الثورة والتمرد عند ألبير كامي

13-04-2023

الثورة والتمرد عند ألبير كامي

- فؤاد زكريا:

بعض الكُتَّاب يطيلون الحديث عن الثورة دون أن يكون في نفوسهم إيمان عميق بها، وبعضهم يكتبون عن التمرُّد وفي أذهانهم معانٍ تقضي على كلِّ ما فيه من أصالة، وتزيِّف قيمته الحقيقية، ومن هؤلاء — في رأيي — ألبير كامي، الذي كرَّس لهذا الموضوع كتابًا كبيرًا — ربما كان أهم كُتُبه كلها — باسم «الإنسان المتمرد» (باريس ١٩٥١م)؛ ففي الكتاب هجومٌ على كل ثورة باسم حب الإنسانية، ودعوةٌ إلى الاتزان والاعتدال باسم التمرُّد، وإنكارٌ للتاريخ باسم الرجوع إلى الطبيعة، وتزييفٌ لمعاني التقدُّم باسم القضاء على الاستعباد والدفاع عن التحرر.

وكتاب «الإنسان المتمرد» لا يمكن أن يُوصف بأنه كتاب فلسفي نظري، وإنما هو — في واقع الأمر — كتاب سياسي في المحل الأول، يتضمن محاولةً لفهم العصر وللتعبير عن ماهيته الباطنة، في ضوء النظرة الخاصة التي كوَّنها كامي عنه، وفي الكتاب اعترافٌ بأن التمرد حقيقة ملازمة للإنسان تقتضيها طبيعته المتغيرة والمتطورة، ومع ذلك فهو يضع لعملية التمرد الأصيلة قيودًا تقصرها على المجتمعات الغربية وحدَها؛ فهو يتفق مع الفيلسوف الألماني ماكس شيلر في التفرقة بين التمرد والكراهية الحاسدة؛ ففي الثانية يعتمل الشر في النفوس ويظل في داخلها مكتومًا، معبرًا عن عجزٍ وقصورٍ لا مخرج منهما، أما التمرد فهو منطلق متحرر متغير، يعبِّر عن فيضٍ من القوة والطاقة، ومن جهةٍ أخرى فإن التمرد لا تكتمل شروطه حيث تكون اللامساواة هائلة أو حيث توجد مساواة مطلقة، وإنما يمكن أن يقوم التمرد «في مجتمعٍ تختفي فيه مظاهرُ التفرقة الواقعية الصارخة وراء المساواة النظرية.» ومن هذا كله يستنتج كامي أن «مشكلة التمرد لا معنَى لها إلا في حدود مجتمعنا الغربي.»

وهكذا يتخذ فعل التمرد عند كامي منذ البداية معنًى يصبح فيه وَقْفًا على مجتمعات الغرب في القرنين الأخيرين من تاريخها فحسب، ويفسر التاريخ السابق كله على نحوٍ تصبح فيه الثورات القديمة العهد تعبيرًا عن أي شيء سوى التمرد الأصيل، كذلك ينظر إلى المجتمعات الأخرى كلها — ما عدا المجتمع الغربي — على أنها عاجزة عن بلوغ مرحلة التمرد، وسواء أكان ذلك راجعًا إلى عجز كامي نفسه عن التوغل في روح هذه المجتمعات غير الغربية، أو إلى نوع من التعصب اللاشعوري للحضارة التي ينتمي إليها، فمن المؤكد أن نظرته هذه — التي يستهل بها كتابه عن التمرد — نظرةٌ تفتقر إلى الموضوعية وسَعة الأفق.

في عصرنا هذا لم يَعُد التمرد — في رأي كامي — تمرُّدَ العبد على سيده، ولا تمرُّدَ الفقير على الغني، وإنما أصبح تمردًا ميتافيزيقيًّا، أعني تمرد الإنسان على وضعه وموقفه الإنساني ذاته؛ فالتمرد الميتافيزيقي هو احتجاج على أوضاع الإنسان وعلاقته بالكون، وهو تأكيد لفردانية الإنسان وإنكار للأخلاقية، وهو سعي إلى تأكيد الذات إزاء عوامل اليأس ومظاهر الموت، ولكن على مستوًى إنساني شامل، لا على المستوى الفردي وحدَه. هذا التمرد الميتافيزيقي يشجع على «الجريمة»، أي على مظاهر القسوة والتنكيل والقتل التي حفل بها عصرنا الحاضر، والتي بلغت قمتها في الفاشية والنازية، فهو يتمثل عند المركيز دي ساد الذي حبذ الجريمة صراحة، وفي أدب دستويفسكي يظهر دفاع عن النزعة العدمية التي يصبح فيها «كل شيء مباحًا» وضمنه الجريمة بطبيعة الحال، وأخيرًا فإن نيتشه لم يكن من دعاة الجريمة صراحة، ولكنه دعا إليها ضمنًا حين جعل مثله الأعلى هو «الإيجاب والتأكيد»، فقبول المصير — بكل ما فيه من خير وشر — ينطوي ضمنًا على قبول الجريمة.

وقبل أن ننتقل إلى مرحلةٍ أخرى في تفكير كامي في هذا الموضوع، يجدر بنا أن نشير إلى مجموعة المقدمات الباطلة التي ارتكز عليها في آرائه السابقة؛ فهو يفترض أن تمرد العبد على السيد، والفقير على الغني، قد انتهى عهده، مع أن هذا التمرد ما يزال قائمًا، بل إنه هو الشكل الرئيسي للتمرد في عصرنا هذا، وهو الذي يُضْفِي على كل شكلٍ آخرَ من أشكال التمرد في أيامنا هذه طابعه المميز، أما التمرد الميتافيزيقي للإنسان على وضعه وموقفه، ومركزه في الكون، فقد كانت دواعيه منذ أقدم العصور قائمةً على الدوام؛ لأن وضع الإنسان من الوجهة الميتافيزيقية لم يتغيَّر في شيء، وإذا كان هذا النوع من التمرد قد ازدهر بصورة خاصة في الفترة التي تحدَّث عنها كامي، فلا بُدَّ أن ذلك راجع إلى أسباب غير ميتافيزيقية، أعني أسبابًا تتعلق بطبيعة الحياة في القرنين الأخيرين على وجه التحديد، أما الأمثلة التي ساقها كامي للتمرد الميتافيزيقي — وأهمها «ساد» ودستويفسكي ونيتشه — فلن نقف عندها طويلًا، وإنما يكفينا أن نشير إلى أنه لم يستخلص من تفكير دستويفسكي أو نيتشه إلا الدلالة السلبية فحسب، أعني التشجيع على ما يسميه «بالجريمة»، مع أن جزءًا كبيرًا من أفكارهما كان موجهًا في الواقع إلى الحيلولة دون وقوع «جرائم» أكبر.

على أن كل تمرد ينتهي إلى ضده، وذلك عندما يتحوَّل التمرد إلى «ثورة سياسية» تدعم سلطة الدولة وقوَّتها؛ فالنمو الغريب المرعب للدولة الحديثة يمكن أن يُعَدَّ نتيجة منطقية لمطامحَ فلسفيةٍ واقتصادية غير منظمة، بعيدة عن الروح الحقيقية للتمرد، ولكنها تؤدي مع ذلك إلى بعث الروح الثورية المميزة لعصرنا؛ فالأحلام التنبؤية عند ماركس، والتنبؤات المبالَغ فيها عند هيجل أو نيتشه قد انتهت، بعد أن قوضت أركان مدينة الله إلى تشييد دولة قائمة على العقل أو على نقيضه، ولكنها في كلتا الحالتين كانت مبنية على الإرهاب.
وعلى ذلك فالثورة في رأي كامي نتيجة منطقية لا مفرَّ منها للتمرد، وعلى حين أن التمرد هو في حقيقته موقف ذهني أو عقلي فحسب، فإن الثورة إنما هي تطبيق غير سليم لمفاهيم التمرد، وهو تطبيق ينتهي في رأيه حتمًا إلى عكس الغاية الأصلية للتمرد، أي إلى تقييد الحرية بدلًا من توسيعها، وهنا أيضًا ينطوي تفكير كامي على مقدمات ينبغي التنبيه إليها حتى لا ينساق الذهن في تيارها دون تمييز؛ فهو يفترض أن دعم قوة الدولة شرٌّ في جميع الظروف، وصاحب هذا الرأي لا بُدَّ أن يكون ذا ميول فوضوية، وبالفعل نجد كامي يُبْدِي اهتمامًا كبيرًا بشخصية باكونين، داعية الفوضوية الأكبر، ويُبْدِي عطفًا حقيقيًّا على الفوضويين من أمثال كيلاييف، أولئك الذين يقتلون ويموتون دون أن يسعوا في أية مرحلة في حياتهم إلى إقامة دولة أو دعمها؛ فهؤلاء في نظره هم «المتمردون» الحقيقيون، الذين يرفضون تمجيد أنفسهم في نظام للحكم، أو التنازل عن حريتهم في سبيل الدولة، مع هؤلاء يتعاطف كامي، وفي هذا الإطار الذي تجاوزه التاريخ المعاصر إلى غير رجعة يدور تفكيره.

وعلى أساس هذا الفهم لطبيعة الثورة — في علاقتها بالتمرد الأصيل الذي نبعت عنه — يحكم كامي على الثورات السياسية التي عرفها الغرب في القرنين الأخيرين؛ فالثورة الفرنسية عندما قتلت الملك، كانت في واقع الأمر قضاءً على الآلهة، وتحريرًا للإنسان من رِبْقتها؛ لأنها قضت على «فكرة» المَلِك، أي على رمز السلطة الإلهية. وهكذا لا ينظر كامي إلى هذه الثورة الحاسمة إلا من خلال هذه الصورة الرمزية، ويتجاهل أبعادها الاجتماعية الهائلة الأخرى، إن لويس السادس عشر — في واقع الأمر — لم يكن أولَ ملك يُقْتَل، ولكنه كان أول ملك تقتله الجماهير، والثورة ذاتها لم تكن أول محاولة لتغيير نظام الحكم بالقوة، ولكنها كانت أول محاولة ناجحة قامت بها جموعُ شعب مضطهد جائع للاستيلاء على السلطة، وإقرار حكم مبني على قيم جديدة، وحين يستعرض المرء أمام ناظريه مجموعة الأحداث الضخمة التي صاحبت قيام هذه الثورة، ينبغي أن يكون أقلُّ الأمور شأنًا بالنسبة إليه هو صورة قتل الملك بوصفه رمزًا لسلطة الألوهية، وإنما الواجب أن تَحُلَّ محلها صورة الملك من حيث هو رمزٌ لطبقة اجتماعية ظلت تتحكم في التاريخ الغربي كلِّه حتى ذلك الحين؛ فالدلالة الاجتماعية لمقتل الملك، ولاستيلاء الطبقة الدنيا — لأول مرة — على مقاليد الحكم — ولو بصفة مؤقتة — هي أبرز الصور التي توحي بها الثورة الفرنسية، أما الصورة التي استحوذت على تفكير كامي، فأهميتها ثانوية إلى حدٍّ بعيد.

على أن كامي لا يكتفي بذلك في حكمه على الثورة الفرنسية، بل إنه ينظر إلى قتل الملك على أنه رمزٌ «للجريمة»؛ فهو في رأيه دليلٌ على التطرف الذي يصيب الإنسان عندما تتحوَّل روح التمرد فيه من حالة ذهنية إلى ثورة سياسية، ومن المؤكد أن هذا الحكم على قتل الملك بأنه رمز للجريمة ومظهر للتطرف لا يصدر إلا عن ذهنٍ يتجاهل كلَّ المظاهر الأخرى «للجريمة» قبل قتل الملك، أعني الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، والفقر والجوع والمرض، وكل ما كان يعانيه الذين قتلوا الملك من ويلات، وما وقع عليهم من جرائمَ حقيقية، تفوق تلك التي أصابت الملكَ وكلَّ ضحايا الثورة الفرنسية، الظالمين منهم والأبرياء ألوفَ المرات، فأقل ما يمكن أن يُحكم به على نظرة كامي هذه إلى الثورة هو أنها نظرة أرستقراطية محدودة أو ضيقة الأفق.

ولكي نتابع تفكير كامي في النتائج التي ترتبت على «الجريمة» الأولى — التي أذنت بانبثاق عهد الثورة السياسية في العصر الأخير — علينا أن نتساءل: ما دلالة هذا الحادث الرمزي الضخم، حادث مقتل الملك، أي القضاء على رمز السلطة الإلهية، في مطلع الفترة التي سادتها روح التمرد؟ لقد كان القضاء على السلطة الإلهية، وبالتالي التحرُّر من قيود الدِّين، إيذانًا ببدء تحوُّل ضخم؛ ففي العصور الدينية، يسود معنى الأزلية، ويتضاءل تأثير التاريخ والزمانية. وإذن فقد كان مقتل الملك — وهو رمز السلطة الإلهية — إيذانًا باستهلال عهد جديد، اختفت فيه فكرة الأزلية، وتحكمت فيه فكرة التاريخ، وفي ظل سيطرة «التاريخ» هذه استُبِيحت الجريمة وانتهى عهدُ المسالمة الذي ساد البشرية عندما كان كل شيء يُقاس بمقاييسَ أزلية. ولا جدال في أن تفكير كامي في هذا الصدد يبدو غامضًا، وربما استغلق تمامًا على الفهم، إن لم نوضح معنى «التاريخ» عنده، ونحدِّد طبيعة الارتباط الذي يقول به بين التاريخ وبين سيطرة العنف على سلوك البشر.

إن اختيار الإنسان للتاريخ يعني اختياره للعدمية الأخلاقية؛ ففي ظل الأزلية كان كل شيء يخضع لقواعدَ محتمةٍ لا يضل الناس طريقهم إليها، أما في ظل التاريخ، فإن صرامة الحركة الزمانية تجرف أمامها كلَّ شيء، وهكذا يصبح الهدف هو «الفعل» بلا قواعدَ ولا مبادئَ أخلاقية، وعندما أصبح التاريخ هو المسيطر على أذهان البشر — في القرن التاسع عشر — أصبحت روح التمرد فيهم تستهدف الفعل المطلق، دون أن يحدَّها حدٌّ أو يقف في وجهها عائق.

ولقد اتخذت سيطرة التاريخ شكلين، أدَّى كلٌّ منهما إلى نوعٍ مختلف من «الجريمة»؛ فالتاريخ إما أن يُنظر إليه على أنه قوة عاقلة، أو على أنه قوة لا عاقلة، في الحالة الأولى أدَّى التاريخ إلى الثورة الشيوعية، وفي الثانية إلى النازية.

فبفضل تأثير هيجل، أصبح يُنظر إلى العقل على أنه القوة المحركة للتاريخ، وترتَّب على ذلك سيادة النزعة المادية العلمية والنزعة الإلحادية واللاأخلاقية، ووُضِعت للتاريخ غاياتٌ حدَّدها العقل مقدمًا، ثم أصبح كل شيء يُستباح في سبيل تحقيق هذه الغايات. وهكذا تم التحالف بين هذه النزعة العقلية في تفسير التاريخ، وبين الحركة الثورية التي قادها مثقفو القرن التاسع عشر، والتي كانت قبل ذلك الحين حريصةً كلَّ الحرص على الارتباط بأصلها الأخلاقي المثالي، وكانت سيطرةُ أفكار هيجل — بما فيها من معقوليةٍ تاريخيةٍ صارمةٍ، على هذا الاتجاه الثوري، وتحويلها إياه من منابعه النقية إلى تاريخ العنف — إيذانًا بانتصار الأيديولوجية الألمانية، التي سارت في طريق التطرف حتى بلغت قمَّتها في الثورة الشيوعية الروسية في القرن العشرين؛ «فالقيم لا توجد إلا في نهاية التاريخ، وإلى أن يأتي ذلك الحين لا يوجد معيار ملائم يُبْنَى عليه أي حكم للقيمة، وإنما ينبغي أن يسلك المرء ويعيش من أجل المستقبل، وهكذا تصبح كلُّ أخلاق مؤقتة.» وإذن فالخطر الأكبر — الذي فُتِحَت أبوابه على مصراعيها بفضل تعاليم هيجل — هو أن نعهد إلى التاريخ وحدَه بمهمة خلق القيم وإقرار الحقيقة، «فعندما يكون من المستحيل فهم أي شيء بوضوح قبل أن تظهر الحقيقة في ضوء باهر — عند نهاية الزمان — فعندئذٍ يصبح كل فعل مستباحًا، وتصبح السيادة للقوة لا ينافسها شيء.»

ويعتقد كامي أن النازية بدورها نتيجةٌ لسيادة فكرة التاريخ على تفكير الإنسان المعاصر، وإن تكن تنظر إلى التاريخ على أنه قوة لا عاقلة؛ «فهتلر» هو التاريخ في أنقى صوره؛ ذلك لأن هتلر كان يمجِّد الفعل المحض، دون أي أساس أو أي مبدأ يستهدفه ذلك الفعل، وما كانت حياة هتلر، بوصفه حاكمًا إلا سلسلة من الأفعال، ومن الحركة المتصلة التي لا تتخذ لنفسها أي هدف؛ فالنازية عدم محض بلا أفكار ولا أهداف، وإنما هي سلسلة من «الأفعال» الوحشية فحسب. ومنذ بداية هذه الحركة لم تكن قد رسمت لنفسها خطةً محددة، بل كانت تنتقل من فعل إلى فعل، ومن نجاح إلى نجاح، غيرَ هادفة إلى شيء سوى المزيد من المغامرات فحسب، وفي ظل هذه العدمية المطلقة عاشت النازية حياتها وهي تتصور التاريخ على أنه قوة لا عقل فيها ولا هدف لها، قوةٌ أشبه بالسيل الجارف الذي ينطلق وينطلق ويهدم في طريقه كلَّ شيء، دون غاية توجِّهه أو خطة تتحكم في مساره.
ومن هنا كانت النازية — في رأي كامي — هي التاريخ في صورته الخالصة، أي من حيث هو فعل محض لا عقل له ولا غاية من ورائه.


وإذن، فسواء أنظرنا إلى التاريخ على أنه يستهدف غايةَ أحكمَ وضعها، ويسير بقوانين عقلية صارمة نحو هدف محدد، أم نظرنا إليه على أنه قوةٌ لا عقلية تستهدف الفعل بلا معنًى أو غاية، فنحن في الحالتين واقعون في قبضة الإرهاب؛ فالتاريخ المعقول يفرض علينا إرهاب الغاية التي يسعى إلى تحقيقها بأي ثمن، ويستبيح في سبيل بلوغها أي شيء، وينظر إلى مسلكنا الذي نَعبُر به الهُوَّة بيننا وبين الهدف النهائي على أنه مجرد مرحلة انتقالية ينبغي أن نستحل فيها لأنفسنا كل إرهاب وطغيان من أجل تحقيق هدف التاريخ، والتاريخ اللامعقول — من حيث هو فعل محض — أشبه بجسمٍ ضخم لا رأس له، وفيه يستوي كل شيء طالما أنه يُطلِق طاقتنا الكامنة، التي تسير في طريقٍ أهوجَ لا مكان فيه للمبادئ أو القيم، وبالاختصار فسيطرة التاريخ تعني الوقوع في قبضة الإرهاب، سواء أكان هذا الإرهاب عقليًّا منظمًا مخططًا، أم كان لا عقليًّا متخبطًا أهوج.


على هذا النحو إذن يبدو التاريخ لكامي قوةً طاغيةً تَستخدم الثورة السياسية أداةً تسحق بها الإنسان، وتقضي بها على روح التمرد الأصيلة فيه، أي على سعي الإنسان إلى التحرُّر، واحتجاجه على الطغيان في كل صوره؛ فالتاريخ يعني العبودية، وسيطرته على الإنسان في القرنين الماضيين هي التي أدَّت إلى استباحة «الجريمة» واستفحالها، ومنذ اللحظة التي قضى فيها الإنسان على الآلهة، وأنهى عهد «الأزلية»، واختار بدلًا منها أن يخضع لحكم التاريخ، منذ هذه اللحظة شهدت الإنسانية جريمةً تلو الأخرى، وأصبح القتل هو وسيلة الإنسان الكبرى للتعبير عن نفسه.


هذه الخواطر التي دارت بذهن كامي عن معنى التاريخ هي في رأيي سلسلةٌ متصلة من المغالطات، بعضها مقصود وبعضها غير مقصود، لكنها كلها تنمُّ عن فكرٍ يفتقر إلى الموضوعية، تُوقِعه تحيُّزاته في أخطاءٍ لا حصرَ لها.

فهل بدأ عهد الجريمة وعهد استباحة القتل على نطاقٍ عالمي شامل، منذ اللحظة التي قُوِّضَ فيها عرش الأزلية الدينية لتحل محلها تاريخية الإنسان؟ وماذا نقول عن جرائم محاكم التفتيش، وغيرها من الجرائم الرهيبة التي كانت تُرْتَكَب على أوسع نطاق، وكلها باسم الدفاع عن الأزلية ودعم سلطة الدين؟ وهل كانت جرائم النخاسين وهم يختطفون العبيد وينقلونهم إلى المزارع الأمريكية ليعملوا بلا أجر؛ هل كانت هذه جرائمَ ارتُكِبَت في ظل سيطرة التاريخ أو روح الثورة التاريخية؟ من المؤكد أن القتل والجريمة قد ارتُكِبَا على نطاق واسع منذ أقدم العهود، دون أن يكون لعهد سيطرة التاريخ أدنى تأثير في نشرها، صحيح أن كامي يفرِّق بين الجريمة الحديثة وبين الجرائم السابقة، على أساس أن الأولى تتم عن رويَّة وتدبير، وأنها محسوبة ومنظمة، على حين أن الجريمة السابقة كانت انفعالية هوجاء فحسب، ومع ذلك فإن هذه التفرقة تسقط حالما نفكر في طبيعة «الجريمة» في العصور الوسطى الأوروبية مثلًا؛ فهناك كان القتل يرتبط بالقداسة، وكان يتم بناءً على أحكامٍ ومبرراتٍ «منطقية» تصدر من أعلى السلطات؛ فالتاريخ إذن ليس مسئولًا على الإطلاق عن الجريمة المدبَّرة، بل هو وريثها منذ أقدم العهود، وفضلًا عن ذلك فليست الجريمة هي القتل وحدَه، حتى لو كان ذلك القتل جماعيًّا، بل إن هناك أنواعًا من الجرائم لا تقل قسوة عن القتل، ترتد كلها إلى الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي، وبهذا المعنى الأخير يكون عصرُ سيطرة التاريخ هو العصر الذي بذل فيه الإنسان أولى محاولاته للتخلُّص من «الجريمة» بمعناها الواسع.

ومن جهةٍ أخرى، فإن مفهوم «التاريخ» عند كامي مشوَّه إلى حدٍّ بعيد؛ ذلك لأنه يحمِّل التاريخ بمعنييه، المعقول واللامعقول، أوزارًا هو منها براء؛ فاللامعقولية عند النازية — من حيث هي فعل محض وسلسلة لا تنتهي من المغامرات الهوجاء — لا صلة لها بمعنى التاريخ على الإطلاق، ولم تكن النازية جزءًا من تلك الحركة التي استهدفت إقامة مملكة الإنسان على الأرض، بل إن الفلسفة النازية كانت تتضمن عنصر الأزلية، وتدَّعي الدفاع عن القيم الدينية، وتؤكد أنها ستقيم عالمًا يدوم إلى الأبد، أما المعقولية التاريخية عند هيجل وتلاميذه — مثل ماركس — فلم تكن تتضمن أية دعوة إلى استباحة كل شيء من أجل تحقيق غاية التاريخ؛ ذلك لأن فكرة «نهاية التاريخ أو غايته» (ولنلاحظ أن كامي في هذا الصدد يتلاعب بمعنيين لكلمة fin التي تعني الغاية بمعنى الهدف، وتعني النهاية أيضًا) هذه الفكرة هي ذاتها تناقض في الألفاظ؛ لأن التاريخ من حيث هو ظاهرة متطورة دائمة الحركة لا يقبل غايةً يتوقَّف عندها، قد تكون هذه غايةً لمرحلةٍ معيَّنة في التاريخ، ولكنها لا يمكن أن تكون حدًّا نهائيًّا تتوقَّف عنده حركة التاريخ، ومن جهةٍ أخرى فإن ما يسميه كامي باستباحة كل شيء في سبيل تحقيق هذه الغاية، ما هو إلا السعي إلى قهر العقبات التي تحول دون تطوُّر المجتمع نحو تنظيم إنساني أفضل.

•••

وإذن فكل تحوُّل للتمرُّد إلى ثورة سياسية تاريخية هو في رأي كامي انتكاسٌ لروح التمرُّد الأصيلة في الإنسان، وارتداد من الرغبة في التحرر إلى الوقوع في براثن الطغيان والاستبداد، فما الذي يفعله المتمرد الحر إذن؟ يجيب كامي عن هذا السؤال بقوله: «لو كان للمتمرد أن يشيد فلسفة، لكانت هذه فلسفة الحدود والجهل المحسوب والمخاطرة؛ فمَنْ لا يعرف كل شيء لا يستطيع أن يقتل كل شيء. إن المتمرد بدلًا من أن يجعل من التاريخ قوة مطلقة، يرفضه ويعترض عليه باسم مفهوم يكوِّنه عن طبيعته الخاصة، وهو يرفض موقفه، وهذا الموقف تاريخي إلى حدٍّ بعيد … ومن المؤكد أن المتمرد لن يستطيع أن ينكر التاريخ المحيط به؛ فمن خلاله يسعى إلى تأكيد ذاته، غير أنه يشعر إزاءه بمثلِّ ما يشعر به الفنان إزاء الواقع الذي يواجهه، فهو يزدريه دون أن يهرب منه.»

فالخلاص من المشكلات التي جلبها علينا طغيان التاريخ إنما يكون إذن في «الاعتدال»، أي نبذ التطرف الذي يدَّعي معرفة كل شيء، والذي يحدِّد لكل شيء غاية ثم يستبيح لنفسه كل شيء في سبيل بلوغها، ولا بُدَّ للتمرُّد من أن تكون له حدوده، ويعود إلى الأصل الروحي الذي استلهمه في البداية، والواقع أن كامي يمجِّد فكرة «الاعتدال» أعظم التمجيد، ويرى أنها هي ما يحتاج إليه الإنسان المعاصر حقًّا، وهو في هذا الصدد يضع تقابلًا بين روح البحر الأبيض المتوسط — بما تتسم به من اعتدال وسَعة أفق — وبين الروح أو الأيديولوجية الجرمانية بما تتسم به من تعصُّب وتطرُّف، وعلى حين أن الكثيرين يتوهَّمون أن التمرُّد نقيض الاعتدال، فإن كامي يؤكد أن المتمرد الحق هو ذاته المعتدل، فهو يأبى أن يؤلِّه ذاته، أو أن يمضي في أي شيء إلى حد التطرف، وهو لا يصل أبدًا في تمسُّكه بوجهة نظره — أو في ادعائه المعرفة — إلى حد السعي إلى القضاء ماديًّا على كلِّ مَن يخالفه، أو يقف في وجه آرائه.

وبهذا المعنى يمكن القول إن كتاب «المتمرد» بأسره إنما هو ردُّ فعل على النظريات «الشمولية» في الأيديولوجيات المعاصرة؛ فمن السهل على الإنسان في عصرنا هذا أن يكون متطرفًا، وأن ينحاز بكل عنف إلى طرَف معيَّن ويعادي الأطراف الأخرى، ويحاربها بكلِّ ما يملك من قوة، ولكن أصعب الأمور هي أن يكون المرء معتدلًا، وأن يعيش داخل حدودٍ تفرضها إرادته، ويعرف هذه الحدود عن وعي يلتزمها على الدوام، وكما احتج المفكر الدنمركي «سورين كيركجورد» على شمولية المذهب العقلي عند معاصره الألماني هيجل، فإن كامي يعبِّر في كتابه هذا عن احتجاجٍ مماثل على الأيديولوجيات الموروثة عن هيجل، والتي تأثرت بالفيلسوف الألماني الكبير في نظرته الشمولية إلى العالم؛ ذلك لأن الغاية القصوى لهذه الأيديولوجيات هي تحويل روح التمرُّد الأصيلة في الإنسان إلى ثورة سياسية لا تعرف حدودًا إلا ما تقتضيه حركة التاريخ، وفي سبيل ذلك يستحيل كل شيء، وتُستباح «الجريمة» التي أصبحت الطابع المميز للسياسة المعاصرة.

ومن المؤكد أن روح «الاعتدال» التي يدعو إليها كامي، لو كانت ممكنة في عصرنا الحالي، لكانت بالفعل شيئًا يستحق الإعجاب، غير أن التجارِب العملية للثورات الحديثة أثبتت أن هذا «الاعتدال» مستحيل التحقيق في كثير من الأحيان، فماذا يفعل الثائر حين يجد خصوم الثورة يسلكون مسلك الوحوش الضارية في التنكيل بالأحرار، وفي الدفاع عن مصالحهم الأنانية، والوقوف في وجه كل اتجاه إلى التحرُّر؟ وماذا يفعل الثائر حين تُوصد أمامه كل أبواب الاعتدال؟ من المؤكد أن الجزء الأكبر من التطرُّف الذي يعيبه كامي على الثورات الحديثة إنما يرجع إلى طبيعة المقاومة التي تواجهها هذه الثورات، لا إلى انحرافٍ في الثورات ذاتها، وغالبًا ما يكون التجاء الثائر إلى العنف أمرًا تمليه عليه طبيعة الخصم الذي يواجهه، ويفرضه عليه هذا الخصم رغمًا عنه، أما الثائر نفسه فهو — في معظم الأحيان — ذو نفس مفعمة بحب الإنسانية، ولو وجد سبيلًا يتسم بالاعتدال لتحقيق أهدافه النبيلة لما تردَّد لحظة واحدة في أن يسلكه. فالعنف إذنْ صفة طارئة عليه، تفرضها عليه المقاومة التي يلقاها، وشراسة الخصوم أنفسهم، وفداحة الظلم الذي يتعيَّن عليه أن يحاربه، وعلى أية حال فمهما اتصفت به تصرُّفات الثائر من قسوة، فلن تكون قسوته هذه شيئًا مذكورًا بالقياس إلى فظاعة الأوضاع التي يثور عليها.

وبالاختصار فإن التجاء الثائر إلى العنف إنما هو التجاء إلى أسلوبٍ فُرِضَ عليه فرضًا، وهو في قرارة نفسه يؤْثِر الاعتدال ويميل إليه، ولكنه لو ظل يتخذه سبيلًا إلى تحقيق أهدافه، في مواجهة خصومٍ خلت نفوسهم من كل روح إنسانية، لكان في ذلك مقصِّرًا في خدمة الرسالة التي آلى على نفسه أن يحقِّقها، ولما استطاع أن يحقِّق شيئًا من مبادئ ثورته وتمرُّده الأصيل.
*

 


نُشر هذا المقال في مجلّة الفكر المعاصر، العدد ٣، مايو ١٩٦٥م.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...