الحارات الشامية ولهجتها وطباع أهلها
د.جوزيف زيتون:
لكل حارة دمشقية قديمة، قصة ورواية عكسها اسم الحارة، فالعديد من الحارات هذه لها مواقف بطولية شامخة في وجه الغزاة والمعتدين، وتاريخها حافل بالنضال، وسطرت صفحات ناصعة في سجل التاريخ لمقاومتها هؤلاء الغزاة، وسميت العديد من الحارات والأزقة الدمشقية على مر العصور بأسماء مختلفة، كمحلة “الخراب” بجانب بطريركية الروم الأرثوذكس والكاتدرائية المريمية، وهذه كانت فيها مجموعة من بيوت المسيحيين الدمشقيين، فضربها والي دمشق اسعد باشا العظم منتصف القرن 18 بعدما هرب اليها المسلمون الدمشقيون،
محلة الخراب
“وكانوا قد ثاروا عليه وحاصروا قلعة دمشق حيث يقيم، فأمر الطوبجية (المدفعية) بضربهم بالمدفعية فهربوا واختبأؤا في محلة المسيحيين بجانب كنيسة مريم، حيث ضربتها المدفعية ودمرت بيوتها البديعة، وصار الواقف في الخراب يرى المرجة الخضراء بأم العين”،(ساحة المرجة) وكانت تسمى كذلك لوقوعها بين فرعي بردى وهي عبارة عن جزيرة خضراء، (ساحة المرجة ظهرت مابعد منتصف القرن 19) ولذلك سميت هذه المحلة بالخراب، بعدما دمرت مدفعية القلعة أبنيتها بالكامل وشبت فيها النيران، وأصبحت خربة،(تاريخ دمشق، الخوري ميخائيل بريك الدمشقي وهو احد كهنة المريمية وقتئذ). وحارة الزيتون وكانت بستاناً للزيتون فيه كنيس يهودي لطائفة مندثرة بالقرب من الباب الشرقي محل بطريركية الروم الكاثوليك حالياً والتي تعود الى عام 1835 بعدما اشترت الطائفة الكاثوليكية هذا الكنيس من وكيلها في استنبول وحولته الى دار البطريركية وكاتدرائية… وحارة طالع الفضة وكانت مياه هذا الطالع كالفضة، وكان بجانب المريمية و حارة طالع القلقاسية نسبة الى تسمية مدرسة الآسية وبجانبها طالع سمي بالقلقاسية وكان في باحة المدرسة شجرةآس كبيرة وشهيرة كشهرة جوزة الحدباء اي شجرة جوزحدباء كبيرة ومعمرة، وكان يتم الصعود اليها بسبب حنيتها كأنها حدباء، وقد تسمت الحارة باسمها…
ومن تسميات الحارات، ماهو طريف وغريب، ومنها المبدع والجميل، مثلاً حارة “مطرح ما ضيع القرد إبنو”، وزقاق “الولاويل”، وزقاق “الخمارات” وحارة “الكلبة” و”الجردون” و”القطط”، و”الزط”، وحارة الطنابر، و”أبو حبل”… وقد تابع الدمشقيون اطلاق الأسماء على حاراتهم في التوسع العشوائي السكني ك “الطبالة” بتسكين الط، وتعني بالعبرية المقابر وكانت ملاصقة لمقابر المسيحيين واليهود في شرقي المدينة خارج الباب الشرقي، وحي القصاع وكانت محلة صنع القصاع منذ القرن 16 وقد دلت الآثار المكتشفة والعائدة الى القرن16 وماتلاه عن معامل لصنع القِصاعْ ( الآنية الفخارية الغميقة)، وفي وسط حي القصاع تقع ساحة برج الروس ” برج الرؤوس” نسبة الى البرج الذي أقامه تيمورلنك المغولي من رؤوس القتلى الدمشقيين الذين لم يسلموا مدينتهم، وقاوموه واتعبوه، وعندما فتح دمشق وفي هذا المكان الذي كان بيدراً، نكل بالمشقيين، ودمر دير الصليب القريب وفعل الأمر ذاته برهبانه ( كنيسة الصليب حالياً)،
وكذلك من حارات القصاع، حارة “عين الشرش” حيث تنساب مياه العين المعروفة بالشرش وهي حارتي الأصلية، وجناين الورد نسبة الى نضارتها في القصاع، والزينبية نسبة الى نبع ماء يسمى الزينبية بالقصاع… وكذلك عين الكرشي في شارع بغداد القريبة من ساحة السبع بحرات…
يقول المؤرخون وعشاق دمشق، لكل اسم مكان بدمشق حكاية، ولكل حكاية طرفة، والطرافة والدماثة واللباقة هي صفة أهل دمشق، ويعزون ذلك لأن ابن دمشق ابن بيئة تجارية منفتحة على الشعوب والأمم، وتظهر طرافة الدمشقي بشكل خاص في تسمية الأماكن، كما بينا.
التعرج في الحارات الشامية
تضم دمشق العديد من الأحياء والحارات العريقة والتاريخية. واشتهرت حارات وزواريب دمشق بطابعها الخاص من حيث البناء والحياة الاجتماعية، وأهم أحياء وحارات وأزقة دمشق تقع ضمن دمشق القديمة التي تتواجد داخل أسوار المدينة القديمة، أو خارجها، وعُرفت هذه الحارات والأزقة بأنها ضيقة ومتعرجة، بحيث ان بعضها لايكاد يتسع لمرور انسان وهو لغايات دفاعية كمحلة الجوانية خلف الكاتدرائية المريمية، ولها بابان لسهولة إخلائها عندما تقع الغزوة او الكارثة… وهي محلة تحفل بالقصور الواقعة في وسط بساتين ومن هنا جاء المثل الشعبي عند المسيحيين الشوام”حط المية فوق المية واسكن في الجوانية” وذلك بسبب غلاء بيوتها لحصانتها وجماليتها واتساعها الملفت.
وهنالك حتى الآن مثل هذه الأزقة الضيقة والمتعرجة في منطقة باب توما وشارع الأمين (حارة اليهود نسبة الى طبيعة حياتهم وعدم اختلاطهم بمواطنيهم من أديان ومذاهب اخرى.)
بحيث ليكاد المرء أن يمر فيها.. وهذه الحارات والأزقة القديمة اليوم هي مطارح للسياحة الشعبية حيث لها سحر خاص، وتغص بالزوار والسياح.. ويروي المسنون الشوام أبناء هذه الحارات، أن إنشاء هذه الحارات والأزقة بهذا الشكل المتعرج كان على علم ودراية، ويعود لأسباب دفاعية وهجومية، وأسباب اجتماعية في آن معاً… فقد كانت دمشق تتعرض لاعتداءات متكررة من قبل الغزاة والمستعمرين، إضافة الى مامرت به من فتن طائفية كفتنة 1860 التي دمرت الحي المسيحي برمته وكادت ان تقضي كلياً على الوجود المسيحي، فأراد أهل دمشق وخاصة المسيحية منها بناء حاراتهم وأزقتهم بشكل متعرج وملتوٍ لسهولة الدفاع عنها من المعتدي والغازي، فلا يرى المعتدي الحارة إلى آخرها، ولا يعلم من يكمن في متعرجات الحارة، من الشباب والرجال المدافعين عنها…
.. كما أن تعرج الحارات يعود في الأساس لعادات وتقاليد الشوام، فالنسوة الجارات يقمن في النهار أثناء غياب الرجال في اعمالهم بزيارات لبعضهن بعضاً لوقت قصير قد يقضونه أمام أبواب البيوت (على الباب).. يتبادلن أطراف الحديث، أو لقضاء أمر ما، ويتركن باب البيت مشقوقاً (مفتوحاً)، والتعرجات في الحارات يحجب الرؤية من بعيد فحين يمر أحد رجال أو شباب الحارة وحتى الغريب عن الحارة وجب عليه عند كل تعرج (أو لفة) في الحارة، أن يُعلن عن قدومه بصوت عال:
“يا الله… يا ستار…” فتسمع النساء الصوت، فيغلقن الباب، أو يعدن من الحارة سريعاً إلى البيت.
اللهجات في حارات الشام
من المتفق عليه ما أوضحه عبد الرحمن بك سامي العام 1890 بقوله:” لغة الدماشقة لينة رقيقة، ولهجتهم حسنة لطيفة توافق طباعهم، إلا إنه فيها كغيرها من لغات أهالي المدن، والأمصار العربية شيء كثير من الألفاظ غير الفصيحة، وبعض التراكيب المخالفة لقواعد اللغة العربية الفصحى، ولا عجب بذلك فإن هذا شأن اللغات الواسعة في كل المدن والأمصار في كل الأزمان والأجيال… وإذا نظرنا إلى لغة الدماشقة رأيناها مشوَّهة كغيرها، وفيها من الألفاظ والاصطلاحات ما لا يوجد بغيرها، إلا أنها رقيقة يقبلها الذوق، ولا ينفر منها الطبع وهي قريبة من اللغة الفصحى أكثر من كثير غيرها من اللغات”.
الطريف في أهل دمشق القديمة ومن سكن فيها، أن لكل حي أو منطقة لهجته وصفاته وطباعه، وهنالك تنافس في بعض الأحيان بين الأحياء والحارات، وكانت العديد من الحارات تتكنّى بالمدن الكبرى، فحي سوق ساروجة كانوا يطلقون عليه اسم اسطنبول الصغيرة بسبب سكن كبار الموظفين المدنيين والعسكريين الأتراك فيه منذ اواخر القرن 18، في حين يطلقون على حي القيمرية اسم الهند الصغرى، وأهل الميدان (وكانت الميدان كما بينا تقع خارج حدود دمشق القديمة الادارية المحصورة بأسوارها, كانوا في تنافس مستمر مع أهل الشاغور على الكرم والشجاعة “الزكرتية” (نسبة لأهل زغرتا في شمال لبنان الموصوفين بالشدة والحمية)، وقد يكون لكل حي لهجته الخاصة فالشاغوري نزق في كلامه،
والميداني لا يتراجع في كلامه فهو واثق بنفسه وكانوا يقولون عنه إصبعه (تخينة)، وأهالي الصالحية كانوا أكثر (دلالاً) نتيجة اختلاطهم مع الغرباء الذين أقاموا بدمشق، فكانت لهجتهم ناعمة رقيقة، وتنسب اليهم تهكماً مقولة:” طلعت السمسة عالزوزة” وصوابها “طلعت الشمس على الجوزة”
“وهنالك حارات بدمشق تتصف بصفات خاصة بالطباع واللهجة، كحارة المغاربة في حي الميدان، حيث اللهجة المغربية والجزائرية هي السائدة، إضافة إلى الحدة في الطبع، وأهل هذه الحارة حين يغضبون أو ينزعجون يحذرون الآخرين (هلّأ بتطلع مغربيتي)، وساحة الرياشنة والدروز والتيامنة في الميدان ايضاً وفيها لهجات المناطق التي وفدوا منها وسلوكياتهم وطبائعهم… وفي المهاجرين كانت الكلمات التركية تساير الكلمات العربية لكثرة الأتراك القاطنين في المهاجرين، أما الأكراد فيقطنون في حيهم حي ركن الدين ولهم لهجتهم العربية المكسرة كالأرمن الذين نكبوا بمذابح متكررة منذ بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني منذ العقد السابع من القرن 19 واستمرت الى المذبحة الكبرى في 1915 وقد لجأو الى سورية ووجدوا فيها واحة الأمان بعدما قدموا اكثر من مليون شهيد في آخر مجزرة، وسكنوا في معسكرات كانت تُدعى “كم الأرمن” وصوابها “كامب الأرمن” او “مخيم الأرمن” في القصاع وباب شرقي، وكانوا يتكلمون في محلتهم بلغتهم ، ولغتهم العربية (مكسرة) فحديثهم بالعربية مليء بخفة الدم والطرافة، ولهجة أهل القصاع وباب توما فهي لهجة الشوام سكان محلة المسيحيين في المدينة القديمة ،إضافة الى لهجات أهل المدن والقرى المسيحية التي وفدوا منها وسكنوا القصاع، من غوطة دمشق كعربين ووزملكا وحرستا، وصيدمايا ومعلولا ومعرة صيدنايا ومعرونة ويبرود والنبك وقرة وبلودان والزبداني والمناطق الداخلية في سورية كوادي النصارى وحمص وحماه واللاذقية، ومناطق الجزيرة والفرات حيث السريان والكلدان، والآشوريين ونكبوا بتطهير مناطق ماردين وديار بكر منهم بيد الأتراك وقدموا مئات الوف الشهداء، وتزامنت مع مجزرة الأرمن 1915. ولواء الاسكندرون وانطاكية 1938 واليونان والعرب الأرثوذكسيين المنكوبين بسلخ كيليكيا ومرسين وازمير بيد الأتراك اواخر العقد الثاني من القرن العشرين (من 1918-1922) وقد قدموا مليون شهيد على يد الأتراك الباغين. ثم مغادرتهم لواء اسكندرون.
أما يهود دمشق القاطنين في حي اليهود فكانوا يمطون آخر الكلمات بحيث يختفي آخر حرف من الكلمة…واليهودي يُعرف فوراً من لهجته… وبقوا على حالهم من حيث السلوك والعادات واللهجات حتى مغادرة معظمهم سورية (دمشق، حلب، الحسكة) في العقد الثامن من القرن 20.
إضافة تعليق جديد