيرها على كتابتك الآن؟
سوزان سونتاج : حسن، صحتي جيدة. أشعر.. إني متلهفة جداً للحديث عن السرطان، عن كوني مصابة بمرض السرطان. هذه هي ثاني مرة أكون فيها مصابة بمرض السرطان، وهو سرطان أولي جديد، ليس ورماً خبيثاً منتشراً في أجزاء الجسم – ليس لأنني أميل إلى لفت الأنظار إليّ بل لأنني أريد أن أشجع الناس لأننا كلنا نعرف أن شخصاً ما مصاباً بالسرطان. قد يصاب به قريب، صديق، أو كثيرون منا سيصابون به في مرحلةٍ ما في حيواتنا. أريد أن أشجع الناس على الحصول على معالجة جيدة. هنالك علاج جيد جداً، جداً. أخذتُ علاجاً جيداً جداً، علاجاً صارماً جداً. كان علاجاً موجعاً جداً، جداً في الواقع، أعني أنه.. كان عسيراً، كان عسيراً، إلا انه وهبني فرصةً جيدةً جداً كي أتماثل للشفاء، ومعظم أنواع السرطان بالإمكان الشفاء منها الآن إذا تلقى الناس النوع الصحيح من العلاج. لذا فأنا متلهفة جداً للحديث عنه وأن أكسر هذا المحرّم (التابو)، بخاصة مع ذلك المرض، ((أوه، أنتِ لا ترغبين بالحديث عنه، انه شيء مخزٍ.)) انه مجرد مرض شأنه شأن أي مرض آخر، إلا أنه مرض خطير إلى حدٍ ما.

اليزابيث فانزورث : وبطبيعة الحال لقد كتبتِ عنه. كتبتِ عنه حين كنتِ مصابة بالسرطان من قبل. وأردتُ أن أسألكِ عن مقالاتكِ. كتبتِ هذه المقالات الخطيرة جداً وقرأتها قبل أن أقرأ الرواية وقد ذهلت بطابع الرواية. كان لها طابع خفيف بكل معنى الكلمة. كانت تحتوي على دعابة مدهشة. ما هي، في رأيكِ، العلاقة بين رواياتكِ وهذا الماضي المليء بالفعالية الفكرية والجدّية التامة الذي امتلكتهِ؟
سوزان سونتاج : حسن، أخمن.. أخمن أنني امرأة جادة (قالت وهي تبتسم ابتسامة عريضة). الروايات تمثلني أكثر من المقالات. في المقالات كنت نوعاً ما أدير نفسي بكرنك وأحاول أن أقول شيئاً حقيقياً وفصيحاً ونافعاً، إلا أنها كانت شيئاً قليلاً من سترة المجانين وشعرتُ أن معظم أجزاء كياني ليست في المقالات كما هي عليه في الروايات. الرواية أقرب إلى نفسي والى الطريقة التي أحبها فيها والى المدى الذي أملكه. لهذا السبب أود حقيقةً أن أكتب روايةً الآن.

اليزابيث فانزورث : هل توصلتِ حقيقةً إلى قرار مفاده أن بوسعكِ أن تهبي السعادة للناس من خلال الروايات بالقدر نفسه حين تقومين بدورك كناشطة أو كما في كتابة المقالات؟
سوزان سونتاج : حسن، إن النشاط الاجتماعي أو السياسي، إذا ما تحدثتُ حصرياً، هو ما أفعله بوصفي مواطنة وإنسانة. وهذا لا شأن له مع كوني كاتبة. كنتُ أتمنى أن أكون قد ذهبت إلى سراييفو وأن أفعل أي شيء من دون أن أكون كاتبة لأنني لم أذهب إلى هناك كي أكون كاتبة. لم أذهب إلى هناك كي أكتب عن مآسي الحرب وويلاتها. ذهبتُ إلى هناك كي أعمل في المدينة، كي أحيا وأعمل في المدينة. لذا فإن النشاط الإنساني والاجتماعي يبقى، إلا أن ذلك هو إيماني بالعمل الصالح. أعتقد أن الناس.. إني أؤمن بالايثار، بحب الغير. أعتقد إنه بين الحين والآخر ينبغي لكِ أن تفعلي شيئاً ما للناس الآخرين – قوم لا صلة لكِ بهم، قوم لا مصلحة لكِ عندهم – افعلي فقط شيئاً ما لبشر آخرين تعبيراً عن إحساسك بالتضامن. هو في الأرجح شيء اعتباطي جداً، لكن، كما تعرفين، بين الحين والآخر ذلك، في اعتقادي، جزء من حياة إنسانية طيبة. إنما، نعم، أريد أن أملك مزيداً من اللون ومزيداً من العاطفة في كتابتي، ولذا أحسب أنني أشجع قليلاً. أحسب أنني حقيقةً كاتبةً أفضل مما اعتدتُ أن أكون. أنني لا.. أعتقد أن السعادة شيء رائع. وكذلك فإن الروايات ليست متعة فقط، أعتقد أنها (أي الروايات) تربية المشاعر. إنها توّسع إحساسك. إنها تجعلكِ.. يجب عليها أن تجعلكِ مشبوبة العواطف أكثر، وأن تملكي مزيداً.. مزيداً من التقمص العاطفي مع البشر الآخرين. الروايات تكافح ضد هذا الجفاف، هذا الجفاف الذي تحس به أعداد غفيرة من البشر.
اليزابيث فارنزورث : هل ستقرأين لي من الرواية وتفسرين ما تقرأينه؟
سوزان سونتاج : أوه، حسن، أنتِ تعرفين، أنني أحسد الشعراء لأنهم يحشرون أشياءً كثيرةً في أبيات قليلة أما نحن كتاب النثر فنأخذ حصةً قليلةً.. سأقرأ من النهاية. إنه مونولوج (حوار داخلي). إنه ادوين بووث، الممثل الأمريكي العظيم، الممثل التراجيدي، ممثل مسرحيات شكسبير. إنه يتحدث هنا. إنه، بالطبع، كما تعرفين، الأخ الأكبر لـ جون ويلكس بووث الذي اغتال لنكولن. هذا في ما بعد. هذا هو عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر. لكنه يمثل مع ممثلتي البولندية. كانا يمثلان في (تاجر البندقية). وقد عادا إلى حجراته. وهو، بطبيعة الحال، سكير، وكاد أن يهجم عليها ويشكو ويبكي وينتحب، بسبب حياته الرهيبة. كانت له حياة رهيبة. كان شخصية مأساوية جداً. هذه هي بداية الجزء الأخير من كتابي (في أمريكا). إنه ادوين بووث. الممثل الأمريكي العظيم يتحدث. ((كما ترين، عزيزتي مارينا، أنا واثق أننا نستطيع أن نستغني عن السيدة مارينا والسيد بووث الآن ذلك أننا الآن وحيدان وأنا مرهق ومتخم بالاستحسان وأحتاج إلى أن أكون مثل السكران تماماً. ينبغي لي أن أخبركِ بأنني لم أوافق حين ترجلتِ عن خشبة المسرح ولمستني الليلة. أبقي عينيك مركزتين عليّ تماماً، متجاهلةً الآخرين في قاعة المحكمة، ما من اعتراض على ذلك. كلانا نتفق على أن الكلام موجه إلى شايلوك. إن طبيعة الرحمة ليست متكلفة. إنها تهبط كما يهبط المطر الناعم من السماء. لا، إنها لا تهبط، إلا أن هذه ليستْ هي المسألة هنا، التي هي مسألتي. إن مسألتي هي أن بورشيا تحاول أن تقنع شايلوك وهكذا هي تريد أن تقنعه. هو ليس من الطراز الذي يقتنع بسهولة. يملك هو الكثير من المظالم، ربما تقنع بورشيا نفسها بواسطة الشخص المحطَم إلا أنه يجب على بورشيا أن لا تمس شايلوك البتة، حتى إذا مستْ كتفه فقط، كتفه فقط، أو مستْ أي جزء آخر من جسمه. لا لمس على الاطلاق. شايلوك يتألم. بووث يحدق في كأس الويسكي التي يحملها ولأنه متألم فهو سريع الغضب.)) (تضحك)

اليزابيث فانزورث : ختاماً، قلتِ أنكِ تريدين أن تواصلي كتابة المزيد من الروايات. هل تشتغلين على شيء ما الآن؟
سوزان سونتاج : أجل، لدي رواية أخرى، تجري أحداثها في عشرينات القرن العشرين، لذا فإنني أتقدّم زمنياً. في الرواية التي تعقبها، سأتناول القرن الواحد والعشرين. وتجري أحداثها في اليابان.
اليزابيث فانزورث : حسن، سوزان سونتاج، تهانينا ثانيةً وأتقدم اليك بوافر الشكر على إنضمامك إلينا.
سوزان سونتاج : شكراً جزيلاً لك، اليزابيث فانزورث. شكراً.

المصدر : شبكة الانترنت، wikipedia
أصل الحوار من : Online New hour

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...