أنسي الحاج: علـــــى الحافّـــــة
المجهول الذي ينتظرنا، هل يعرف أنه ينتظرنا؟
إن لم يكن يعرف، فهو مجرّد صدفة أشدّ عجزاً منّا.
وإن كان يعرف (على نحو المعرفة الإلهيّة، مثلاً) فما أعظم ملَلَه! إذ، فيمَ يحلم وكل الزمان منقشعٌ له وحاصلٌ في معرفته؟
لا بدّ أن يكون للمجهول مجهول. من الصعب أن يكون هناك «كائن» يعرف كلّ شيء وليس بعده أو وراءه أو خارجه أو فوقه أو دونه مناطق مُغلقة عليه وتستهويه أو تروّعه.
يُصوَّرُ الله أنّه العارفُ العليم بالغيب والأقدار والذي لا قَبْله ولا بعده. الجبّار الأعلى والعلاّمةُ الأكبر. ألا يُمسي بهذا، اليائس الأكبر وسجين الوحدة المُطْلَقَة؟ شهيدُ وَعْيه، ولا مفاجأة؟ نفهم عند ذاك أن يَقْبل بأن يُسلّيه الشيطانُ بحكايةِ امتحان أيّوب، وتظهر الخلائق لديه دُمىً، ابتُدعت لتموت لا لأن الموت شرطٌ للحياة بل لأن الموت التذاذٌ للخالق، وأمّا الحياة فسلوى تُمهّد للموت كما هي المداعبة تمهيد لما بَعْدها.
■ ■ ■
لكن هذه الصورة تنهار إذا حَذَفْنا عاملَ الزمن. يصبحُ العلاّمةُ الأكبر مقيماً في اللامحدود واللانهائي، وخارج ما نعرفه. الضجر قد لا يصيبه والمعرفة لا تَحدّه. وقد لا يكون حدود ذاته. هو الله ومع هذا «وراءه» ما يستهويه، ما يَشدّه. هو الله، وحاجاته ليست ممّا نعرفه عن الحاجة. هو الله ولكنّه لا يتسلّى كما نتخيّل التسلية. هو الله ولكنّه ليس «إلهنا» إلاّ قليلاً...
■ ■ ■
كيف استطاع نوح، بعدما اختبَر وحده وعائلته النجاة من الطوفان، أن لا يَشْعر بالذَنْب؟
■ ■ ■
... وتُشارِعُ، وفي حرصكَ على الحقّ، تتردّد وتحار، وتَقْلق أن لا تتحامل. وأنت الذي يُصْلَب لا تعرف لمَ، تخاف على شعور تاركك، تخاف عليه من كلمة جارحة.
ويحملك الشعور بجميل ذاتك على الظن أنّكَ خيرُ الكائنات، وإلاّ لما كنتَ مؤرّقاً بهاجس الحقّ وأنت بين أنياب الشدّة.
■ ■ ■
لو تغلّبَ قايين على قهْرِه من تفضيل الله هديّة أخيه، لحوَّلَ غَيْرته إلى اعتمال داخلي، ولعلّه كان سيتعالى في نظر الله، وربما سيلجئه إلى مراجعة الذات كما حصل مع أيّوب.
كان ينقص روّاد الخطيئة والمُحمَّلين مسؤوليّة تأسيس موتنا (آدم وحوّاء، قايين...) مهارةً في التمثيل تلجم عفويّتهم ولا تفضحهم أمام الخالق. حتّى القَتَلة بينهم، كسيّدنا قايين، لم يتسع شرّهم للخبث، فأوقع بهم انفعالهم.
■ ■ ■
أن تكون مَلاكاً، تبرئة لكَ. أن تكون شيطاناً هو أيضاً تبرئة لك.
■ ■ ■
في لحظاتِ العبور من الحياة إلى الموت يتصاعد قاع الذاكرة إلى أديمها وتتلألأ الصور الأشدّ بساطة ممّا كان يُظنّ.
يمكن إجراء بحثٍ مقارِن بين سفْر أيّوب وكتاب «جوستين» لدوساد، (مع التناسي المؤقت للقسم الأخير من السفْر حيث يعود الله ويكافئ الفضيلة).
دوساد متأخّر في اكتشاف بؤس الفضيلة، في تعرية تواطؤ القوى على «الملعوبات»، لكنّه متقدّم في تزكية الرذيلة وإغداق البراهين على «خيراتها».
إنّه الفتنة التي بقي أيّوب تحت أسوارها ولم يقتحمها. فعذابُ أيّوب لم يزدوج بالشهوة. وحرماناته لم تكتمل بحرمان الحريّة، فطفقَ يُمعن في البِرّ ولم يعدمه الألم الشعور بأنّ ثمّة أمراً غامضاً قد يبرّر تلك المظالم رغم أنه يعرف أنّه لا يستحقّها.
عوضَ هذا التواضع الساحق، انفجر دوساد بكبرياء مجنونة، وتبشيره بالرذيلة والجريمة هو، فوق ما هو، انتقامُ المنكوبِ الذي لم يسمع جواباً من السماء. وسمع في المقابل من الأرض أجوبة قاهرة.
■ ■ ■
فكرة التهتُّك الكونيّ كما عَرَضَها دوساد في كتابه «قصّة جولييت» يريدها منفصلة عن فكرة الله لاغيةً لها وبرهاناً على التغائها. فالحريّة هي نقيض الإيمان.
رجالُ الإيمان يقول بعضهم إنه يتماشى والحريّة، ولكنّه لم يذهب إلى حدّ زواج فكرتَي الله والتهتُّك الكونيّ. دوساد مِتْراس والإيمانيّون متراس.
حتّى تيلار دوشاردان لم تجمح به فلسفته التطوريّة إلى مبلغ كهذا. لعلّنا نرى شيئاً من هذا التزاوج في نحوٍ بدائي عند شخص كراسبوتين، وفي تصرّفاته لا في كلامه، حيث بقي مُراعياً وربّما واقعاً في سذاجة ذاته، لا مُرائياً.
لماذا يُراد لفكرة الحريّة (الحريّة الأكثرُ، الأشدّ ابتعاداً) عَبْر التهتُّك الكونيّ أن تكون عدوّةً لفكرة الله؟ لأنّ الله أُريدت له صُوَر الفضيلة المتقشّفة، القمعيّة، غير الملتبسة. حتّى جاء المسيح قائلاً إن الله حبّ.
من المستحيلات التقليديّة الجَمْع بين الليل والنهار. لكنّ الحلّ هو في اجتماعهما.
والحائلُ بينهما خطٌّ وهميّ يبدأ باجتيازه الأطفال ثم يتوقفون.
■ ■ ■
بين دُعاةِ الويل والثبور وعظائم الأمور وشخصيّة «متناقضة» وملتبسة مثل راسبوتين، العطف يجتذبه راسبوتين. جَمَع شَبَق الإيمان إلى شَبَق الغريزة الجنسيّة. كان وحشاً فيهما وذا اجتراحات. والأهمّ الأبلغ، فَرَحَهُ. لم يكن بومةً إلاّ أيّاماً عندما تنبّأ بانهيار روسيا القيصريّة إذا قَتَلَهُ النبلاء. وهو ما تمّ. والحقيقة لم يكن بومةً بل كان بين سَكْرة وسَكْرة يقرأ الطالع منبّهاً وقد زاده استبصاراً الخوف على مصيره الشخصي.
أنبياء التوراة، وإلى حدّ ما يوحنّا المعمدان، روّادُ رعب تسمعهم فتقول لمَ الحياة. وأضحك ما يُضحك في ما يتعلق بنا نحن سكّان أرض فينيقيا وجوارها، أننا نطرَبُ لتقريعات شعراء التوراة وأنبيائها ومعظمها تجريح بـ«أجدادنا» وبآلهتهم التي ما كانت، في بداية الأمر كما في نهايته وبعدهما، سوى آلهة لجميع الروّاد من كلّ صنف، وقد ضاق بها ذرعاً إله إسرائيل المتملّك الغيور وكهنتُهُ الدمويّون العنصريّون.
هنالك بعضُ الرغبةِ الشرّيرة في كلّ ارتماء وكلّ تجديد، لعلّها تشبه ما كان يعتمل في النفس أثناء عبور حوّاء وآدم من الباب الشرقي في الجنّة إلى أسفل الصخرة، في السهل المنخفض، حيث قادهما الملاك المرافق إلى هناك بدايةً للمنفى، واختفى.
■ ■ ■
أسطورةُ اليهوديّ التائه (كلّما انقضت مئة سنة أضيفت إلى سنّه الأصليّة ـــــ الثلاثين ـــــ وظلّ حيّاً ومحروماً راحةَ الضميرِ وطمأنينة الغفران وراحة الموت) ستبقى ناشزة ما بقيت ملصقة بيسوع الناصري.
فثمّة روايتان: أنّ المسيح أراد، أثناء حمله الصليب إلى الجلجلة، أن يستريح عند عتبة بابِ إسكافٍ، فرفضه هذا، فقال له يسوع: «إني سأرتاح، وأمّا أنتَ فتظلّ تائهاً حتى مجيئي».
وأخرى عن خادم بيلاطس البنطي، وأن المسيح في أثناء اقتياد اليهود له، توقّف لحظة عند بوابةِ قصر بيلاطس حيث كان الخادم يحرس، فأقبل هذا إليه ولطمه على وجهه قائلاً باحتقار: «امشِ يا يسوع، أسرع. لماذا تتوقّف؟». فنظر إليه يسوع ـــــ على ما تضيف الرواية ـــــ بقسوةٍ وأجابه: «إنّي ذاهب، ولكن أنتَ سيكون عليك الانتظار حتّى عودتي».
الروايتان تُركّزان على حقد المسيح. كيف يكون هو المسيح ويَحْقد؟ وعلى إسكافٍ هنا وخادمٍ هناك؟
في الأناجيل غضباتٌ عديدة للمسيح أشهرها ما حصل في الهيكل مع التجّار، ولكنّها مجلوّة تارة بالمثاليّة وطوراً بالمحبّة. المحبّة التي قال بها الناصريّ هي قدسُ أقداسه.
ولئن كان من يهوديّ تائه فهو، على صورة الهولندي الهائم فوق محيطاته، ذلك الإنسان الخالد في حلمه بالمطلق، والذي لا يُعتقه ـــــ حسب فاغنر في أوبرا «المركب الطَيف» ـــــ إلاّ حبٌّ يفتديه. وقد لا يعتقه الحبّ ولا التوبة ولا الموت ولا العودة ـــــ لا عودة مسيحٍ ولا عودة الروح ذاتها وإن تكرّرتْ ـــــ لأنّ الحياةَ عِقابُ نَفْسها.
أو ثواب نفسها.
أو حياد نفسها.
ولكنْ ما لنا ولهذه الاجتهادات. ثمّة خَلَل في لبّ القصّة، وهو الحكْم على ذلك الشخص بأن يظلّ... حيّاً!
حكْم؟ وهل أجمل من تنفيذ حكْمٍ كهذا؟ وأين العذاب في أن يظلّ المرءُ حيّاً، وأن يظلّ، فوق هذا، ساعياً إلى الحبّ؟
بصَرْف النظر عمّن أصدر الحكْم، محسودٌ هو المحكوم.. يهوديّاً كان أم هولنديّاً. لقد استعاد في لحظة، ما فَقَده الإنسان منذ آدم.
■ ■ ■
تقول إنك ذاهبٌ إلى العدم، لكنّك تظلّ تعلّل النفسَ بأن أحداً هناك لم ينخدع بيأسك، وأنّه يُعدّ لكَ مفاجأة سارّة.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد