وسعد يكن يرتمي في أحضان شهرزاد
من ملحمة جلغامش إلى الأسطورة والطوفان والجدار ومقاهي حلب، يصل سعد يكن أخيراً إلى «ألف ليلة وليلة». لقد اعتاد هذا التشكيلي السوري الاشتغال على موضوعات كبرى بوصفها ثيمة مركزية يناوشها من مواقع مختلفة، وينسج خيوطها بريشة متوترة وألوان صاخبة تعكس جحيم كائناته وعذاباتها الداخلية. كائنات تقف على تخوم الخراب وهي في أقصى حالات عذابها أو نشوتها. وجوه مشوّهة تكشف عما يعتمل في الداخل من نشوة أو عذابات. أيقونات معاصرة وبورتريهات لشخصيات مرجعيّة في تجربته: أمثال لؤي كيالي وصبري مدلل ونزيه أبو عفش.
أرجل حافية ووجوه متطاولة في مقهى، أو ملهى، أو شارع أو على حافة جدار، وأحياناً على حبل غسيل معلّقة بملاقط، تنحدر شاقولياً بفزع وهي تقترب من دمارها، كما لو أنها على حافة بئر تكاد تنزلق إلى الجحيم. هكذا يلقي سعد يكن بشخوصه إلى التهلكة من دون تردد أو ندم.
في معرضه الجديد «ألف ليلة وليلة» الذي يقام حالياً في غاليري «آرت هاوس» (حتى 30 آذار/ مارس الحالي) يستعيد شخصيات هذا السفر الحكائي الضخم من خندق آخر. يرصد شهرزاد في عذاباتها اليومية وطغيان أنوثتها وبلاغة حكمتها، وصدى حكاياتها على مسمع شهريار الغارق في الصمت والرغبة والانتظار. هكذا يتجاور السرد الحكائي والسرد اللوني في لوحة تسجيلية إلى حد ما، تحيل على ذاكرة جمعية كثيراً ما كانت منبع الحكاية العربية في تجوالها وترحالها بين الأمكنة ومكابدات شخصياتها.
في لوحته «الحياة في قصر شهريار» يمزج يكن الشهوة والرغبة بالموت، فعلى بعد خطوات يقف «مسرور السياف»، وكأن الحكاية لا تكتمل إلا بحد السيف. ولعل هذا الإلحاح على ما هو حكائي صرف، أتخم اللوحة بعناصر كثيرة، بدت تفسيرية على نحو ما في بعض اللوحات كتلك التي حملت عناوين مثل «حورية البحر والصياد»، و«الحمّال والبنات الثلاث»، و«السندباد البري»، و«الجارية والسيّاف». بينما يلامس سعد يكن البؤرة الايروتيكية في الحكاية بإشارات دالّة وخاطفة، يغطيها بغلالات بيضاء، تكشف عن شهوات متأججة وصبوات حسيّة تفصح عما هو مسكوت عنه في «الليالي العربية». الجسد هنا مرتهن للذكورة بكامله. جسد مرتبك ومتوتّر، إذ تتشابك أصابع المرأة بحذر وريبة وخوف، كما تحضر السبايا في لوحات أخرى لتؤكد على طبيعة هذه العلاقة بين الرجل والمرأة. العلاقة القائمة على الانتهاك في الدرجة الأولى.
تحضر شهرزاد في اللوحة كأنها جزء من الحكاية، وليست راوية لها، فها هي ترافق السندباد في رحلته البحرية، وتتوه في الأمواج المتلاطمة، وتتحول إلى فراشة في عمل آخر، تطير بأجنحة الحلم بعيداً عن سواد الليل. هذا السواد الذي يعكس مراياه على السحنات الكئيبة لشخصيات الحكاية، فتأتي نضارة اللون في خلفية اللوحة كاشتهاء أكثر منها واقعاً لما يدور على السطوح.
يقول سعد يكن في وصف مفهومه لتحولات شهريار في لوحته «شهريار المستبد تحوّل على يدي شهرزاد إلى رجل وديع ينصت إلى الحكايات ويحلم ببساط سحري من الألوان». هكذا تتفوق شهرزاد بسطوة الخيال على سطوة السيف ورائحة الدم، وكأن الحكاية والتخييل هما الملاذ من الموت المحتوم. وتبدو شهرزاد نفسها مسحورة بالحكاية التي ترويها، فهي تعيش اللحظة كي تؤجل موتها. من هذه النقطة يلتقط يكن جوهر لوحاته ويعلن موقفه النقدي من شخوص الرواية، فيؤكد على ما هو شعبي ويومي في الحكايات، ونادراً ما يلتفت إلى الضفة الأخرى للحكاية إلا بوصفها حلماً أو كابوساً.
تمر اللوحة هنا بمراحل عدة، سواء على صعيد السرد أو اللون... فهي بانورامية تجول في أرجاء قصر شهريار وحدائقه، إلى أن تصل إلى تفصيل واحد ينطوي على بؤرة لونية كاشفة هي محور البحث والمعاينة في الاشتغال على الظلال في تعبيرية محتدمة، ووفقاً لما يقول يكن «كمال شهرزاد يكمن في البحث عن شهرزاد». بمعنى أن هذه الثيمة فكرة لا نهائية للإحاطة بصورة الأنثى في تحولاتها وخنوعها وقهرها وتمردها.
وتكمن أهمية هذا المعرض في تأكيده على ردم المسافة بين شهرزاد الأمس وشهرزاد اليوم من دون روح استشراقية أو اكزوتيكية، فالسياف مسرور لا يزال يستل سيفه عند عتبة الباب، وشهريار ينتظر ضحية أخرى كل ليلة، ونحن نحتاج إلى «ألف ليلة وليلة» أخرى قبل أن يدرك شهرزاد الصباح وتسكت عن الكلام المباح.
خليل...
-«ألف ليلة وليلة» حتى 30 آذار (مارس) الحالي ــــ غاليري «آرت هاوس» (دمشق)
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد