المؤسسات العائلية بين الارث و التطوير
للمؤسسات المملوكة من العائلات، إشكالاتٌ جمّة في الدول النامية. هي تنمو مثل الفطريات نتيجةَ توافّر رؤوس الأموال، خصوصاً في دول الخليج العربي، وتشكّلُ عبئاً اقتصادياً بدل أن تمثّل وجه العافية وتواجه متطلبات العولمة والتجارة الحرّة. في مثل هذه الدول، يصعبُ التمييز بين المؤسسة الفردية، وهي عائلية، وبين العائلية التي انتقلت إلى جيلٍ جديد من الورثة واستمرّت ناجحةً. تشكّل الأخيرة لبَّ المعضلة، فهي أساس الزخم في الدورة الاقتصادية العامّة. تنتجُ المعضلات من كون هذه المنشآت غير إبداعية، لا سلعةَ خاصّة بها تحملُ براءة الاختراع، بل هي تنسخُ عمّا ابتكرته الدول المتقدمة صناعياً. لكن منشآت الخدمات التجارية والإعلامية والمالية، لها وضعٌ آخر، فهي لا تواجه المنافسة، ضمن إطار العولمة، بل صعوبات الانتقال إلى الأجيال المقبلة وحفظها طابعها العائلي.
ويندرج موضوع المنشآت العائلية، منذ مطلع الألفية الثالثة، في نطاق عودة الرأسمالية العائلية إلى واجهة الاقتصاد العالمي سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة وكندا، فضلاً عن الصين واليابان ودول أميركا اللاتينية حيث لا يقل رصيدها عن 80 إلى 85 في المئة من إجمالي المؤسسات والشركات الاقتصادية. وأثبتت حصيلة ما تبقى من هذه المؤسسات في جيل ما بعد الثالث للعائلة المشرفة، أنها المؤسسات الأكثر ضماناً لاستمرار العمل وثباتاً للاقتصاد. فهي لم تكن يوماً موضوع مغامرة كما في غير العائلية، حتى ولو انتقلت إلى صيغة الشركات المساهمة واحتفظت بإشراف العائلة التي تصون الإرث المنتقل عبر الأجيال سواء كان إرثاً مالياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو اكتساب خبرةٍ ومهارة تتطوّر وتنمو من جيلٍ إلى آخر وتكتسب شبكة علاقات عامة مع سائر الأنماط الاقتصادية الناشطة. وبغض النظر عن كون هذه المؤسسات فردية، سارعت الدول المتقدمة اقتصادياً إلى تشريع نمط الانتقال والتوريث، فأتاحت تقديماتٍ مالية وإعفاءاتٍ من الضرائب والرسوم شرط أن يلتزم الوريثُ ضمان عمل المؤسسة خمس سنوات على الأقل، نظراً لدورها في الاقتصاد المحلي وتوفيرها فرص عملٍ للأجيال.
وللشديد على دورها في الاقتصاد العالمي، أجرت جمعية المنشآت العائلية المتوسطة في فرنسا بحثاً معمّقاً، هدف إلى مقارنة نتائج المنشآت سواء كانت عائلية أو غير عائلية. فجرّدتْ حسابات 412 منشأة في خلال عملياتها بين 1997 و2001. هذه تمثل عيّنة من 206 أزواج من المنشآت المتوازية في الكبر وبحجم الأعمال ومجال النشاط. أحدهما يتألف من منشآت تمسكها عائلات بنسبة 33 في المئة على الأقل أو تكون العائلة هي المساهم الأول فيها وتشرف على رقابتها، والثانية لا.
تناولت النتيجة 53 معدّلاً اقتصادياً ومالياً، وأظهرت على صعيد حجم الأعمال، «أن العائدات الصافية للمنشآت الموروثة، هي مرتين أكبر مما لدى المنشآت غير الموروثة. وعائد الاستغلال أهم بأربع مرّات، أما في عائد رؤوس الأموال الخاصة، فمال الميزان لمصلحة المنشآت ذات البنية العائلية بنسبة واحد إلى خمسة. حصلت هذه النتائج في فترة مضطربة عرفت الأسواقُ فيها تغييراتٍ قويّة، فأكّدتْ «أنَّ المنشآت العائلية تعرفُ، أفضل من غيرها، كيف تتكيّف بسرعة»، وفي أي قطاع من قطاعاتها. وتوافقت هذه النتائج مع نتائج دراسة أميركية بيّنتْ أن عائد المنشآت العائلية الأميركية المسجلة في البورصة، هو أعلى بنسبة 29 في المئة عنه في سائر المنشآت في الفترة ما بين 1992و1999.
لماذا هذه الرفعة؟
يقدّم الباحثون عوامل الثقة «ففي المنشأة العائلية، تتوافر الثقة أكثر وسط الفريق المدير، وتترجم بقدرة على اتخاذ القرار بسرعة وبرضائية أكبر. وهي أيضاً أقوى مع الأجراء، الذين يمكنهم في بعض الحالات أن يصيروا نوعاً من فائض العائلة، وأن يُعاملوا المعاملة الأبوية. والثقة هي أفضل مع الزبائن والمورّدين والمصارف بفعل ديمومة المديرين».
وفي نيسان (أبريل) 2004، نشرت مجلّة «نيوزويك» الأميركية نتائج بحثٍ أجرته لها «طومسون فايننشل» أظهر أن الشركات العائلية تتفوّق في الأداء على منافسيها في مؤشرات الأسهم الستة البارزة في أوروبا، وغالباً في شكلٍ مثير. وأوجدت طومسون مؤشراً فريداً لكلٍ من الشركات العائلية وغير العائلية في كل بلد وتعقّبت آثارها على مدى عشر سنوات انتهت بنهاية 2003، وأنتجت أيضاً قائمةً بأسهم أسرع عشر شركات عائلية، نمواً. ففي ألمانيا ارتفع المؤشر 206 في المئة تقوده «بي أم دبليو»، وارتفعت أسهم الشركات غير العائلية 47 في المئة فقط. وفي فرنسا ارتفع المؤشر 203 في المئة تقوده شركاتٌ مثل «سانوفي، سينتيلابو» و «لوريال» و «أل في أم أتش»، في حين أن نظيره من الشركات غير العائلية ارتفع 76 في المئة. وتفوّقت الشركات العائلية في الأداء على الحشد المؤلف من الشركات غير العائلية في سويسرا وإسبانيا وبريطانيا وحتى في إيطاليا بعد الانهيار الفضائحي لـ «بارمالات» التي تديرها عائلة «تانزي».
وأظهرت الحقيقةُ، أن أكثر المنشآت نجاحاً في المجموعة، هي التي تسيطر عليها عائلات، وإن كانت أسهمها معروضة للاكتتاب العام. ذلك يلزمها بالخطوط الإرشادية لبورصة الأسهم وشروط الإفادة، ويحول دون أن تؤدي المشاحنات العائلية إلى تدمير شركةٍ ما. إن الشركات العشر الأفضل أداءً في أوروبا تجمع كلّها بين القوة العائلية وانضباط السوق.
لقد لعبت الشركات العائلية دوراً مهماً وحيوياً في اقتصادات الدول وستستمر بدورها الفاعل والإبداعي. هي وليدة المبادرة الفردية، وتبقى نواةً تتمحور حولها النشاطات وتنطلق بدَفْعها الأفعالُ والإبداعاتُ وتتكون إثرها الأعمال الجماعية. فالمبادرات الفردية هي الأصل وهي النواة.
وتلعب الشركات العائلية أيضاً، في الدول الصناعية، دوراً في تنميتها الاقتصادية إلى جانب الشركات العملاقة التي لم تستطع تهميش دور الأولى، فوجدت حلولاً، للكثير من احتياجاتها الصغيرة، لدى الشركات العائلية، فرعتها ونمّتها لتواصل عملها وتنتج لها. ففي أوروبا، اليوم، عددٌ هائل من الأنشطة العائلية وفي جنوب شرقي آسيا أمثلةٌ أشد دلالة وبـــروزاً. وتعــــدّت الشركات العائلية الحجم الصغير تقليداً، ففي لائحة الـ 500 شركة في مجلة «فورتشن» تحتل العائلية ثلثها ويعود ثلث بورصة نيويورك إليها. وفي الولايات المتحدة تساهم هذه الشركات بخمسين في المئة من الناتج القومي، وتوظف أكثر من 50 في المئة من القوى العاملة.
لقد شهدت تسعينات القرن العشرين تطورات عالمية بارزة أهمها انهيار مرحلة الحرب الباردة وتفرد أميركا بقيادة العالم والترويج للنظام الدولي الجديد وإفرازاته، لا سيّما العولمة ومنظمة التجارة العالمية والتحرر الاقتصادي وسيادة اقتصاد السوق وقيام الكيانات الكبرى المرتكزة على المصالح الاقتصادية المشتركة بدلاً من المصالح السياسية أو الأيدوليوجية المشتركة. فولّدت التطورات جميعها ضغوطاً على الشركات الصغيرة في العالم إجمالاً ومن بينها الشركات العائلية، التي كانت تتمتع بوضعٍ احتكاري سواء كان قائماً على تملك هذه الشركات لوكالات تجارية معينة أو بحكم إقفال الحدود أمام دخول خدماتٍ مماثلة. وتلمّس المسؤولون في هذه الشركات تحدياتٍ تواجههم، سواء جرّاء نقل ملكية الشركة من الأجداد إلى الآباء ثم الأبناء أو جرّاء التطوّرات الاقتصادية الإقليمية والعالمية.
وجاءت التشريعات الأوروبية مرنة على الصعيدين، وأعطيت العائلة حق الإشراف على الشركة بتملّكها ثلث الأسهم فقط. وهو ما يُريح التشريع في دول الخليج العربي، أو أيّة دولة عربية أخرى، لو أخذ به.
ميشال مرقص
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد