كلمة لجنة تحكيم مسابقة "هذي حكايتي" للدورة الخامسة
خلال آلاف السِّنين من الصِّراع البشري كان المنتصرون هم من يكتبون التاريخ، فكان تاريخاً يناسبُ هواهم ويُجَمِّلُ أعمالَهُم الخارقة، كما لو أنهم آلهة. أما الآن فإن الشُّعوبَ هي من باتت تُدَوِّنُ تاريخَها، وتوثِّقُ حياتَها، بوساطة أفرادها الذين يشكِّلُون مادَّةَ الأحداث وشهودَهَا. فالشُّعوبُ فعلياً هي من تحاربُ وتدافع، وليس الملوكُ والقادة، وهم مَنْ يزرعُون ويبنُون ويخترعُون ويُشَكِّلُون مادةَ الأحداث ومحورَها؛ فهم الأكثرُ قدرةً على رؤيتها وروايتها، وإضافة مشاعرهم إليها، لكي يُعْطُوا التاريخَ الجامدَ نكهةً إنسانيةً لم تكن موجودةً في سِيَرِ السِّياسيِّين والقادة المنتصرين، وهي أكثرُ مصداقيةً من حيثُ أننا نسمعُ وجهاتِ نظرٍ وانطباعاتِ أفرادٍ متعدِّدينَ للحدث، فيُصَوِّرُون أَوْجُهَ الحقيقة من زوايا رؤيةٍ متعدِّدةٍ، بعدد رواياتهم، ليغدوَ المشهدُ أكثرَ اكتمالاً وصدقاً من التواريخ الرَّسميَّة أحاديَّةِ النَّظرة التي كانت تروِّجُها الحاشيةُ والمؤسساتُ الحاكمة، فقد باتت الحكاياتُ ثروةَ الشُّعوب التي تشكِّلُ هُوِيَّتَها المتجدِّدَةَ بأجيالها..
ويمكننا القولُ إنَّ السُّوريين اليومَ قد دخلوا على خطِّ توثيق أيَّامهم وأعمالهم وسائر نشاطاتهم بشكلٍ منهجيٍّ وعلميٍّ وديمقراطي، عبر "مؤسسة وثيقة وطن للتأريخ الشَّفَوي" التي فتحت البابَ لكلِّ المواطنين كي يكونوا جزءاً من تاريخ البلاد الذي عاشوه وشَهِدُوه، وهذا بحدِّ ذاته قيمةٌ مضافةٌ لحريَّةِ المواطن ومصداقيته كفرد مشاركٍ ومُنْتَمٍ إلى هذا الشَّعب الذي يشَكِّلُ مجملَ رواية الوطن السُّوري، حيث تقدِّمُ حكاياتُ الأفراد وشهاداتُهم موعظةً حسنةً تصُبُّ في خانة الوحدة الوطنية التي نحتاجُ إليها لاستكمال سِلْمِنا الاجتماعي..
شارك في مسابقة "حكايتي" لعام /2023/، /520/ مواطناً، وقد تنافست للمرحلة النهائية /120/ حكايةً لأربع مراحلَ عمريةٍ، فاز فيها /17/ مشاركاً، شارك في تحكيمها نخبةٌ من النُّقَّادِ المخضرمين، وتوصَّلوا إلى النتيجة بعد نقاشاتٍ مطوَّلةٍ حول أفضليَّتها، مع التَّنويه إلى أنَّ المسابقة لا تأخذُ منحى الاختصاصِ الأدبي الذي يفوزُ فيه صاحبُ البيانِ والصَّنعة، وإنَّما ركَّزنا على أهمية الحدث الذي عاشه الرَّاوي ودورِهِ فيه، فهذا النَّوعُ من الكتابة لايصنَّفُ كأدبٍ، وإنما يُصَنَّفُ كنوعٍ مجاورٍ للأدب، لذلك اعتمدنا تسميتها "حكاية" وليست "قصة"، إذ للقصَّةِ شُرُوطُها الفنِّيَّةُ، بينما مسابقة "حكايتي" تنحو إلى توثيق الحياة والأحداث الواقعية لا المتخيَّلَة، وبالتالي ليس مطلوبا من صاحب الحكاية أن يكون كاتبا وأديبا بقدر مايهمنا صدقيته ودقته في تصوير ماعاشه أو شهده أو قام به.. وبحدود معرفتي لم يسبق أن أطلق هذا النوع من المسابقات في سورية وكنا السباقين إليه لكي نوسع دائرة الضوء على حياة السوريين بعد هذا الليل الطويل.
كان عددُ الحكايات الجيدة والممتازة كبيراً لهذه الدورة، وغطَّتْ مساحةً كبيرةً على الخارطة السُّوريَّة، وكان بوِدِّنا أن نقدِّمَ جوائزَ إلى ضعفِ العدد المعلن، لولا محدوديَّةَ مخصَّصاتِ المؤسَّسة الماليَّة، والتي تجاوزنا المبلغَ المرصودَ لها رغم ضعف مالية المؤسسة.. كما نوَّهَ المحكِّمُون بالحكاياتِ المستحسَنَةِ، إلى جانب الفائزة، والتي سنضيفها إلى كتاب "حكايتي" للعام القادم، كما في كلِّ دورةٍ للجائزة، إذ نصدِرُ كتابَ "حكايتي" السَّنوي بهدف تغطيةِ ما أمكننا من الأحداث اليومية التي جرت وتجري على الأراضي السُّورية، وتأمينِ مادةٍ أوَّليَّةٍ للباحثين والأدباء والمهتمين بقراءة وتحليل بنية المجتمع السُّوري ومتغيراته الزمنية.
نبيل صالح ـ دمشق ـ مكتبة الأسد الوطنية 5 /12/ 2023
إضافة تعليق جديد