مخاطر المظاهرات الإسرائيلية على دولة الكيان؟
تحوّلت المظاهرات التي بدأت في كانون الأول/ديسمبر الماضي، بعشرات آلاف المستوطنين، إلى مظاهرات ضخمة ضد سعي رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لإقرار تعديل قانوني يضّعف من سلطات القضاء، مقابل تعزيز سيطرته على مفاصل مؤسسات الكيان ومنها الأمنية والعسكرية.
وأحصت وسائل إعلام الاحتلال، أمس السبت، التاسع على التوالي في مسيرة المظاهرات الأسبوعية ضد الحكومة، نزول نحو ربع مليون مستوطن إلى شوارع المدن الأساسية في فلسطين المحتلة، وأبرزها القدس، تل أبيب، حيفا، بئر السبع، أشدود، هرتسيليا، ونتانيا.
وما بدا بارزاً بشكل متفاقم هذا الأسبوع، كان حجم المخاوف من توتراتٍ أمنية، وانزلاق المظاهرات نحو مواجهات وصدامات مع الشرطة.
وهي مخاوف عبّرت عنها جهات أمنية وإعلامية وسياسية عدة خلال الأسابيع السابقة، بشكل مدروس، لكنّ التحفّظ السابق انخفض منسوبه هذا الأسبوع، مع إعلان مسؤولين كبار أساسيين خشيتهم، من وقوع إطلاق نار ومواجهات حقيقية تنزلق بالوضع الأمني إلى مربع الخطورة القصوى.
ما أبرز معالم الخطورة التي تشكلها المظاهرات الحالية على الاحتلال؟
تشكّل الأزمة الحالية في "إسرائيل"، التي لا تقف عند حدود الانقسام السياسي، محنةً لم يعتد الاحتلال على التعامل مع مثيلاتها سابقاً، إذ لم يسبق أن شهد حركة اعتراض واسعة ضدّ حكومة يقودها إحدى الشخصيات السياسية الإسرائيلية الأساسية مثل نتنياهو.
جمهور معارض عابر للاصطفافات التقليدية في "إسرائيل"
لم تقتصر المظاهرات على فئات أو جماعات محددة، إذ يشارك فيها ضباط سابقون في الجيش والأمن، وقضاة سابقون واقتصاديون وصحافيون وتقنيون وأطباء وتجار وطلاب جامعات وغيرهم، ما يعني أنّ تأثيراتها ونطاقها يستحيل ضبطها أو السيطرة عليها، عبر الطرق الإسرائيلية المعتادة: "التعتيم" أو "العزل"، لأنها شاملة لمختلف قطاعات الاحتلال الاقتصادية وفئاته الاجتماعية.
كما تشارك فيها فئات عمرية مختلفة، إذ يشارك طلاب الجامعات بموازاة الفئات العمرية المتوسطة والمتقاعدين، كما يشارك فيها مستوطنون مهاجرون وصلوا إلى فلسطين المحتلة خلال فترات مختلفة، وينتمون تبعا لذلك إلى حقبات زمنية مختلفة.
وفوق ذلك، لا تتخذ المظاهرات بطبيعة الحال صفةً "دينية"، كما كان الحال في سنوات سابقة، مع احتجاجات بعض الجماعات الدينية كالحريديم، الذين رفضوا قوانين متعددة، كالتجنيد الإلزامي. وقتها، جرت محاولات لاحتوائهم وعقد اتفاقات معهم لتهدئة الأوضاع.
من هنا، تقف حكومة نتنياهو أمام معضلة تحتاج إلى حلول ذات طبيعة مختلفة عن سابقاتها. فمن غير المرجّح أن يكون بمقدور نتنياهو أن يلجأ إلى "عادته القديمة"، بتقاسم المصالح وتوزيع الحصص، بهدف إسكات الفئات المعترضة عليه سواءً من خصومه أو حلفائه، كما فعل، غير مرة، آخرها كان في تأليف الحكومة الحالية..
اتساع رقعة الاحتجاجات الجغرافية
برز معطىً جديد اليوم في المظاهرات، تحدثت عنه وسائل إعلام الاحتلال بشكل مقتضب. إذ أشارت إلى أنّ الاحتجاجات والتجمعات، التي بلا شكّ يظهر أنّ ثقلها هو في شارع "كابلان" في "تل أبيب" وفي حيفا ونتانيا وهرتسيليا، تجري كذلك في 95 نقطة في مختلف مناطق كيان الاحتلال.
وكان ملفتاً أنّ زعيم المعارضة، رئيس حكومة الاحتلال السابق يائير لابيد، اختار أن يشارك اليوم عبر إلقاء كلمة في هرتسيليا، ما يعني أنّ المعارضة بدأت تفكّر أكثر في إقحام المناطق البعيدة عن المركز بشكل متزايد في حركة الاحتجاج على حكومة نتنياهو.
وعبر الالتفات إلى خريطة توزع المظاهرات، تظهر مشكلة إضافية أمام سعي نتنياهو للسيطرة على الحركة الاحتجاجية المستجدة. إذ يبدو أنّ توزيع القوى الأمنية الإسرائيلية في عشرات المناطق، مع الحاجة إلى قوات كبيرة في المدن الرئيسية بسبب وجود عشرات آلاف المتظاهرين وإمكانية أكبر لحصول أعمال شغب أو مواجهات، تجعل الأمر مهمة مستحيلة.
وستكون أدنى أضرار محاولة القيام بها تحويل كيان الاحتلال إلى "كيان بوليسي"، وهو الاتهام الذي أجّج هذه الموجة من المظاهرات بالأصل، بسبب اتهام نتنياهو بسعيه للسيطرة على القوات المسلحة والأمنية من قبل معارضيه، ووصفه بـ"الديكتاتور".
تشويه إضافي لصورة الاحتلال وحكومة نتنياهو دولياً
أفادت القناة 12 الإسرائيلية، نقلاً عن مصادر مطلعة، بأنّ "الأميركيين يبحثون إصدار قرار بمنع وزير المالية بتسلئيل سموتريتش من زيارة الولايات المتحدة"، على خلفية الاتهامات الواسعة له بالعنصرية والإرهاب، لا سيما بعد دعوته خلال الأيام السابقة إلى "محو قرية حوارة في نابلس من الوجود".
وقد أجبر ذلك سموتريتش على الاعتذار عن هذه الدعوة في مقابلة تلفزيونية اليوم، والتي جاءت بالأصل تعبيراً عن تضامنه مع قطعان من المستوطنين هاجمت القرية الفلسطينية بحماية من قوات الاحتلال، وأحرقت عشرات المنازل والسيارات، وأدّت إلى سقوط شهداء وجرحى فلسطينيين.
وبعد ذلك، اضطرّ إلى وصف الهجوم على القرية الفلسطينية بـ "جريمة قومية خطيرة جداً"، لكنه أصرّ على أنها "ليست إرهاباً"، في وقت أصرّت جهات دولية على إدانتها، ودعت إلى التحقيق فيها.
حادثة، تشكل ضغطاً إضافياً على حكومة نتنياهو، إذ ستشكّل أي نزعة دولية لمقاطعة الحكومة، ضربة قاصمة لها، وهي التي كانت تراهن على أن يشكّل التطبيع مع بعض الدول العربية، رافعةً مهمة لها في الداخل.
لماذا لا يتراجع نتنياهو عن قراره؟
للإجابة على هذا السؤال الذي يبدو بسيطاً، ينبغي الإشارة إلى أنّ أزمة القيادة لدى كيان الاحتلال تعتبر إحدى أبرز أزماته في عقده السابع، حيث يفقد المستوطنون، سنةً تلو أخرى، ثقتهم بوجود قيادات مركزية قادرة على مواجهة التهديدات التي تعصف بالكيان.
ويبدو لافتاً أن هذه الحركة الاحتجاجية الواسعة، غير منصاعة بمجملها، لزعيم سياسي محدد يواجه نتنياهو، بل تعبّر أكثر عن غضب واسع على الأخير وسياساته المتبعة.
وإذا أراد نتنياهو، الذي يريد أن يصنفه الجمهور الإسرائيلي على أنه آخر "الزعماء القادة" على مستوى الكيان، والذي يرى نفسه صاحب "ماضٍ عريق" في السياسة وذو "شخصية كاريزماتية"، أن يتراجع الآن أمام هذه المظاهرات، فإن ذلك سيضع المسمار الأخير في نعش مسيرته السياسية، لأن هذا القرار سيُفهم من قبل المعارضة، وحتى من قبل مؤيديه أنه انكسار أمام ضغط الشارع.
هل يمكن أن ينجح احتجاج بلا زعيم ضد نتنياهو؟
يبدو أنّ الثورات الملونة في أوكرانيا والبلاد العربية خلال العقد الأخير، باتت اليوم عامل قلق إضافي لنتنياهو، لأنها السيناريو المرجّح حصول مثيل له في "إسرائيل" في حال استمرّ الوضع دون أفق منظور للحل، لا سيما وأنه من غير المعلوم أنّ هذا الاحتجاج سينتهي بشكل حاسم وتام، في حال تراجعت الحكومة عن قراراتها، إذ يمكن أن تنسحب المطالب على قضايا إضافية.
وترفع المظاهرات الحالية شعارات تكتسب تلقائياً تأييداً دولياً واسعاً، إذ أنها تطالب بمحاكمة نتنياهو في قضايا فساد، كما ترفع شعارات تطالب بالديمقراطية، وفصل السلطات.
كذلك، فإنّ غياب زعيم سياسي محدد للاحتجاجات يجعل القدرة على التحكم بها والمناورة سياسياً معها صعبة جداً، كما سيشكل ذلك فرصة لانضمام المزيد من الفئات إلى المظاهرات مستقبلاً.
ويبدو أنّ قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين والأمنيين مصيبين في قلقهم من الانقسام السياسي الحالي، خاصةً أنه قد يتخذ أشكالاً إضافية من الشرخ خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، لا سيما مع تفاقم مخاطر المواجهات بين المتظاهرين.
الأزمة الحالية تكشف عن تآكل حقيقي في النخبة القيادية لدى الاحتلال، وموثوقيتها لدى المستوطنين، إذ إن هؤلاء القادة السياسيين يقاتلون اليوم من أجل مكان لهم في المعادلات السياسية الحالية والمستقبلية، بينما يبدو كيان الاحتلال أمام تهديدات أخطر، لن تكون قيادات تتصارع فيما بينها على خلفية مناصب سياسية وتهديدات قضائية، قادرةً على احتوائها.
الميادين
إضافة تعليق جديد