بوح فاتح المدرّس في تجربة سينمائية نادرة
في تجربة نادرة وربما لأول مرة في سورية يعرض للجمهور مواد فلم سينمائي كما صورت قبل المونتاج دون إضافة أي من المؤثرات والرتوش عليه..أي المادة الأولية التي قام بانجازها المخرج قبل تصنيعها ودخولها فلاتر الأجهزة السينمائية..
فقد دعا المركز الثقافي الفرنسي في دمشق منذ أيام جمهوره وجمهور السينما لرؤية المادة المصورة لفيلم الفنان التشكيلي الشهير فاتح المدرس، حيث اختار المخرجين عمر أميرالاي وأسامة محمد حوالي ثمانين دقيقة من المادة الفلمية للفيلم الذي صور قبل وفاة المدرس بأشهر (1999)وشارك فيه المخرجون (أميرالاي ومحمد ملص وأسامة محمد) بمناسبة تكريم معهد العالم العربي بباريس للفنان المدرس... طبعا مدة المواد المصورة (11) ساعة صور منها ست ساعات بشكل متواصل.
المادة الفلمية (راشز) تتألف من ثلاث حركات في الأولى نرى المدرس أمام لوحته يرسم ويتحدث، في حين نسمع صوت عمر أميرالاي وهو يوجه الأسئلة للمدرس ، في الثانية يلجأ المخرج لتصوير المدرس من خلف اللوحة التي يرسمها، مع إبراز قسم من وجهه وحركته أمام اللوحة وفي الثالثة نرى فاتح جالسا في مرسمه يدخن ويشرب القهوة...
في سياق هذه الحركات الثلاث نرى جوانب غير معروفة من شخصية فاتح المدرس، فعلى إيقاع صوت احتكاك ريشته على اللوحة يبوح المدرس بمكنوناته لنا، أحيانا يعتصره الألم حين يسترسل أمام الكاميرا ساردا مأساة أولاده من زوجته الأولى، فالصبي وقع من على سور الحديقة وأصيب بارتجاج دماغي، والطفلة سقطت من المرجوحة المصنوعة على الطريقة الكردية في البيت، وكلا الطفلين لم يعمرا طويلا، ورغم أنه أبدى للمخرج عدم رغبته في التحدث عن أولاده، إلا أن المدرس الذي يعتبر نفسه قويا أمام الألم أطلق لمكنوناته العنان...
ارتباط فاتح المدرس بالطبيعة كان هو الأساس في تركيبته واتجاهه إلى الفن التشكيلي، حيث عاش طفولته في الأراضي الشاسعة على الحدود السورية التركية، كان أهله من أصحاب الثروة ولديهم أملاك كبيرة وضيع في شمال حلب، هذه الأملاك كانت وراء مقتل والده عندما كان فاتح بعمر السنتين، بسبب خلاف على التركة أحيانا يتخلى فاتح عن البوح ويتعامل مع كاميرا المخرجين الثلاثة بأستاذية الفنان الأكاديمي فيعطي رأيه ببيكاسو الذي هو حسب المدرس صاحب حساسية استثنائية لكنه غير جدي في لوحته بعكس فان كوخ الجدي والمسؤول في لوحته رغم أن حساسيته تقل عن بيكاسو، ويظهر المدرس احتراما شديدا لتجربة وأسلوبية كوخ..
وهل قلد المدرس بعض طلابه؟ يسأله عمر :
حاول بعض الفنانين والطلاب محاكاة لوحة المدرس، ولكنهم لم ينجحوا تماما فعندما كان أحد من الفنانين يريه لوحة تشبه لوحته كان المدرس يصلح اللوحة ويعيدها لصاحبها، فنسيج اللوحة والارتباط الداخلي فيها صعب المنال من قبل التشكيليين الآخرين..
وعن علاقة اللوحة بالجنس يقول المدرس اللوحة تشبه إلى حد ما الجنس، فهناك (جنس للحبل والأولاد) وهناك النوع العميق المبدع في العلاقة بين جسدين وروحين في حالة تجلي استثنائية..
ويرى المدرس أن الموسيقا أسعد حظاً من التشكيل، فالمطلوب من التشكيل تحطيم القواعد السابقة باستمرار الأمر الذي لا تعاني منه الموسيقا.
ويعرج المدرس بارتباك أحيانا على السياسة ويعلن كرهه للديكتاتوريات والعنف والقسوة رغم أن الديكتاتور حسب المدرس لا يعلم ماذا يفعل، فالبطانة تزين له كل ما يفعله، وهنا يستخدم تعبير السيد المسيح (اغفر لهم ياربي فهم لا يعلمون.(
يعود المدرس في مشاهد أخرى للبوح حين يحكي قصة الخوري والفتاة المعوقة في كنيسة في بلدة )جبعدين (قرب دمشق والتي كتبها المدرس في مجموعته القصصية )عود النعناع(ويتحدث بألم عن هذه الطفلة وكرهها للأولاد الذين يضربونها بالحجارة وحبها الكبير للمسيح، ويبدو الارتباط الكبير بين مأساة ولديه ومأساة طفلة الدير والذي تجلى في كتابات المدرس...
وما هي الأصوات التي بقيت في ذاكرة المدرس من الطفولة ؟
يجيب المدرس على السؤال بسؤال يوجهه لعمر أميرالاي: هل سألت نفسك هذا السؤال؟ وبعد لحظات صمت يتابع المدرس..
ان أهم صوت في ذاكرته هو صوت الريح فالعواصف هي (أجمل شيء حتى لو دمرت بيتي) إن الريح باقية في جوانيات المدرس في حين لا يذكر صوت أمه أبدا..
أما الصوت الأكثر استفزازا وأذية للمدرس فهو صوت الرجل الأمر الذي يزمجر كذئب يلتهم فريسته.
ويدخل المدرس في فلسفة القبح والجمال والصراع بينهما فالشر والقبح هو حركة البشر التي تريد تحطيم الجمال ..
الفلم أثار بعد انتهاء عرضه نقاشا حارا بين الفنان التشكيلي أحمد معلا والمخرج عمر أميرالاي والدكتور أسامة غنم والجمهور وأداره المخرج أسامة محمد
فأحمد معلا تمنى لو أن الفيلم قد أنجز في فترة أبكر، فالفلم صور أثناء اعتلال صحة المدرس، وفي أواخر أيامه، لذلك بدا المدرس في الفلم مرتبكا أحيانا وتعبا أحيانا أخرى، ومتناقضا في آراءه إضافة إلى النسيان..
رغم ذلك يعبر أحمد معلا عن دهشته من هذه التجربة الفريدة بعرض مواد فلم.
من جهة أخرى تمنى معلا لو رأينا المدرس من خلال لوحته أي أن تكون لوحته هي محور الفلم..
عمر أميرالاي أكد أن الفلم الأساسي والذي عرض قبل مدة يتضمن الأمر الأساسي وهو علاقة المدرس بلوحته وقال مازحا بشأن صنع أفلام خاصة عن المبدعين قبل رحيلهم بفترة قصيرة (لقد أطلقوا علي عزرائيل الفنانين(.
الدكتور أسامة غنم )مدرس مادة المسرح الحديث في المعهد المسرحي) اعتبر أن المخرج صنع فلمه عن المدرس بصيغة أن من يقف أمام الكاميرا هو عبقري أي أن المخرج كان مأخوذا بتجربة المدرس.
يرد أميرالاي أنه يعرف المدرس جيدا حيث كان طالبا في كلية الفنون الجميلة، وكان المدرس أستاذه، كما حكمت علاقتهما صداقة متينة لذلك يعرف المخرج تفاصيل تجربة المدرس، ولم يعمل فلمه وكأنه يرى المدرس وعبقريته للمرة الأولى..
وردا على سؤال من الجمهور عن علاقة الفن بالسياسة اتخذ الحديث مسارات متنوعة فأحمد معلا قال بتأثر الفنان بواقعه وما يدور فيه وكثيرا ما يمر أي فنان بانعطافات وتغيرات متعددة تحكم علاقاته وأرائه..
أحمد الخليل
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد