مـن يصنـع الأديـب؟
اذا استعرت لغة العلم، فإن فواز حداد ادخل الوسط الثقافي تحت المجهر الالكتروني، وبأعلى تكبير ممكن، او انه ادخله المشرحة، وشرّحه بدقة لا متناهية...
وفي الصفحات الاخيرة من الكتاب يطرح فواز حداد على لسان الكاتب المهزوم سميح حمدي الذي نبذته المافيا الثقافية وحاربته: «لقد اخطأت حين نظرت للأدب كمهنة سامية، لقد اكتشفت بعدها ـ وفيما يشبه الصدمة ـ انها مثل غيرها من عشرات المهن لا تقل او تزيد عليها، قابلة للكذب والاحتيال، والظلم، والسفالة».
في الواقع من الصعب الإحاطة برواية حوالى خمسمئة صفحة من القطع الكبير، رواية تتخذ موضوعها الأدب والأدباء والنقد، والخيوط الخفية التي تربط هؤلاء بالسلطة، بما يفرز هذا الارتباط من سلوك متناقض وعجيب، من علاقة المثقف بالسلطة، ويؤكد فواز حداد على انتصار السلطة السياسية والمخابراتية على الأدب، ويحلل ببراعة مذهلة كيف ان السلطة السياسية في البلاد تصنع الكتاب وتشهرهم، وترسخهم قيما فكرية ومثلا عليا، وكيف تنسج قصصا بطولية حول حياتهم، وكيف تحاط كتاباتهم بسمعة كفاحية، باستفاضة وبأمثلة واقعية عديدة يبين لنا الكاتب كيف ان الاحزاب التقدمية المتماهية مع السلطة (والتي تدّعي التقدمية) تطبخ كتّابها على عجل، وتكرسهم مشاعل فكرية في مطبوعاتها، وتحض على اقتناء كتبهم وتلاوة اشعارهم، وكيف تمتلئ المراكز الثقافية والقاعات الجامعية، والعمالية بالنخب الثورية من الكتّاب والشعراء المُجَعّرين، والذين يأخذون على عاتقهم اختلاق جدالات يخوضونها بلا مشقة، جدالات عقيمة لا موضوع لها، ومعارك ضروس يحطمون فيها الأدباء البرجوازيين والخونة، والرأسماليين السفلة (من هؤلاء؟... من هم؟... لا احد يعرف!!)، فتصبح الساحة الأدبية قابلة للاختراق بالقليل من الموهبة والكثير من الهوبرة والجعجعة والانبطاح للسلطة السياسية، فالاحزاب السياسية هي التي تصنع الأدباء، وإلا ما الذي يجعل من كاتب رديء وجعجاع أديباً معروفاً ومشهوراً؟!
بصريح العبارة يحدثنا فواز حداد عن المافيا الثقافية، وهي مافيا بمعنى الكلمة، لا تختلف عن المافيا المجرمة، وهي جماعة ظاهرها الأدب وباطنها قتل الأدب، وكيف ان هؤلاء يحاربون كل فكر حر، وموهبة عبقرية واعدة، خاصة اذا كان صاحب الفكر الحر، ذا كرامة واستقلالية، وليس مستعداً للانبطاح للسلطة وان يكون بوقاً لها، عندها يدمر هذا الانسان، ويسحق سحقا، بالتشهير به ووصفه عميلاً للغرب، وللقوى الرجعية الغامضة، او يعاقب بعدم النشر له، واهماله تماما... المافيا الأدبية اشبه بعصابة من النقاد والأدباء يتبادلون المنافع، إمدحني لأمدحك، اقترح اسمي في مؤتمرات وندوات أدبية، لاقترح اسمك بدوري... والكل متهافت على الفتات المتساقط من مائدة السلطة، عطاءات وهدايا، وجوائز تشجيعية، الى ما هنالك... ومن المؤسف ان الكل يقع في مطب الهزيمة والانبطاح للسلطة، حتى هؤلاء المثقفين الذين يدعون الفكر الحر، فيهجرون بلادهم، ويتجهون الى بيروت، حاضنة الفكر الحر، ويتطوعون لفضح الانظمة السياسية في بلادهم، ويسمون انفسهم بالمعارضين الأحرار او المغضوب عليهم، ويكافأون على جسارتهم وشجاعتهم بتنصيبهم مفكرين أحراراً، او شعراء عباقرة او سينمائيين خارقين، وبعد ان تحصل بيروت على مأربها منهم، يتلمسون العودة الى الوطن بأي ثمن، لان الحنين يقتلهم، ويرسلون المراسيل للانظمة الدكتاتورية في بلادهم مؤكدين توبتهم وحسن نواياهم، ومعظمهم يعرض خدماته على اجهزة المخابرات المجرمة، متلمسين العودة للوطن بأي ثمن.
إن قوة السلطة السياسية لا تعادلها قوة، فهي قادرة على هرس أي معارضة واي فكر حر، وقادرة على خلق أدباء مزيفين يخدعون الناس، ومن وقت لآخر تفبرك أديباً، تكون اجهزة المخابرات بأمس الحاجة إليه، أديباً شخصيته كالتالي:
لا يكون شيوعياً، ولا يسارياً، ولا بعثياً، يعمل في الخفاء عميلا للمخابرات، لكنه دائم النقد والتجريح بالنظام السياسي للبلد، فيذهل الناس بجرأته وشجاعته، ولا يعرف هؤلاء المساكين انهم ابتلعوا الطعم، وسقطوا في الفخ، وان كل الغاية هي ان تظهر اجهزة المخابرات انها تسمح بالحرية والنقد، فيا للديموقراطية الرائعة!!
واعتقد ان اروع ما في الرواية هي تلك الصفحات التي تحدثت عن النقد، وعن علاقة الكاتب بالناقد، واظن ان كل كاتب او كاتبة في الوطن العربي يعانون من النقاد، او هؤلاء الذين يسمون انفسهم نقاداً. ويبين حداد، ان الناقد يتصنع المنهجية، ويتشاطر في اللغة، ويتمحّك متفلسفا ومؤدلجا، ليتعسف في ايراد احكامه النظرية، ويشط ويمط، ويتطعوج، ويتزحْوَك، ويتملعن ويتوسل أي شيء ليبرهن على صواب ما أراده، فتجده يدع الرواية، وما تزخر به، وينكش خيطاً ما يسبغه عليها عنوة ليؤكد انها اخطأت المطلوب، وهؤلاء ليسوا نقاداً، بل حاقدون يدعون النقد... ويا ويل كاتب إن انتقد ناقداً، او لم يقدم له ولاء الطاعة والتبجيل، فعندها سيغتاله الناقد بقلمه...
فساد ثقافي مخزٍ وشامل، لا مجال للاحاطة به كاملا، لكن تكفي الاشارة لبعض صوره، رؤساء تحرير الأقسام الثقافية للمجلات والجرائد، الذين يستغلون الكتّاب الناشئين، فيتعشون ويسكرون على حسابهم ويقبلون الهدايا او يطالبون بها، وهم يعدون هؤلاء المبتدئين ان ينشروا اعمالهم، الى الفساد الثقافي بالنظرة الى المرأة المبدعة، خاصة التي تكتب بجرأة، فهؤلاء الرجال النقاد والمثقفين الذين يكتبون عنها ويمتدحون جرأتها، لكنهم في اعماقهم ينظرون إليها كفاجرة، والكثير منهم يمتدحونها لغاية اقامة علاقة جنسية معها...
الصورة سوداوية وقاتمة، ولا يبدو بصيص ضوء ولا أمل على مدى خمسمئة صفحة، حتى بطل الرواية الذي يعاني من المافيا الثقافية هو اساساً خائن، لانه ترجم رواية وقد خان الترجمة، فغيّر في النهاية... لكن هل يعقل ألا يكون هناك شخص ايجابي في الرواية كلها؟! ايعقل ان يكون الوسط الثقافي على هذه الدرجة من الانحطاط والانبطاح للسلطة، الا يقدم لنا الواقع نماذج رائعة ومتحققة وموجودة من أدباء أحرار رفضوا ان يقدموا ولاءهم لأحد وعاشوا متقشفين، يقدمون ولاءهم للحقيقة وللأدب...
إن «المترجم الخائن» عمل بديع وعبقري، لكن ينقصه قليل من الأمل، وهذا الأمل ليس وهماً، بل انه حقيقة، لان ثمة مفكرين أحرار، وأدباء أحرار، لم يرتهنوا لسلطة او لأضواء زائفة... وهؤلاء موجودون والكل يعرفهم، وبعضهم رفض جوائز، ورفض مناصب حساسة...
فلم لم يدخل فواز حداد أحدهم في روايته التي هي لوحة بانورامية متكاملة للحال الثقافي...
رواية توثيقية، وشاملة، تتركنا بعد أن ننهي قراءتها عالقين في دوامة من الافكار... ومتسائلين سؤالاً اشبه بالهمس، لأن الخزي يجللنا:
هل يعقل ان يكون الأدب مثله مثل عشرات المهن الاخرى لا يقل ولا يزيد عليها، قابلا للخيانة والسفالة، والظلم والاحتيال؟!
سؤال مستفز ومدوّ، يستحق ان نقوم ثورة فكرية وثقافية لمناقشته ومحاربة جراثيم الثقافة وطفيلياتها التي تنخر في العمق وتخرب الإبداع الحر، والموهبة الأصيلة، وترسخ بهاليل السلطة.
هيفاء بيطار
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد