مذكرات سكرتيرة خفيفة الظل (1)
خطيب بدلة: (أهدت إلي إحدى صديقاتي، وهي فتاة جميلة، وظلها خفيف، أوراقاً مبعثرة لا يربط بينها رابط. قالت لي إنها كتابات تشبه المذكرات، ونوهت إلى أنها غير شاطرة في اللغة العربية، وأن بإمكاني، إذا أردت، أن أستفيد من أوراقها، شريطة أن أعيد صياغة المواد المكتوبة قبل نشرها، ففعلت).
الورقة الأولى: (28 / 6 من إحدى السنوات القريبة):
الطقس اليوم حار جداً، لم أصل مكتبي إلا بطلوع الروح. في بداية تعييني بصفة سكرتيرة خاصة عرض علي (المعلم) فكرة أن يمر بي ويأخذني في طريقه من أمام البيت. اعتذرت عن تلبية هذا الطلب، ففي حارتنا الحكي أكثر من العمل والأكل والشرب والتنفس.
وقفت أمام المرآة التي أخبئها خلف خزانة الأضابير التي تتحرك على دواليب صغيرة مصنوعة من (الستانلس ستيل)، سويت هندامي ومكياجي، ففي الميكروباص الذي أستقله يومياً لا يبقى فيَّ شيء على حاله من شدة (التدفيش والدحوشة)، وحتى السكربينة- الله يعزكم- خرجت فردتاها من قدميَّ أكثر من مرة وتلوثتا بالغبار والطين.
بعد أن اطمأنيت على هندامي دخلت إلى مكتب (المعلم)، فوجدته اليوم على غير ما يرام. أنا، بفضل ذكائي (وعذراً لهذا الادعاء الذي يشي بالغرور!)، وفراستي، وخبرتي، أعرف الأشياء التي تجعل نفسية المعلم تتغبر، و(دوزانه ينضرب)،.. فبينما هو يمارس حياته بهدوء، وبأمان الرحمن، وبينما هو يمارس سلطته على الموظفين والعمال الذين يقعون ضمن نطاق سلطته، بمتعة لا تضاهيها متعة، إذ يتصل به واحد من أصحاب السلطة الخفية عليه، ويحكي معه زوجاً من الكلام الذي يسم البدن، ووقتها تصبح حالته مثل حالة رجل محترم يلبس الطقم الرسمي والكرافة، وفجأة يدوس على قشرة موز ويقع من طوله أمام الذي يسوى والذي لا يسوى من العابرين!
وأعرف، أيضاً، أن أكثر ما يغيظ المعلم ويضرب دوزانه هو اصطدامه بواحد ليس من القماش الأصلي بل من البطانة! فلو أن ذلك الكبير القابع وراء مكتبه اتصل وأمر، ونهى، وغضب، ونرفز، وزجر، ووبخ، لبقيت الأمور في نصابها الطبيعي، أما أن يأتي واحد أقل من المعلم شأناً، و(يبيض) عليه بالحكي الفارغ، فهذه لا تحتمل، وأنا معه.
حينما رآني ارتاحت نفسيته قليلاً. أشار بيده إلى أحد القلاطق الكبيرة، وكاد أن يقول لي: تفضلي، اجلسي.
ولكنه تذكر أنه ليس من عادتي أن أجلس في مكتبه. ذات مرة قالها لي فأجبته بكل احترام:
- ماذا يقول الناس حينما يدخلون مكتب حضرتك ويرون سكرتيرك جالسة ولافة رجلاً على رجل عندك؟
قال لي: اتصل بي أبو القفة عبر الموبايل..
(قبل أن أكمل تدوين ما جرى بيني وبين المعلم أحب أن أوضح أنني دخلت على المعلم ذات مرة فوجدت عنده رجلاً ذا رأس كبير جداً، أكبر من الحجوم المعتادة للرؤوس البشرية، وبعد أن خرج قلت له: من يكون هذا الرجل الزائر الذي رأسه بحجم قفة الصوالة؟! فضحك كثيراً ومن يومها وهو يلقبه أبا القفة!).
قال: تصوري أبو القفة صار له راس وبرناس وصار يتصل بنا ويطلب منا طلبات يزعم أنها تلزمه في الاجتماعات المهمة مع المسؤولين الكبار!
قلت: ماذا يريد أبو قفة الصوالة؟
قال: يريدنا أن نوافيه خلال ثماني وأربعين ساعة بجداول مفصلة بأسماء العاملين في مؤسستنا والشركات التابعة لها مع أسماء أبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم وتاريخ ولادة كل منهم، وسنة تعيينه، وعدد الترفيعات التي طرأت على راتبه، والعقوبات المسلكية المحفوظة في إضبارة كل واحد، والقروض التي حصلوا عليها من البنوك والأقساط المدفوعة والأرصدة المتبقية..
قلت: هذه المعلومات تحتاج إلى أكثر من شهر حتى تكتمل.
قال: أعرف، ولكن أبا القفة يحتمي بفلان الفلاني، ونحن لا نستطيع أن نرد طلبه، فماذا أفعل؟
كنت سأقترح على (المعلم) أن يستقيل من عمله احتجاجاً على هذه الطلبات التعجيزية، ولكنني تذكرت أن بلادنا لا يوجد فيها مَنْ يستقيل!
المصدر: النور
للكاتب أيضاً:
إضافة تعليق جديد