شوقي بغدادي: جسد يؤلف موسيقاه
ليست هي الأقلام والأوراق بالتأكيد
غير أنني جرّبتُ، فاخترعتُ، فاكتفيتْ
سالت على خدّيَ قطرة
لم أنتبه لها
فنبّهتني كلمة خربشتُها
حسبتُ أنها خلاصي الأوحدُ
فانكسفتْ
قلتُ، إذن أجرّب العزف بجسميْ
فأنا لا أتقن الكلام أخضرَ
ولا الكتابة الزرقاء
جسمي صالح للنبش والحفر
وفرح الأصوات لا يحتاج إلا لفن
تسعفه حنجرة صدّاحة
وكان أن صدّقتْ
لكنني حرّكتُ بغتة يدي بلا قصدٍ
إلى فضاء فارغ
إلا من الغبار والدخان
هبّت نسمة من طرف السبّابة اليمنى
ورنّت نغمة
أصغيت فازدادت حلاوة
أصغيتُ مرة أخرى
فمرّت نأمةٌ من طرف الإبهام
فاستويتُ جالساً أمام آلة
بل آلتين بل ثلاث
كان صوتها يهمس لي: اعزفْ
وكان أن عزفت
من إصبعين دارت رقصة
ومن أعالي منكبي استجابت الركبة والساق
وخبطة بالقدم اليمنى على الأرض التي اهتزّت
فضجّت دبكة
وعندها دَبَكتْ
من رَفّةٍ
أو رفّتين في الجفون
حوّمتْ فراشة لنافخ في قصب
يلعب قرب خيمة وحيدة خالية
يستمطر الرحمة للأطلال
أو يوقظ ليلاه التي نامت
فلم يبتهج الرمل
سوى عند امتداد الصوت
في الناي الذي رأيته يغمر عينيّ
فأغمضت على الذي رأيت
في رعشة تملّكت أناملي
سمعت نقرة العود
ولم أحزر لمن؟
كان «فريدٌ» أم «منيرٌ» أم «نصيرٌ»؟
كان واحداً منهم
فصرت العازف الرابع
فاحتضنت بطن عودي بالحنان نفسه
ألعب بالأوتار
أو أدق فوق خشب العود على الإيقاع
ما من أحد إلا أنا.. وحدي
وقد أخذني الجنون
في أناملي التي تحرّرت
وصرت تابعاً
ألهث خلفها
كأنني وصلت
أملتُ رأسي جانباً
فلوّح الكمان
من أقصى شواطئ الدانوب
فاستحضرتُ
فاستقام فوق ساعدي الأيسر
كانت عنقي تحضنه راجية
وعندما استجاب
جاءت الغزلان من غاباتها
نحو مياه النهر كي تلعب قرب النار
والضفاف امتلأت بالراقـصين والمهرّجين
والذيــن يقطــفون جهــرة حصـــّتهم
من شجر العشق
ولا ينهرهم معمّم أو كاهن
فارتفع «القالْسُ»
وزاد من سرعته
فهرول العشاق
فاندفعت
ألّفت موسيقاي
واسترخيت أصغي ليدي، وساعدي، وعنقي، وشفتي ثم تحرّكت قليلاً فاستمتعت لامتداد فخذي ولانقباض ركبتي ولارتعاش قدميّ تضربان أرض غرفتي..
ما هي موسيقاي؟..
لا صوت سوى دربكة القلب
وقبض الكف ثم بسطها
أو شد أوتار ضلوع الصدر
وانبعاج بطن ضامر
وهزة للخصر والساقين
لا تعني سوى أني حيّ
وبأن فائضاً يملأ أحواضي
إلى ما فوق حافة الولوع
عندما صرخت:
ـ أسرعي أيتها الآلات
إنني مللت..
شوقي بغدادي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد