"حكمة الحياة".. خلاصة فلسفة نجيب محفوظ من خلال أعماله
تتعدد التفسيرات النقدية لاراء وأعمال الروائي المصري نجيب محفوظ وفقا لايديولوجيات النقاد وميولهم التي ربما ذهبت بعيدا عن النص وحملته ما لا يحتمل ولهذا تظل الاعمال نفسها هي الفيصل لمن أراد معرفة فلسفة الكاتب الذي لايزال العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل في الاداب.
ويكتسب كتاب (حكمة الحياة.. مختارات وحكم وتأملات من أعمال نجيب محفوظ) أهميته من انعاش ذاكرة قارئ مضى عليه زمن لم يُعد فيه قراءة أعمال محفوظ كما تلخص فلسفة الكاتب لمن لم تتح له فرصة قراءة أعماله الغزيرة التي تزيد على خمسين رواية ومجموعة قصصية.
والقيمة الابرز للكتاب الذي أعدته المصرية علية سرور أنه ينسف المسافة بين أعمال محفوظ والقارئ وهي مسافة ربما تصنعها تأويلات لا يكون المؤلف بالضرورة مسؤولا عنها لكن بعض القراء يحملونه نتائجها.
ويقع الكتاب في 152 صفحة صغيرة القطع وصدر عن (دار الشروق) في القاهرة بمقدمة لمحفوظ (1911-2006) أبدى فيها ترحيبه بجهد "الست علية سرور.. لفكرتها الممتازة لجمع زبدة أفكاري من مجموعة أعمالي.. هذه هي المرة الاولى التي يقوم بها أي شخص في تحمل القيام بمثل هذا الجمع من كتاباتي.. يشكل (الكتاب) ملخصا مثيرا لافكاري ونظرتي الى العالم على مدى ستين عاما من الكتابة."
ويبرز ايمان محفوظ بقيم عليا أولها الحرية والمساواة فيقول في كتاب (نجيب محفوظ في سيدي جابر) -وهو محاورات مع محمد سلماوي رئيس اتحاد كتاب مصر- ان "الادب الانساني الراقي يدعو دائما للحرية والمساواة" كما يقول في رواية (ليالي ألف ليلة) ان "الحرية حياة الروح وان الجنة نفسها لا تغني عن الانسان شيئا اذا خسر حريته" كما يرى في (أصداء السيرة الذاتية) التي كتبها في التسعينيات أن "أقرب ما يكون الانسان الى ربه وهو يمارس حريته بالحق".
وتبدو قيمة التسامح في أقوال كثيرة منها "عسى أن يختلف اثنان وكلاهما على حق" كما جاء في رواية (ميرامار).
وعن رحلة الحياة يقول في رواية (السكرية) مقارنا بين الشباب والشيخوخة "سوف تدول دول وتنقلب أزمان ولم يزل الدهر يتمخض عن امرأة سارحة ورجل جاد في اثرها. الشباب لعنة والكهولة لعنات فأين راحة القلب أين.." ثم يلخص هذا المعنى بعد عشر سنوات في رواية ( ميرامار) قائلا "الشباب يبحث عن المغامرة. الشيخوخة تنشد السلامة" و"ما جدوى الندم بعد الثمانين.." وبعد عشر سنوات يسجل في رواية ( الحرافيش) 1977 أن "السعداء حقا من لا يعرفون الشيخوخة."
ويرى في روايته الاولى (عبث الاقدار) 1939 التي استوحاها من مصر الفرعونية أن "فضيلة الزواج أنه يخلص من الشهوات ويطهر الجسد" لكنه سيقول لاحقا على لسان أحد الابطال في (بين القصرين) ان "الزواج أكبر خدعة. الزوجة تنقلب بعد أشهر شربة زيت خروع" ثم يقر في ( السكرية) وهي الجزء الاخير من ثلاثيته الشهيرة بأن "الزواج هو التسليم الاخير في هذه المعركة الفاشلة" وفي الرواية نفسها يقول أيضا "لولا الاطفال ما طاق الحياة الزوجية أحد".
وانتهى محفوظ من كتابة ثلاثية (بين القصرين) و(قصر الشوق) و ( السكرية) قبل ثورة يوليو تموز 1952 واعترف بأنه تخلص بعد الثورة من مشاريع روائية عن الفترة السابقة نظرا لتغير الواقع الذي دفعه للتوقف عن الكتابة حتى عام 1959 لان العالم القديم الذي سعى الى تغييره بالابداع غيرته الثورة بالفعل. ثم اكتشف أن للواقع الجديد أخطاءه فكتب رواية (أولاد حارتنا) وما تلاها من أعمال ذات طابع رمزي يجسد فلسفة الشك والبحث عن يقين ومعنى للحياة في روايات (اللص والكلاب) و ( السمان والخريف) و(الطريق) و(الشحاذ) و(ثرثرة فوق النيل) و ( ميرامار).
وفي (السكرية) يقول "اذا لم يكن للحياة معنى فلم لا نخلق لها معنى.. ربما كان من الخطأ أن نبحث في هذه الدنيا عن معنى بينما أن مهمتنا الاولى أن نخلق هذا المعنى" وفي (الشحاذ) يكتب كأنه يستغيث "ما أفظع ألا يستمع لغنائك أحد ويموت حبك لسر الوجود ويمسي الوجود بلا سر" وفي (ثرثرة فوق النيل) يرى أن "ارادة الحياة هي التي تجعلنا نتشبث بالحياة بالفعل ولو انتحرنا بعقولنا" وفي رواية (يوم قتل الزعيم) يقول " الحياة فصول ولكل فصل مذاقه. وطوبى لمن أحب الدنيا بما هي.. دنيا الله" ولكنه لا يصل الى يقين فيتمنى في (السمان والخريف) أن تكون للانسان أكثر من حياة "نحن في حاجة الى أن نعود للحياة مرارا حتى نتقنها".
وفي (ثرثرة فوق النيل) يستعرض محفوظ مسيرة البشرية منذ فجر التاريخ ليصل الى أن "الانسان واجه قديما العبث وخرج منه بالدين. وهو يواجهه اليوم فكيف يخرج منه..".
ولكن محفوظ سبق أن سجل في (السكرية) مقولة "العلم سحر البشرية ونورها ومرشدها ومعجزاتها وهو دين المستقبل".
ويطل الموت بالحاح في أعمال محفوظ الذي تخرج عام 1934 في قسم الفلسفة بكلية الاداب بجامعة فؤاد الاول (القاهرة الآن) وكان يعد نفسه لمهمة أخرى غير كتابة الرواية اذ كان مفتونا بالفلسفة وجاء ترتيبه الثاني ولكن لجنة شكلها قسم الفلسفة اختارت اثنين من زملائه لبعثة الى فرنسا لدراسة الفلسفة واستبعدته من استكمال الدراسات العليا. الا أنه بعد تخرجه عمل كاتبا في ادارة جامعة القاهرة حتى عام 1938 وفي تلك الفترة التحق بالدراسات العليا وبدأ الاعداد لرسالة الماجستير بعنوان (مفهوم الجمال في الفلسفة الاسلامية) تحت اشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق.
ويقول في (زقاق المدق) الصادرة عام 1947 "ان الانسان ليعيش كثيرا في دنياه عاريا أما عتبة القبر فلا يمكن أن يجوزها عاريا مهما كان فقره" فالموت في رأيه ليس نهاية المطاف الا للميت الفرد أما بالنسبة للجماعة فيقول في (أولاد حارتنا) على لسان أحد الابطال "الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة" وفي موقف اخر يقول " لن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت" وهذا قريب من قوله "الايمان أقوى من الموت والموت أشرف من الذل" في (بين القصرين) وفي (السمان والخريف) يقول ان "أتعس الناس الذين يستوي لديهم الموت والحياة".
ويخالف محفوظ المقولة الشهيرة التي يؤكد فيها الجاحظ أن المعاني ملقاة على قارعة الطرقات اذ يقول في رواية (رحلة ابن فطومة) الصادرة عام 1983 "لن تخرج المعاني الا لمن يطرق الباب بصدق" وفي الرواية نفسها يكاد الكاتب يلخص ما آلت اليه الامور قائلا "ديننا عظيم وحياتنا وثنية" وهذه الازدواجية انتقدها محفوظ في كثير من أعماله اذ كان يدعو الى دور ما للحياة الروحية ففي (السمان والخريف) يقول "الحق أن جميع البشر في حاجة الى جرعات من التصوف.. وبغير ذلك لا تصفو الحياة" وفي (اللص والكلاب) يرى أن "الدنيا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية".
ولكن محفوظ رغم كل شيء كان متفائلا اذ يقول في (المرايا) انه " مهما يكن من أمر فلا يمكن تجاهل المرحلة التي قطعها الانسان من الغابة الى القمر".
المصدر: رويترز
إضافة تعليق جديد