أدونيس: تساؤلات حول استفتاء المتنبي
في بعض الأجوبة عن الاستفتاء حول المتنبي مع بعض الشعراء، ما يدعو الى تساؤلاتٍ أوجزها، استكمالاً لهذا الاستفتاء وعلى هامشهِ، كما يلي:
أًوّلاً، هل يصح تقويم الشعر بوصفه «عملاً»؟ الشّعر «لغة»، لذلك ينبغي تقويمه جماليّاً – فنّياً، بحصر المعنى. وليس «عملاً» لكي نقوّمه أخلاقيّاً، سلباً أو إيجاباً. الإصرارُ على تقويم الشعر، أخلاقيّاً في نوعٍ من «محاكمة» صاحبه، انما هو اصرارٌ على الاستمرار في متابعة «تقليدٍ»، تنكره، جَذريّاً، جماليّات الإبداع الفنّي – وبخاصّةٍ في عالم اليوم.
الشعر طريقةٌ في الحسّ بالوجود، وفي فهمه، وفي التّعبير عنهما. فلا يصحّ النّظر اليه إلاّ في حدود جماليّته، في معزلٍ عن كلّ بُعدٍ أخلاقيّ. فالشعر، تحديداً، «خَرقٌ» (يجوز له ما «لا يجوزُ لغيره)، فكيف يصحّ أن نُخضعَهُ للواجب، أو لما «يجب»؟
ثانياً، يثبت هذا الاستفتاء أنّ مشكلة الشعر العربيّ، اليوم، إنما هي، في المقام الأوّل، مشكلة قراءة. المثل الأكثر بروزاً ومباشرةً في هذا الإطار هو القراءة السّائدة لشعر أبي نواس. فقد قُرئ هذا الشعر بوصفه، حَصراً، شِعر خمرةٍ ومُجون. هكذا تمزج هذه القراءة، على نحوٍ مُسبَّقٍ وقَبليٍّ، بين «علم» الجمال، و «علم» الأخلاق، محوّلةً الحكم الأخلاقي الى حكم جماليّ. وقبل ذلك تختزل شعر أبي نواس، مُقلِّصةً إيّاه في ما يُخرجه من شعريته نفسها. هكذا تجهل هذه القراءة أنّ أبا نواس، فيما «يُترجِمُ» كينونةَ الخمرة (لكي أبقى في حدود هذا الاختزال)، يترجمُ حياته، وحاضره، ووجوده.
يقول علاقته بجماليّة البداوة، مؤسساً لجمالية المدينة (الحضارة)، ويقول علاقته بالقيم التقليدية والدينية، مؤسّساً للقيم المدينيّة المدنيّة،
ويقول علاقته بتقاليد الأمّة أو الجماعة، مؤسّساً للحريّة الشخصيّة و «تقاليدها».
ويقول علاقته ببنية القبيلة – الفّرد، مؤسّساً لعلاقة الذات – الآخر، ويقول علاقته بالشعر، مؤسّساً لشعريّةٍ جديدة.
وهذا كلّه «تغطيه» تلك القراءة، بل تطمسه، وتمحوه.
واليوم، بدلاً من أن يُدرس شعر أبي نواس بوصفه رؤيةً شاملةً للوجود، وبوصفه أحدَ المبدعين الكبار في التّاريخ الشعريّ، العربي والكونيّ، يُدرس بإصرارٍ (وجَهلٍ) بوصفه «شاعرَ الخمرة»، العابثَ، الماجنَ، (والشعوبيّ، أيضاً). ولا بُدّ، إذاً، من أن يكون «رجعيّاً».
كيف يمكن تاريخٌ تهيمن عليه مثل هذه القراء أن يكون تاريخاً إنسانيّاً، أو شعريّاً؟
وليس هذا المثل إلاّ واحداً من أمثلة كثيرة، لا في الشعر وحده، وإنما كذلك في الثقافة، بأشكالها جميعاً، ومن ضمنها الدّين نفسه.
ثالثاً، يقول الشعر كلّ شيء، لا قولَ بُرهانٍ، بل قول استِبصار. والخطأُ الأول في قراءته هو اتّخاذ القصيدة بُرهاناً من أجل «حكمٍ» على الشاعر، سلباً أو إيجاباً، في سُلّم القيم الأخلاقيّة. هذه «قراءةٌ» لا يمكن أن تكون شعريّة، وهي في الوقت نفسه غير أخلاقيّة. ذلك أنّها لا تواجه القصيدة بوصفها فَنّاً، وانما تواجهها بوصفها «استثماراً» أو طريقة استعمالٍ في السوق السياسية – الثقافيّة. وهي، تِبعاً لذلك، تُقلّص الشعر في كيفيّة استخدامهِ، اجتماعيّاً. هكذا تُضمر هذه القراءة، من حيث لا تَدري، هَدفاً بائِساً هو إبطال الشّعر بإلغاء خصوصيّته.
رابعاً، كلّ قراءةٍ حقيقيةٍ للشعر تميّز بين طبقاته ومستوياته، بين ما يقوله الشاعر بوصفه ذاتاً، وما يقوله بوصفه آخرَ، أو متقمِّصاً الآخر. وفي هذا ما يُزلزِلُ الخطية – الأفقيّة في القصيدة، وما يجعلها مَسرحاً تتداخَلُ فيه وتتجابهُ أصوات الماضي والحاضر والمستقبل – تاريخاً وسياسةً وفنّاً، واستِشرافاً.
دون هذه القراءة العميقة، لا يرى القارئ في القصيدة إلاّ الأشياءَ التي يُضمِرها مُسبقاً، إلاّ ما يلتقطه على سطحها ذهنه المركّب على النظرة الاستعماليّة، المسكونة بقبليّاتٍ متنوّعة، إيديولوجيّة، على نحوٍ خاصّ. وهذه النظرة الاستعماليّة تُخرج المعانيَ والدلالات من سياقاتِها الأصليّة، بحيث يُصبح هوَى القارئ سيّداً ومرشداً.
ليس عجيباً، إذاً، أن تُهيمنَ المرجعية الأخلاقية والسياسيّة والدينية على القراءة الشعريّة السّائدة. مثلاً، لا يرى القارئ «المتديّن» أو «المؤمن» في الشعر الذي يُسمّى حديثاً إلاّ «الكفر» و «الإلحاد». و «المؤمن» هنا واحدٌ: سواء كان يؤمن بوطنٍ «أبديّ» في السماء، أو بوطنٍ «تقدميّ» على الأرض.
ليس عجيباً كذلك أن نرى مفكّرين عرباً يفخرون، كمثل كثيرٍ من الفقهاء و «أهل العلم»، أَنهم لا يُعنَوْن قطعيّاً بالشعر. كأنّهم لا يريدون أن يتعرَّضوا لغواياته، أو لا يريدون أن يُعرّضوا «حقائقهم» و «عقولهم» لحدوسه وتخييلاته.
لكن، ما يكونُ فكرٌ لا يتلألأ في عينيه ضوءُ الشّعر؟
«الثّوريّة» و«السَّلفية»: الوجه والقفا
أستغرب حَقّاً كيف لم ينتقدني الدكتور سماح إدريس (العدد الأخير من مجلّته «الآداب»)، لكتابتي عن ابن تيميّة، المعلّم الأول، أو «الشيخ الأكبر» للسَّلفية المعاصرة – واكتفى بنقد كتابتي عن أحد تلامذته، محمد بن عبدالوهّاب، كما فعل من قبل أصدقاؤه الثوريون، بروحٍ سلفيّة، والسلفيون بعباءةٍ ثورية. لكن، لعلّه لم يقرأ الكتاب الذي ينتقده، ولعلّهم هم كذلك لم يقرأوه.
للتذكير، أيضاً وأيضاً (لمن تنفع الذكرى) أَنّ كتابتي عن محمد بن عبدالوهّاب تندرج في دراسة طويلة صدرت بأربعة أجزاء (الثابت والمتحول: بحث في الاتّباع والإبداع عند العرب) وكان عليّ أن أقومَ بها، علميّاً ومنهجيّاً، لكي استكمل البحث في الفكر الإسلاميّ السّلفي (الثبات) وتجلياته الحديثة بدءاً من القرن الثامن عشر، وبعد زوال الامبراطورية العثمانية، كما تمثّلها، بخاصةٍ، الحركة الفكرية الوهابيّة. ولو أنني أهملت هذه الحركة، لكان ذلك نَقصاً كبيراً، خصوصاً أنها تمارس تأثيراً ضخماً على عقول الأجيال الإسلامية الطّالعة، بل إنها الأكثر تأثيراً، على المستوى الديني، في العالم الإسلاميّ، اليوم.
وكنت أنتظر مناقشة ما قلتهُ عن هذه الحركة، وموقفي منها، والسُّبلَ الفكريّة لتخطّيها. لكن خاب ظَنّي. فقد جعل الدكتور إدريس وأصدقاؤه من مجرّد ذكر اسم محمد بن عبدالوهّاب «جريمة» سياسيّة وفكريّة، وكادوا أن يصفوني بأنّني «وهّابيّ». إنه الغَرقُ في المستنقع الفكريّ الذي يطوّقنا: إنه «السّحر» إيّاه. تكفّرك السلفية لأنّك تكتب عن الحداثة، وتكفّرك الحداثة لأنّك تحرص على معرفة «المنطق» السّلفي، والعقليّة السلفية والفكر السَّلفي. إنها البنية العقليّة التكفيرية ذاتها، «سِحريّاً»، ومن خارج، ودون أيّة مناقشةٍ للمادة المكتوبة. البنية العقلية إياها التي قادت الثقافة الإسلامية بسيفين: سيف التّحليل، وسيف التَحريم. وهي ثنائيّة دمّرت الحياة العربيّة.
نحلّل الكلام على هذا الفكر أو هذا الشّخص، ونحرّمه على ذلك الفكر، أو ذلك الشخص. وليست السُّلطات هي وحدها التي تمارس هذا التَحليل وهذا التحريم، وإنما يمارسه كذلك المفكّرون وأصحاب العقائد. فعلت ذلك الأحزاب اليساريّة والأحزاب القوميّة. كان مجرّد ذكر ماركس أو لينين يُعّد انحرافاً و «جريمةً» في الأوساط القوميّة. وكان مجرّد ذكر انطون سعادة، يُعدّ هو كذلك انحرافاً وجريمةً في الأوساط الشيوعيّة واليسارية، وفي الأوساط العروبيّة.
وهذا ما فعلته الناصريّة – السلطة في مناوئيها. وما فعله حزب البعث – السّلطة في مناوئيه. وهذا ما فعلته القيادة الجماهيريّة العظمى... إلخ، إلخ.
وها نحن اليوم نتابع هذا النّضال «الفكريّ» العظيم بفضل الدكتور سماح ادريس ومجلّته وأصدقائه.
وطوبى لأهل هذا النّضال، وحدهم، فهم وحدهم «القبيلة» التي تحتلُّ المكانة الثقافيّة العليا بين «القبائل»، وتملك مفاتيحَ الجِنَان كلها – الوطنية، والثوريّة، والتقدميّة، وتُمسك الى ذلك، بمفاتيح الفكر غير «الاستشراقيّ»، طبعاً.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد