غسان الرفاعي: بانتظار «غودو» العربي..
ـ 1 ـ إنه لأمر جد مستغرب، أن يثار كل هذا الضجيج المخملي حول «صموئيل بيكيت» الكاتب الايرلندي ـ الفرنسي، ومؤلف المسرحية الشهيرة «في انتظار غودو» والموصوف بـ«شاعر العبثية، ومنظّر العدمية» فلا هذا العام هو ذكرى ميلاده، ولا هو تاريخ مماته، وكل ما في الأمر ـ كما يقول أحد النقاد ـ انه لو بقي على قيد الحياة، لكان بلغ عمره المئة عام، وهذا وحده كاف للتحدث عنه باطناب.
المتداول عن هذا الكاتب السوداوي المشبع بالتشاؤم، انه يتوغل، بسذاجة وخبث، في عالم الانسان الداخلي المسكون بالهواجس والغثاثة، كما انه يغوص في مستنقع المجتمع المزدحم بالمخلوقات المتقلصة، والمهرجين الذين لا يجيدون ـ في زعمه ـ إلا فن النباح كالكلاب الجائعة، ولكن أسباب «الضجيج المخملي» الذي يتراشقه النقاد عنه اليوم هو اكتشافهم بأن «بيكيت» هو اختصاصي بالتخدير، ونجم في التهريج الفكاهي، وكما قالت «ناتالي لوجيه» التي أعادت كتابة سيرته الذاتية: إننا لا نقرأ «بيكيت» اليوم للهرب من السجن الذي نعيش فيه، وإنما للتأقلم داخله. إنه لا يضع بين أيدينا سلاحاً للتحرر من العبودية، وانما يزين لنا هذه العبودية، بل لعله يتلذذ بمراقبة معاناتنا وتمزقنا..، وقد التقط المفكر العربي جابر الانصاري هذه الفكرة، وزعم ان بيكيت هو تجسيد للمثقف العربي المعاصر، على نحو ما، «إذ لم يعد يجد أمامه، بعد اعدام النهضويين والحداثيين في الساحات العامة، إلا ان يمتدح قضبان سجنه، ويتغزل بحكامه المستبدين».
ـ 2 ـ
في مسرحية « في انتظار غودو» يظهر رجلان على طريق ريفي، وبينهما شجرة قد تصلح لأن تكون مشنقة: «فلاديمير» و«استراغان»، انهما ينتظران شخصا غامضاً اسمه غودو ولكن انتظارهما يطول بلا جدوى، ويمر عليهما، بين الفينة والاخرى صبي، يبدو كأنه رسول غودو الخاص ويعلمهما ان غودو لن يأتي الآن ولكنه سيأتي حتما في المستقبل، وانه يجب عليهما انتظاره. ويبقى الرجلان متسمرين على مقعدهما حتى نهاية المسرحية، وهما ينتظران، وينتظران بقلق وتوجس، وقبيل النهاية يقول فلاديمير لرفيقه: اذاً، هل نذهب؟ ويجيبه استراغان: فلنذهب! ويسدل الستار، ويرتفع صوت من خلف الستار: «لم يتحركا، انهما ينتظران!» وتنتهي المسرحية، ويضج النظارة ويتصارخون: بيكيت يسخر منا، هل هي نكتة بليدة؟ كنا نتلهف، كل الوقت، لرؤية «غودو» ولكنه لم يظهر، ويتبرع أحد النقاد بالتفسير: أراد بيكيت ان يقول إن الانسان مرشوق مجانا في هذا العالم، وعليه ان يعيش الألم والفجيعة حتى الثمالة، انه موعود بمنقذ ما، بـ غودو ما، وهو لا يمل من انتظاره، ولكن «غودو» هو سراب! وواقع الامر أن المجتمع العربي ينتظر ينتظر، هو الآخر، «غودو»، لقد تراءى لنا بعض الأحيان، وكأنه من غلاة القوميين ثم كأنه من غلاة الأمميين ثم كأنه من متطرفي الاسلاميين، وهو اليوم يرتدي عباءة الطائفية، أو العشائرية أو العائلية، بل انه يتجلبب بالعلمانية، والعولمة، ومهما تبدلت ملامحه فانه سراب، يزعم بأنه آت لا محالة، ثم لا يأتي، ونبقى نحن في انتظاره، دون أن يسدل الستار علينا.
ـ 3 ـ
ان غودو العربي لا يظهر لأن السائد في الوضع العربي هو منطق الازمة وادارة الأزمة لا منطق التحليل والتصدي، الشعار الذي تتعامل به السلطة العربية في الشأن العام، خاصة الشأن السياسي هو «سلطان غشوم لا فتنة تدوم» وقد تأرجح هذا الشعار بين حدين: حد القطيعة بين الحاكم والمحكوم، حتى ولو أدى الأمر الى اقامة جدار فاصل بينهما، وحد العصيان على الحاكم حتى ولو أدى الأمر الى التنكر لكل ما هو أساسي وجوهري في الازدهار والاستقرار.
ثم ان «غودو» العربي لايظهر لأن المواطن العربي ثلاثي الانتماء، من حيث أراد أو لم يرد: فهو اسلامي في العقيدة، حتى ولو ادعى العلمانية، وعروبي في الثقافة، حتى ولو انحاز للغرب منهجا وقناعة، وطائفي في عصبيته، مهما غلف هذه العصبية بالاقنعة القومية أو الاممية، وكما يقول جابر الانصاري: هذا الولاء الثلاثي نشأ في واقع التاريخ، وما زال قائماً، وقد تزايد مؤخراً بعد بروز ولاء العصبيات المجتمعية الصغيرة، من قبلية وطائفية على حساب البعدين الآخرين: الحضاري الشامل، والسياسي الوطني.
ثم إن «غودو» العربي لا يظهر لأن السؤال الأساسي في التوجه السياسي العام هو من يحكم لا كيف يحكم، وقد تخضب التاريخ العربي والاسلامي بالدماء بسبب هذا الهوس بشخصية الحاكم اكثر من الاهتمام بطراز الحكم وهويته، وكانت المفاضلة دوماً هي بين القبول بالاستبداد او التعرض للفتنة، لا بين الاستبداد والحرية، وقد دأبت الزعامات العربية في الاقطار المختلفة على فرض الاقتناع العقائدي بفائدتها وضرورتها ولم تحاول ان تؤسس تنظيماً راسخ الاركان يثبت الدولة من حيث هي دولة لا الزعامة الفردية والولاء التعاقدي معها.
ثم ان «غودو» العربي لا يظهر لوجود الفارق الفاجر بين الذين يحكمون، ولا ينتجون، ومن الذين ينتجون ولا يحكمون، والتناقض الفاضح بين بنية مجتمعية مدنية محكومة، وبنية سلطوية قومية حاكمة، فكأن هناك قوى من الاقطاع العسكري اختصاصها الحكم، وتحتقر العمل الانتاجي، وقوى أخرى من المجتمع المدني مجردة من السلاح وتمارس الانتاج، وتستبعد من السلطة السياسية او التمثيل السياسي، ومن هناك، فان التبدل من نظام الى نظام ومن مستبد الى مستبد آخر، لم يكن أكثر من زوبعة في فنجان، وقد اقتصر الاداء على التفاخر والتصاغر، ولم يكشف ولم يجر تنقيب فيما تحت التضاريس الظاهرة، وعلى هذا فان التناوب بين حكومات تقليدية واصلاحية وراديكالية ثورية لم يؤثر في بنية الحكم، ولا في طبيعة الاداء البائس، وبقيت النكبات تنخر في جسد الأمة.
ـ 5 ـ
حينما عرضت مسرحية «في انتظار غودو» في فارصوفيا، لم يحضرها الا عدد ضئيل من المشاهدين، ولكن باعة الصحف كانوا ينادون في الأحياء والشوارع «خروتشوف يقدم تقريره الى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي» وربط البولونيون بين المسرحية والتقرير، وتدفقوا على مشاهدة المسرحية، وفي قناعتهم ان «غودو» المنتظر كان خروتشوف بالذات، وان بيكيت كان «نبوءة خير».
الضجيج المخملي حول بيكيت اليوم يحمل دلالة مغايرة: ان أدبه ليس أكثر من أفيون يتناوله المسحوقون في سجونهم للتغلب على الشعور بالمأساة، ولتحمل العذاب.
العرب ينتظرون «غوداهم» وما زالوا متفائلين، فهل سيكتشفون انهم ينتظرون سراباً، وان مثقفيهم يشحنونهم بالتشاؤم ويطلبون منهم التأقلم مع واقعهم المأساوي!.
د. غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد