تصحيح المفهوم الخاطئ عن نظريات ما بعد الحداثة

15-09-2023

تصحيح المفهوم الخاطئ عن نظريات ما بعد الحداثة

محمد البنا:

عندما تبنت المدارس الأدبية - سردًا ونقدا- التخلي عن المعايير الثابتة لكلٍ من الفن السردي والنقدي، بل وحتى التخلي عن كل المعايير الخاصة بأي فن إبداعي؛ لم يكن الهدف هو الهدم والإلغاء لكل المعايير وإنما عدم التقيد بها كمعايير ثابتة جامدة غير قابلة للحركة أو التحريك بذاتها أو بمؤثر خارجي(( كتاب النفس/ ارسطوطاليس)).

فمن المعروف والثابت يقينًا أن كل هذه النظريات هى في الأساس نظريات فلسفية حديثة ومستحدثة، استقاها مفكرون وفلاسفة؛ همهم ومبحثهم ماهية الحياة بشموليتها، وليس قاصرة على الإبداع الفني إلا من حيث كينونته كفكر ابتداءً.

لذا كان الهدف التطوير والتجديد، وليس الهدم والإلغاء، ومن هنا نشأ تداخل الأجناس الابداعية، فالقص مثلا لم يعد قاصرا على النثر فقط، بل تداخلت معه المشهدية ( الرسم بالكلمات)، والصور اليلاغية ( التخيل بالجمل )، وما طرأ على النثر طال الشعر أيضا، فنشأت قصيدة النثر، أسوة بالقصة الشعرية، ونشأ فن الرسم السيريالي لاحقا للتكعيبي مطورًا وليس لاغيا، كذلك نشات القصة المشهدية لاحقة للقصة القصيرة وليست لاغية لها، ولا يزال كلاهما يجنس((( ق ص ة ))) والاستغناء عن ركن من اركانها لا يعني الاستغناء عن كل أركانها.

وما طرأ على السرد من تطوير اتبعه بالضرورة تطورًا نقديا، فنشأت نظرية النص الأدبي النقدي الموازي، تتناول النص المنقود بالنقد المصاغ في ثوب أدبي كقصة موازية أو بلغة أدبية ابداعية تستند بقوة على جوهر النص الأصلي، دون التقسييم التدويني المتبع قديما ( عتبات/ حبكة / معالجة/../..)، إلا أنه يتضمنها سياقا؛ أي لم يلغيها إلا ظاهريا.

ولما بعد الحداثة طرأ عليها ما طرأ على ما سبقها من تقليدية وحداثة، فنشأت نظريات حداثة ما بعد الحداثة، وهي في مجملها وجوهرها عودة لجادة الصواب؛ إذ عالجت ما ترتب عن نظريات ما بعد الحداثة من (مفاهيم خاطئة؛ فصار الأدب سداحا مداحا، لا هوية له ولا طعم ولا رائحة).

فما قيل واستقر تفنيدا لكثير مما قيل فيها- مدارس ما بعد الحداثة- وعلى ألسنة بعضهم أنفسهم، ومنهم رولان بارت الذي تراجع عن مقولته الشهيرة * موت المؤلف* وهي تنتمي للمدرسة الحداثية وليس لما بعد الحداثية، تراجع عنها وأقر وأذعن لما ذهبت إليه مدارس ما بعد الحداثة بضرورة الالمام بماهية المؤلف كعامل مهم لسبر أغوار مؤلفاته، كما أن تفكيكية دريدا تم اسقاطها عالميا عربيا بصفة خاصة، لتشكيكها المبطن في العقائد، والنتائج التي ترتبت على انتهاجها من اختفاء النص الأصلي.

ما بعد الحداثة في عمومها انتهجت التأثير الجمالي، واعتمدت المشهدية السردية ونحت الحدث جانبا ليصير دوره في القص ثانوى ولكنها لم تلغيه تماما، فلا قص بدون حدث، أما وقولهم " قص بدون زمان ومكان وشخوص" فهو هراء هراء- إن قالوه-فالقص قص ظاهره وباطنه، والقص حكي يرويه أحدهم ( المؤلف) متتبعًا ( شخص او شخوصا) اصابهم حدث ما في زمان ما ومكان ما ( الأثر والنتيجة) تحت ظروف معينة، أما ما عدا فسموه ما شئتم ولا تسموه قصا، فالقرد بصفاته وتصرفاته وسماته وجيناته يسمى قردا والأسد أسدا والأنسان انسانا..نطور في القص ونسمو به إلى الأفضل والأجود ولكننا نخافظ على أساسياته إن لم يكن كلها فعلى الأقل الكثير منها،وأهمها الخصوصية المنطلقة بلا موانع للشمولية، أما الشمولية فليست قصا..ربما تكون موعظة او قول مأثور أو أمثال شعبية، لكنها أبدًا لن تكون قصا .

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...