أنسي الحاج: الحاني يَحْنو أكثر
حين تغمرك مخلوقات الليل دافعْ بأغنيات، ما أكثر ما تُحبّ بهائم الليل أن تهدأ على أغنيات!
لمَ هذا السيل؟ لمَ هؤلاء؟ لا نُسمّي. فقط: هؤلاء. وليسوا هم بل المعجوقون بهم. لا تتضايق من عدم استحقاق المتهالك بل تتضايق ممّن يصفّق له. المستسلمون للزائفين هم المشكلة لا الزائفون. المأخوذون بالمُزَعْبرين مدعاة يأسٍ لأنهم برهان اليأس. ليس المغنّون المعيبون هم المشكلة بل جمهورهم، صحافتهم. ليس الأدباء والصحافيون التجليط هم المشكلة بل جمهورهم، تلفزيوناتهم. لستَ أنتَ أيّها المهرّج بل وَقْع صورتك. ليت الناس يتعلّمون من البركة، من البحر، لكنّهم لا يتعلّمون. هناك، أكبر حجر يسقط لا يعدو صدى سقوطه، ثم يختفي. ما الذي يبقى رغم أشداق البحر؟ ما الذي يكرّسه البحر؟ يُتَشْتِشُهُ؟ هناك لا يُحترم غير الريح الطائر أو الجزيرة. الجزيرة الراسخة في الأعماق الشامخة في السماء.
أنا عشير الأحلام ومع هذا لا أنجو من صفعات اليقظة. ليتَ لا تكون يقظة. ما دام «الناس نياماً وإذا ماتوا انتبهوا» فلماذا ينتبهون، لماذا تجعلني أنتبه مراراً قبل الانتباهة الأخيرة؟ ما هذا؟ تدريبٌ على الموت؟ عوض أن تدعني وشأني؟ ثم أنت مَن أنت إن لم تكن أنا وإن كنتَ أنا فلماذا تخاصمني؟ حاولتُ أن أحبّهم فلم أستطع إلاّ في غيابهم. نزفتُ من حضورهم حتّى العمى. الرابط الوحيد بين القلب والعين هو النوم. إنْ نمتَ مرّة فستعرف ما أقول. اصعدْ إلى صومعة ذهنك العليا الصمّاء لا تؤجّلْ، عبّئ رئتيكَ، املأ شَعْر رأسكَ بعواصف الصنوبر والزيتون والحَوْر والقَصْعين، اعمِ عينيكَ بموجِ المدى الهائل، المدى المتوحّش المضياف، وحين تغمرك مخلوقات ليله دافعْ بأغنيات، ما أكثر ما تُحبُّ بهائمُ الليلِ أن تهدأ على أغنيات!
ـــ ما بالك تقفز من إلى من إلى بدون نَفَس؟ ما هذه الكتابة الخوتاء؟
ـــ لأنّي أتجنّب الشوك. أنطُّ بين العوسج كالأرنب بين الصيّادين. مَن ينطلق خطأً لا أحد يتحمّل مسؤوليّته لأنه أخطأ في نَفْسه لا من العالم.
ـــ لا تستطيع أن تكون موزوناً وحسّاساً.
ـــ لا أبحث عن التوازن بل عن تسوية مع قيودي.
ـــ اركنْ إذاً إلى ظَهر السنديانة.
ـــ تلك خدعة أيضاً.
ـــ في لعبة الصدق ستخسر المكافأة وستَطْلَع كاذباً.
كيف يترك الواحدُ الآخر والآخرُ لا يدري بما كان سيقوله له؟ ما لا نُمَكَّنُ من قوله هو دوماً أجمل من كلّ ما قلناه.
ترفضين سخيّ العطاء مخافة أن تفشلي. ولكنْ هل تفشلين في الكأس الكاملة وأنتِ المتوَّجةُ في الجرعة؟
الكاره لا يرتاح والمحبُّ لا يرتاح. الفرق بينهما أنتِ.
أخاطب فيكِ امرأةً قد تكون أنتِ، ومَن يخاطبكِ رجلٌ قد يكون أنا، ومَن يسمعني ثالث قد يكون سواي، ومَن يَجْهلنا لامبالٍ قد يكون سيّد العارفين.
لا يتم الانفصال عن المحيط بالتجاهل ولا بالتعالي بل بحياكة عالمٍ بديل. ليس هذا، كلاّ، بل بالتوكّل على عالمِ داخلكَ والطواف بدهاليزه وأنهاره.
تُرْشَق هناك بتهمة الاغتراب ولكنْ لا يَقْدر قادرٌ على تخوينك. المغترب يترك لكَ كلّ شيء، لا تَقْدر على تخوينه. يترك لك أرضه ومقبرته. يترك لك الحكم والولاية. يتركُ لكَ. يبادل الصراخ، صراخ العقبان، والقهقهة، قهقهة الضباع، بانكسار الظهر نحو أعماق الروح. يترك لكَ كلَّ شيء. ويترك لكَ السلطان، فجور السلطان، ويتوارى خَلْف الحريّة، حيث يلاقي ملاك روحه، يتعانقان وراء الحدود، حدود السلاطين وعمّالهم، ويحكي من هناك لغته الجميلة الناصعة اللامفهومة.
لم أعد أذكر عدد المرّات التي قيل لي فيها: لا نفهمك. لكنّها قيلت عَبْري لآخر، أمّا أنا فلم أكن أكثر من مَمرّ. في أحد الأيام تعمّدتُ الإبهام تخبئةً لسرّ. وجاء مَن فَكَّ الرَّصْد، ونِعْم مَن جاء. ولم يكن غير رَصْد طفوليّ. ولما تهاويتُ إلى نوري عارياً بسيطاً أضحيتُ مُسْتَغْمضاً.
كيف أكون في النور ولا أُرى. إنه النور. لا نراه ربّما إلاّ حين يَذْهب.
لم أسمع أَنعم من صوتكِ. إنه اعتذاركِ عن صمتكِ. لم أشعر بأقوى من صمتكِ. إنه اعتذاركِ عن جمالكِ.
الكاره لا يرتاح والمحبُّ لا يرتاح. الحاني يحنو أكثر. كلّما كبرتْ روحك ازددتَ معرفةً بنواقصك. البحر هو الذي يَغْرق أمامك في كَرَمه وليس الذي يُغرّقك. المصلوب يُخفي صليبه. الميت الحبيب يُنسي موته. عري كتفيكِ صَيفيّة للبردانين.
أَكْبَرُ تيهي أنّني جامحٌ إلى ما يضعفني. مطمورةٌ دروب انحداري. سمعتُ ما دار في بعض الأحلام فلم أحفظ منه غير المقبّلات. كنوزُ الأحلام مُقبّلاتها، تُجنّح، تزيد عدد الأبواب التي ستنفتح، تحافظ على رونق السطوح، تَدع للأعماق ما يجب أن ينام، تُبْرِزُ بَرْزَةَ العروس ما يزيد عدد الأبواب التي ستنفتح.
أنتِ افتحي عينيكِ. للآخرين أن يُغمضوا من وهج النشوة.
فوق الصدفة أضَعُ النجوم.
فوق النجوم أضعُ طاقة لا أعرفها.
تحتها أضع لحظة التكوّن في أحشاء الأمّ، وكيف تتدرّج تلك الغرسة.
الصدفة من عمل النجوم. والطبيعة بطقوسها شريكة النجوم في الأسفل وفي الضواحي. حيث تتأسّس الأركان، إلى أن يبزغ المتخرّج من نَفَق الأمومة.
كيف تستطيع العروس أن تحتمل الأمومة. هذا الصليب الذي لا يرى غير زهوه وصبره. كيف ترضى الطبيعة القاسية الفظيعة أن تُخضع العروس لهذا التحوّل، كيف لا يُخْلَق المخلوق بغير هذا الصّلْب. كيف يرضى العقل وكيف يرضى غير العقل.
متى تُنْقَذ العروس. كيف أحرار وهذه العبوديّة هنا لا تَهْرم، لا تُقْهر، لا تشيب. كيف لا يُشفق الزمن، الجسد، العبقريّة. كيف يرضى الإنسان أن لا تظلّ العروس الممشوقة الخلاّبة عروساً ممشوقة خلاّبة؟ لماذا نعذّب الأحشاء لنرى النور ولا نراه من وهج العينين من أطراف الشَّعْر من صوتكِ يقول كنْ فأكون؟
فوق الصدفة أضع النجوم.
فوق الحريّة أَضَع الصائغ.
فوق، فوق، أضع الجدّات والجدود.
ولا ينتهي الكلام.
ولا تنتهي إلاّ الأغنية التي لا نريد أن تنتهي.
لأنها حين تسكت ستبدأ بالتردد في الذاكرة بلا رحمة. تغزو وتَنْهش، بلا رحمة. لأنها هَدْهَدةُ الجمال، الجمال الكاذب الرحيم، الهدهدة المُلْهية عن غابة الدخول في النوم، النوم الذي لا مَهْرب منه، النوم العدوّ، النوم الذي عرفتُهُ بأسماء كثيرة، بينها الحياة...
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد