عن ثلاثية سهيل ادريس
شيع أمس في بيروت الكاتب والناشر اللبناني سهيل ادريس، وهنا قراءة في أعماله الروائية.
< في عام 1953 نشر شاب روايته الأولى «الحي اللاتيني». كان الشاب قد بلغ الثامنة والعشرين، وعاد من باريس حاملاً الدكتوراه لأطروحته «القصة العربية الحديثة 1900 – 1950 والتأثيرات الأجنبية فيها». ومن قبل كان الشاب نشر ثلاث مجموعات قصصية هي: «أشواق» (1947) و «نيران وثلوج (1948) و «كلهن نساء» (1949). كما كان ذلك الشاب نشر روايته «سراب» مسلسلة في جريدة «بيروت – المساء» عام 1948.
إنه سهيل إدريس الذي أسس مجلة «الآداب» سنة نشر «الحي اللاتيني»، ثم أسس دار الآداب عام 1959. ولئن كان ذلك يرسم أمثولة للكتّاب الشباب اليوم، فلعل الكتّاب جميعاً يستذكرون اليوم أن «الحي اللاتيني» صدرت خلال عامين في 15 ألف نسخة وثلاث طبعات. ولعل النقاد يستذكرون أن أكثر من عشرين مقالة نشرت عن الرواية في شهورها الأولى... أي درك إذاً قد بلغنا خلال نصف قرن؟
«الحي اللاتيني»
هي الرواية التي اعتبرها أحمد كمال زكي عام 1954 «أروع بناء في الرواية العربية المعاصرة»، ثم عدّها نجيب محفوظ مَعلماً من معالم الرواية العربية الحديثة. ولئن كان لآخرين عليها مآخذ كما سنرى، فقد كان علينا أن ننتظر رواية الكاتب الثانية «الخندق الغميق» (1958)، لتقرّ «الحي اللاتيني» كجزء من ثلاثية ستكتمل عام 1962 بصدور رواية «أصابعنا التي تحترق».
حين ظهرت «الحي اللاتيني» كانت الرواية العربية تنجز مرحلتها الثانية على يد الرعيل الشاب الذي تباينت سبله وتلامعت فيه أسماء نجيب محفوظ وحنا مينه وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وحسيب كيالي... ومن إرث ذلك الرعيل كانت تتلامع روايات إبراهيم المازني وتوفيق الحكيم وتوفيق يوسف عوّاد وشكيب الجابري. أما العلامة الأولى لريادة «الحي اللاتيني» فقد تبدت قبل نصف قرن باشتغالها على ما دعوته «وعي الذات والعالم» ودعاه آخرون «وعي الذات والآخر»، و «الرواية العربية الحضارية». وليست «الحي اللاتيني» كما ذهب إلياس خوري آتية مما اختطته رواية توفيق الحكيم «عصفور من الشرق» (1938).
في صلب العلاقة الريادية يأتي اشتغال السيري في الروائي – والعكس – بما يعنيه من نقلة في الكتابة الروائية، وربما كان ذلك ما جعل سهيل إدريس لا يسمي بطل «الحي اللاتيني» الذي يمم باريس، ليس فقط من أجل الدكتوراه، بل لأنها «عاصمة المرأة»، يسوطه اختفاء المرأة الشرقية من حياته، فينادي خيال المرأة الغربية.
بضمير المخاطب في «الحي اللاتيني» سردية الأسابيع الأولى الخاوية لبطلنا: «لقد هربت من جراحاتك من دنياك الشرقية، فما الذي أصبته من الهرب الى هذه الدنيا الغربية؟ جراحات أشد إيلاماً وأنضح بالدم. ليس هناك من امرأة. ليست هنا المرأة التي حلمت بها. ليس إلا صحراء آلم من صحراء شرقك». وبعد تجربة خائبة مع فتاة السينما، توحي له من يصادفها في حديقة اللوكسمبورغ وهي تقرأ تحت المطر، بالكتاب خلاصاً مما يكابد، فنقرأ: «هنا، في صفحات الكتاب، سيجد راحة ضميره. إن الكتاب وحده سيحرره من قيود هذا العالم المعذب». وبهذا الانتقال من ضمير المخاطب الى ضمير الغائب، تواصل الرواية ريادتها في ملاعبة الضمائر، والتي ستتثلث بضمير المتكلم من بعد.
تتوالى خيبات صاحبنا من صديقة صاحبه الفرنسية الى ليليان التي أورثه إياها صديق آخر، وقرأت له من شعرها فتسافر، ثم يكتشف أنها سرقت نقوده، وأن ما قرأته هو لجاك بريفير. ثم جاءت مارغريت تطلب اللذة، فإذا بها تغادر البطل ساخطة وتصف الرجال بالأنانية القذرة. وإزاء ذلك يترجّع تحذير رسائل والدة البطل من نساء باريس، لكن جانين مونترو تبرق في سماء البطل مجرحة من خطوبتها بعدما اكتشفت خيانة خطيبها، فيعلقها صاحبنا مأخوذاً برهافتها وبثقافتها – ستعلمه تذوق الفن والموسيقى الكلاسيكية – وتعلقه كما علّقت ليلى مجنونها، حتى تخاطبه: «لقد طبعتني بطابعك، وسأظل أبداً أسيرة قيودك. إنه مصيري تقرر منذ رأيتك. لم تبق لي إرادة». بل إن جانين ستحب البطل كما تحب المرأة الرجل في الشرق، بلا مقابل ولا عوض، فذلك هو الحب الصحيح. لكن إعلانها ذلك سيجعل معشوقها يتخيلها صخرة تتدحرج في منحدر. ولما أعلن أنه سيقضي الصيف في بيروت، ندبت نفسها في غيابه: «أية فتاة ضائعة سأكون!». فدوّنت هذه العبارة في دخيلة العاشق: «انتهى الأمر وانفقأت الدمّلة».
كان الشاب في بيروت «صدفة جوفاء ملقاة على رمل شاطئ». وفي باريس أراد أن يضع حداً لحياته القديمة. ومن ذلك كان أن عاش مع (ماتيو) بطل سارتر شهوراً، كما سحر بنظرية سارتر في المسؤولية والحرية – وسيأتي من النقاد من يتقصى فعل رواية سارتر في رواية إدريس – لكن المرأة كانت الهاجس الأكبر لهذا المثقف، والكاشف الأكبر لمنعرجاته، خصوصاً في المرحلة الأخيرة والأطول والأهم: مرحلة جانين، حين بدا كأن البطل قد استبطن الفكاك منها لأنها ثيب. وسيتلامح الفكاك بالمقارنة بين مباهاته بجانين في حفلة رأس السنة في السوربون، وبين تضامنه أمام سكرها إبان عودته الى بيروت، إذ ستلحق به رسالتها منبئة بحملها، وستقرأ أمه الرسالة فيلعلع صوت الشرق بصوتها محذراً. وهكذا ستجهض جانين وتفقد عملها وتتحول الى فتاة رصيف، مما سيلي في يومياتها كتلوين آخر للسرد. وسيندم البطل حين لا ينفع الندم، وسيشغل بقية مقامه في باريس بتأسيس رابطة الطلاب العرب وبالمحاضرات القومية، ويتنامى تأثير الصديق المناضل فؤاد الذي يرفض الزواج من أجنبية لئلا تعوّق النضال. وعلى وجه فؤاد يملأ الأفق لدى عودة البطل الأخيرة الى بيروت، تنتهي الرواية، بينما كان وجه الأم الصغير الحلو هو ما ملأ الأفق لدى العودة السابقة. والرواية تزخر بمثل هذه الإشارات النفسية التي نادت التحليل النفسي الى بعض نقادها فقال جورج طرابيشي بتجنيس الرواية للعلاقات الحضارية، وقال نجيب سرور بنرجسية البطل.
«الخندق الغميق»
يعود سهيل إدريس في رواية «الخندق الغميق» الى ما قبل الذهاب الى باريس. وتبدأ الرواية بسعي الطفل سامي الى الاندماج في عالم الأب الشيخ المتعمّم. فبعد استراق الطفل النظر الى «الجو الذهبي العجيب» للسهرة الأسبوعية التي يقيمها والده لأصدقائه، يقتحمها، ويعزز موقعه بصوته الجميل، إذ يرتّل، وبحافظته للقرآن والحديث، على أن همّه ينصب دوماً على المكافأة.
تراهن الرواية على المشهدية، فيتميز فيها مشهد سرقة سامي طبق الحلوى ولحاق الشيخ الأعرج به، وما خلفه ذلك في الطفل من رعب وكابوسية، الى أن عاد والده من سفر فهتف: «إنني أريد أن أصبح شيخاً». وثمة أيضاً مشهد تسلل الشاب سامي الى فتاته العصرية سمية، ثم فراره وسقوطه من الشرفة. وتبلغ المشهدية ذروة أكبر في مشهد خلع سامي الجبة والعمامة وتمزيقها بعد ما صفعه أبوه جزاء إعلانه العزم على ترك المشيخة. وكان سامي التحق بالمعهد الديني الداخلي، فنال «الشيخ الصغير» ما نال من سخرية أقرانه. على أن هذا العهد لم يطل به، ففي سن البلوغ مالت به الدرب الى التدخين والسينما والجنس، وما فتئ عقاب الأب وتقريعه ينصبّان على هذا المروق، الى أن وقعت واقعة خلع الجبة والعمامة.
تتولى هدى شقيقة سامي رواية القسم الثاني من الرواية بضمير المتكلم، فترسم لسامي صوراً أخرى، منها معركته الأولى مع أبيها الذي فرض على هدى الحجاب وقرر حرمانها التعليم. لكن سامي، وبعون الأم، انتصر على الأب، كما سينتصر في المعركة الثانية، حين يسّر لعلاقة شقيقته مع صديقه رفيق، وحين اصطحبها الى السينما، ما اكتشفه الأب فضرب ابنته، لكنه خسر المعركة أخيراً. وكانت المعركة الفاصلة حين شجع سامي شقيقته على السفور، فأوسعها الأب ضرباً، لكنه خسر المعركة أيضاً وأصيب بالشلل.
على النقيض من سامي يبدو شقيقه الأكبر فوزي نماماً وداعراً ومنحلاً وسكيراً، وهو حليف الأب. وبإنقاذ سامي شقيقه من السجن يتوطد الحلف ضد الأب الذي يتزوج ثانية سراً، وتقع الواقعة إذ تكتشف الأم ذلك، وينجدها الأبناء من ضرب الأب، لتتهاوى آخر قلاعه.
رأى رئيف خوري أن «الخندق الغميق» هي «حياة بكل صدقها وطبيعتها، وبكل لمساتها الإنسانية، الساذجة أحياناً، في حلاوة تمسّ شغاف الروح». لكن ميخائيل نعيمة وغالي شكري ومحيي الدين صبحي أجمعوا على أن سرد هدى للقسم الثاني من الرواية يفتقر الى الإقناع. كما أجمع النقاد على القول بنرجسية سامي مثلما أجمعوا على القول بنرجسية ووجودية البطل الذي سيصيره سامي في رواية «الحي اللاتيني». ولقيت «الخندق الغميق» معارضة مجلجلة حتى اتهم كاتبها بالزندقة، ومهما يكن من أمر، فعلى المرء أن يقدر للرواية مراهنتها على المشهدية، وإفساحها لصوت المرأة.
«أصابعنا التي تحترق»
بهذه الرواية اكتملت ثلاثية سهيل إدريس، وقد عاد بطله سامي من باريس حاملاً الدكتوراه، وأسس مجلة «الفكر الحر» ليبث أفكاره، ويوفر منبراً للأدباء الطليعيين العرب.
تتمحور الرواية حول بطلها الذي يرفض الانحياز يميناً أو يساراً، ويرفض التحزب مجلجلاً: «إن أي التزام حزبي مهدد لحريتي، حرية فكري وأدبي». وقد شبه يوسف الشاروني موقف سامي هذا بالموقف الوجودي الذي عبرت عنه سيمون دوبوفوار في روايتها «المثقفون». والحق أن الرجع الوجودي في رواية «الحي اللاتيني» يتضاعف في «أصابعنا التي تحترق»، وكان سهيل إدريس الكاتب والمترجم والناشر داعية الوجودية الأكبر، فلا غرو أن يكون لها في روايتيه هاتين كل هذا الحضور. أما سامي في الأخيرة فقد غدا قبلة الأدباء في لبنان وخارجه، وكرمته مصر كراعٍ للأدباء. وستحشد له الرواية ما يعزز امتيازه وتميزه حد النرجسية، مثلما بدا في الجزءين السابقين من الثلاثية. فحين ضاقت موارد سامي رد لصديقه وحيد حقي ما تبرع به لإنجاده، ورفض أن ينشر لحزب هذا الصديق، ولم يلن سامي أمام من عدّوه وكيل الثقافة الانحلالية، عدو القيم البشرية. وناجزَ من ينظّرون الى (لبننة المجتمع اللبناني) فيفصلون اللبناني عن قضايا الأمة، والأدب عن السياسة. ولعل قول كريم في ذلك قبل أربعة عقود يخاطب يومنا: «إننا نؤمن بطاقات لبنان، ولكننا لا نؤمن بشطحات الخيال. نريد أن يكون بلدنا على مستواه، لا دونه ولا فوقه. وأنا أعتقد بأن عقدة الفوقية أشد خطراً من عقدة الدونية». أما سامي فيذهب الى أن مشاركة الكاتب في قضايا قومه والعالم لا تتحقق إلا في نظام ديموقراطي فـ «الديموقراطية ليست ممكنة من دون التحرر، ويجب أن تكون مرتبطة عن وعي بالحرية». كما يذهب سامي الى ان الأدب السوفياتي ليس حراً، كالثقافات الغربية الأخرى التي تسلب الفرد حريته.
تتشظى الرواية بين غمر الأفكار والتنظيرات وبين شبكة الشخصيات التي تدور في دائرة سامي، خصوصاً النساء، وهو الذي يبرر مغامراته معهن بأنه فنان لا يحب القيود. وجعل هذا التشظي ناقداً مثل إبراهيم السعافين يسم الرواية بالتفكك، بينما رأى غالي شكري أن أورام الاستطراد أصابت الرواية، كالتفصيل في تطور مجلة «الفكر الحر» وكرسائل عزيز... وأُسندت الرواية في شطرها الثاني الى إلهام راضي التي بدت أنموذجاً مثالياً يجمع بين تفتح المرأة وبين الأخلاق الشرقية، لذلك ارتضاها سامي زوجة، بينما رفض الزواج من الأديبة المتحررة رفيقة شاكر.
ونالت الرواية من شخصيتي الأديبتين سلمى العكاوي وعبلة سلطان كل منال، بينما بدت إلهام راضي شخصية روائية جديدة، تنقد رواية سامي «على ضفاف السين» وتحول المال المخصص لحفلة الزواج الى تنمية مشروع المجلة، وتعمل سكرتيرة لها، وترفض الحرية الفوضوية وتبرر للفنان أن ينتقل بين النساء ليحيا تجربة جديدة ويقدم انتاجاً جديداً... وليس يخفى عبر ذلك كم تبدو إلهام أيضاً قنــــــــــاة أخرى لتصريف نرجسية سامي.
نشر سهيل إدريس عام 2002 الجزء الأول من سيرته «ذكريات الأدب والحب»، حيث يمكن للدارس أن يقرأ الجذور السيرية في روايات الكاتب، كالانتساب الى كلية فاروق الشرعية، وخلع الزي الديني، ومساعدة الشقيقــــــة على متابــــعــــــــة الدراسة وعلى السفور، والعلاقة مع (حنان!...) والسقوط من الشـــــــرفة والسفر الى باريس. على أن الأهم هو أن حياة سهيل إدريس الثقافية قمينة أن تقدم سيرة الثقافة العربية خلال نصف قرن، وليس فقط إضاءات لما زخرت به ثلاثيته من تحويرات للسيرة الى الروائي.
أصدر سهيل إدريس بعد «الحي اللاتيني» مجموعته القصصية «الدمع المر (1959)، وبعد اكتمال الثلاثية مجموعته «رحماك يا دمشق (1965). غير أن هزيمة 1967 جعلته يتوقف عن الكتابة الإبداعية، سوى مجموعته «العراء (1973)، لينصرف الى النشاط اللغوي. وكان يواعد العودة الى الرواية حين يتحرر من معــــــوقاته، كما صــــــرح في حوار معه عام 2000.
حسبُ سهيل إدريس ريادته للرواية العربية، من تشغيلها في وعي الذات والعالم الى تعديد طبقاتها السردية الى حضــــــــور المرأة الى ملاعبة الضمائر والاستباق والارتداد والتداعيات والإيقــــــــاع... وبالطبع، اعتور هذه الريادة ما اعتورها من طغيان شخصية البطل على ســواها، ومن الصخب الفكري. غير أن الإنــــجـــاز الروائي العـــربي المطّــــــــرد قد نهــــض على ما أرست تجـــــربة سهيل إدريس وأقرانـــــــه من الرواد.
نبيل سلمان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد