ضد الحداثة
سأحدث حضراتكم، هنا، عن مسؤول ثقافي من الزمن الماضي، آلَ إلى السقوط، بعد طول تدعيم وترميم، فسقط..
حينما كان (على سروج خيله)، كان ثابتاً على كرسيه كالوتد، وكان يسيد ويميد، وكان- على حد تعبير المطرب اللبناني محمد مرعي- يسرح ويمرح، واللحظ يجرح!.. وكان يقلع ويشتل، ويفلح ويزرع، ويقول ما يحلو له، ويسكت عما لا يحلو له، يوطِّن بعض الناس، ويُخَوِّنُ بعضهم الآخر،.. يبني للمقربين منه قصوراً في المبنى الذي يديره، ويفصل الذين يختلفون معه بالرأي من سجلاته.
هذا المسؤول الذي مضى، وأصبح في ذمة الأيام، كان يعادي مفهوم الحداثة على طريقة الحَرْب بين كشاشي الحمام التي تسمى (حَرْب.. على الشَّمْط). أي أن الحميماتي الذي يعادي الآخر، إذا أمسك بأحد طيوره، يحق له أن يقطع رقبته ويرميه على الأرض، دون أن يحق للحميماتي الآخر مجرد الاعتراض.
ومع ذلك فقد دُعينا، ذات مرة، للاستماع إلى محاضرة سيلقيها حضرتُه في المركز الثقافي بمدينتنا، عنوانها "مقاربات في مفهوم الحداثة"!
حينما سمعنا بذلك استغربنا، وقلنا لأنفسنا: ها قد تغيرت الأحوال.. ولا بد أن معجزة قد نزلت، في غير زمن المعجزات، ولم تكتفِ (قصدي المعجزة) بأن عَدَّلت رأي صاحبنا، بل إنها قلبته رأساً على عقب!
وجلسنا ننتظر رؤية هذه المعجزة بفارغ الصبر، وأخذنا نقلب الأمور بين أيدينا، ذات اليمين وذات الشمال، ولم نصل إلى نتيجة.. حتى جاء حضرتُه، وباشر بإلقاء المحاضرة التي افتتحها بعبارة أثلجت أعصابنا، وطمأنتنا إلى أنه لم يكن ثمة معجزة أصلاً، وأن مسؤولنا العتيد لم يتغير، بدليل أن ما يشبه دمعةَ الحزن التي واجهها عبد الحليم حافظ بعبارة (لا لا لا..) ترقرقتْ في عينيه، وقال:
- الحداثة، أيها الإخوة، يا أبناءهذا الوطن المعطاء، بدعةٌ صهيونية، مدعومة من القوى الإمبريالية العالمية، تريد اقتلاعنا من جذورنا الضاربة في عمق التراب الوطني!
لم تكن عقولنا القاصرة - آنذاك- لتستوعب ذلك الدرسَ (التاريخي) الذي ألقاه علينا ذلك المسؤول الذي فتحنا أعيننا على الدنيا لنراه متعومداً في (خلقتنا) مثل عمود سرمدا الأثري.. ولكننا، وبعدما ترفعنا درجة أو درجتين في عالم (المفهومية)، أصبحنا نتساءل، بيننا وبين أنفسنا:
طالما أن الحداثة بدعة صهيونية، لماذا يصر أبناءُ العالم الغربي على قراءتها، ودراستها، وتأصيلها، ومنهجتها، وإدخالها إلى مجتمعاتهم دخولَ الفاتحين؟ ويا ترى.. ألا تدركُ المجتمعات الغربية خطورة الأفكار الصهيونية كما ندركها نحن لتتجنبها وترفضها؟.. ولماذا يقاوم بعض الناس، كالمسؤول القديم (المزمن) الذي حدثتكم عنه، وغيرُه، فكرةَ الحداثة، ويتحدثون عن دعاتها وكأنهم أناس يتبنون أفكار الحركة الصهيونية العالمية المعادية لنا؟ ألا يعني هذا- فيما يمكن أن يعنيه- أن لهؤلاء مصلحة باستمرار القديم من الأفكار، البالي، الصدىء، وأن الحداثة، فيما لو دخلت إلى المجتمع ستؤدي إلى تنسيقهم وإزالة مكاسبهم التي يحققها لهم التمسك بأهداب الماضي وأخلاقياته؟
قبل حوالي شهرين من الآن، أتى إلى المركز الثقافي في مدينتنا (نفس المركز الذي شن فيه المسؤولُ القديم حرباً شعواء على الحداثة) باحثٌ سوري ألقى محاضرة عن العنف الاجتماعي، وأحياناً القانوني الذي تعرضت له المرأة العربية في الزمن الماضي، وما تزال تتعرض له في القرن الحادي والعشرين نفسه.
كانت محاضرة قيمة للغاية، والرجل المحاضر عزز وجهة نظره المؤيدة لحقوق المرأة بكثير من الأفكار والمعلومات، والإحصائيات، والنصوص، والوثائق، والمناقشات المنطقية. ثم طرح الموضوع للحوار، فكانت الطامة الكبرى حينما وقف أحد الحاضرين وقال له، دون أي مزاح، أو مواربة، إن ما يجدر به، بوصفه محاضراً جاداً، أن يُلقي علينا محاضرة في العنف الذي تمارسه المرأة على الرجل!!
وقام رجل يحمل شهادة علمية مساحتُها أكبر من مساحة (ملحفة اللحاف) وشرع يتهجم على المرأة، ويؤيد العنف الذي مورس، ويمارس عليها في كل مكان من الوطن العربي.. ولست أدري ما الذي جعل هذا الرجل يتذكر أدونيس، ويؤاجر به ببضع كلمات اتهمه من خلالها بأنه خرب الشعر العربي الأصيل، وبأن أدونيس، لهذا السبب، يقف ضد مصلحة الأمة.
وقامت إحدى السيدات وقالت كلاماً يؤدي، في مآله الأخير، إلى التساهل، إذا لم أقل الموافقة على ممارسة العنف ضد المرأة في المجتمعات العربية!
يتهيأ لي، في آخر هذا الحديث، أن الحرب ضد الحداثة في المجتمعات العربية إنما هي حرب (وجود).. وأن البعض، من أصحاب العقول المتحجرة، يعرفون أن تحديث المجتمعات العربية، وإنصاف المرأة الذي يأتي في طليعة عملية التحديث، ستجعلهم يخسرون الكثير من مكاسبهم وامتيازاتهم التي حققوها بفضل التخلف.. والمراوحة في المكان.
خطيب بدلة
إضافة تعليق جديد