خصوصية البيئة السورية في أعمال نبيل السمان
منذ اللوحة الأولى يفاجئك نبيل السمان بمعالجة مواضيع العيار الثقيل دون مقدمات، لذلك فإن شحذ الذائقة البصرية عند المتلقي وإنذار العين كي تستعد لاستقبال هذا الوابل الهائل من الصور والألوان، يعد بمثابة ردّ فعل طبيعي وملحّ عند المشاهد الذي سيتحول إلى دريئة تتلقى مختلف الأنواع من السهام..! هكذا يظهر السمان مشغولاً بإعادة الصياغات تجاه الأشياء الموجودة كمسلمات في الذاكرة أو الثقافة الجمعية أو حتى المشاهد الطبيعية التي سبق أن ألفتها العين من خلال نمطية محددة لا يتدخل فيها الاجتهاد.. إنها عملية إعادة اختراع وابتكار للأشياء المكتشفة سلفاً سواء في الطبيعة أو في الأسطورة والذاكرة الشعبية.. يضاف إلى عملية الاختراع تلك، جميع الاسقاطات التي يحاول الفنان ملامستها كحقائق أو طرحها كإشكالات، فالمعرض يشكل حصيلة كبيرة من إعادة الاكتشاف وإثارة الأسئلة وانهمار التداعيات التي تنطلق من رؤية الفنان وثقافته وطبيعة نظرته إلى جوهر الحياة.
أول ما يلفت الانتباه، هي تلك البانورامية الضخمة التي يشتغل عليها السمان، فلوحة القياس الكبير تحتمل أكثر من بعد ضمن ذلك الإطار، أولها إحساس التعاقب والدوران التي يفصح عن شيء من التطور والتتالي وانبثاق شيء من جملة أشياء أو أحداث، لذلك فإن الدخول إلى منمنمات دائرته الكبرى التي تمشي على حواف الإطار يمكن قراءته كمستوى آخر في المشهد الذي يتضمن أكثر من احتمال أو مستوى وربما خطاب.. في تلك الدائرة الأولى المحصورة بحواف الإطار، يحضر إحساس الدوران بشكل كبير، فالبشر المختلفون في أوضاعهم وأشكالهم يظهرون وكأنهم منهمكون بإيصال رسالة لها علاقة بكنه الحياة وتطورها وتتالي مراحلها، وإذا ما ربطنا ذلك بالحركة الدورانية الواضحة في اللوحة يمكن أن نستنتج العلاقة التفسيرية والتحليلية التي يريد أن يصل إليها السمان في تعامله مع التاريخ، فالدائرة المركزية في اللوحة التي تنطوي على دائرة أخرى أيضاً، تظهر في كادرها رسومات ونقوشاً اشتهرت في الفن السوري القديم وهي تعود إلى حضارات تعاقبت في فترات متلاحقة تعود إلى ما قبل التاريخ، وهنا يظهر ذلك الرابط الخفي بين دائرة الكادر الخارجي التي تتضمن التاريخ الحديث إذا صح التعبير، مع الدائرة الموغلة في التاريخ الحاملة لرسومات الثور المجنح والغزال ومجموعة المحاربين، الأمر الذي يؤكد أن السمان يرسم تطورية الحياة منذ الأزل بصراعاتها وقساوتها وخضوعها لمبدأ التطور المتشابه في الفحوى والمختلف في الشكل والتفاصيل.. هكذا تأتي الدائرة الثالثة المستقرة في منتصف اللوحة تماماً كي تأخذ دور العماء الأول قبل ولادة الحياة، تلك المرحلة التي تحدثت عنها الأسطورة السورية منذ آلاف السنين فيما عرف بأساطير الخلق والنشوء، يؤكد ذلك كون تلك الدائرة خالية تماما من أشكال البشر أو الأشياء، فالسمان هنا اكتفى بوضع تفاصيل متداخلة بشكل هندسي للألوان على اعتبار أن ذلك هو العماء الأول الذي سبق ولادة الحياة حسب ما تقول أساطير الخلق منذ ما قبل التاريخ!.
يعوّل نبيل السمان على الرموز كثيراً، فتكاد لا تخلو لوحة من ذلك الرمز الذي يشكل ركناً أساسياً في فك شيفرة المعاني الزاخرة والمحتشدة غالباً في جميع الأعمال، وبدءا من تركيزه على الدائرة أو الرسم بشكل دائري كإشارة إلى القانون الناظم لتطور الحياة، إلى استحضار الأسماك أو الحمائم أو الغزلان وحتى البوم، وهي في مجملها دلالات تفترض قراءة خارج المعتاد أو السائد عن تلك الطيور والحيوانات، خاصة عندما يحاول أن يزودها بإسقاطات خاصة من بيئة اللوحة ومن رؤيته الشخصية التي تبدو واضحة في العديد من الأعمال.. فعدا عن دلالات الأسطورة في اللوحات البانورامية أو لوحة اختطاف أوروبا أو سواها، فإن رموز السمان وأشكاله تأخذ بعداً آخر يتصل بتجربته الفنية ورؤيته الخاصة إلى الأشياء والموجودات التي يحاول اختزالها هنا بالشكل واللون وزرع الدلالات، وهي في جميع الحالات تبدو سهلة تهديك مفاتيح اللوحة من أجل الدخول إليها، رغم الانطباع الأول جراء ذلك الحشد والرسم من خلال أكثر من مستوى أو أكثر من بعد إذا صح التعبير.
في ظل ذلك الحشد الكبير من الأفكار والأشكال التي يدأب نبيل السمان على مقاربتها، كان لابد للألوان من أن تبدو أكثر حرارة وازدهاراً وربما حدّة أيضاً، فحشد الأفكار ذاك يفترض حشداً لا يحدّ من الألوان كي تواكب ذلك السيل المنهمر من التداعي، لذلك فإن الاحتفاء بالألوان الحارة يتحول إلى حامل أساسي هو الآخر بالنسبة للوحة، خصوصاً عندما يقرر السمان الاستغناء عن الشكل نهائياً عبر ضربات الريشة وصناعة التدرجات المختلفة دون أن يحدها بحواف واضحة تماماً، كي لا يشكل ذلك الحد من الفصل بين ضربات الريشة التي تبدو مثل المنمنمات، وهي حالات تظهر كثيرا في هوامش اللوحات أو في الخلفيات، وربما الأهم من كل ذلك في بؤرة الدائرة المركزية التي أراد أن يشير من خلالها إلى العماء الأول وبداية تطور الخلق.!.
تنال المرأة في لوحات السمان، حظاً وافراً من الحضور، سواء أكانت مفردة ضمن عناصر العمل، أم استأثرت بالموضوع المحور أو الأساس، فالعودة إلى المرأة الأم أو الأنثى أو الأرض، تبدو فكرة محورية لدى الفنان، حتى عندما يزرعها بالورود التي تظهر وكأنها تنبت من رأسها مثل المزهرية تماماً، أو عندما يجعلها تحتضن دائرته المركزية تلك كأنها امرأة حبلى لتظهر صاحبة المآلات النهائية والاحتواء والرعاية والإنبات.. هكذا تندمج نساء السمان حتى عندما يكنّ مجرد حسناوات، مع مفاهيم أعمّ وأشمل تتصل بالمرأة الأم أو عشتار المسؤولة عن كل هذا الدفق وتناسل الأشياء والأفكار التي تنهمر في اللوحات مثل الولادات.. فمقاربات السمان تصر دائماً على العودة إلى جذورها أو ينابيعها الأولى في الأسطورة أو الخزان الثقافي الذي يمتح منه الفنان، وأهم صفاته أنه ابن البيئة والذاكرة التي ينطلق منها دائماً في عملية البحث عن ضفاف جديدة أو أراض بكر.
يقول الفنان الراحل فاتح المدرس إن لوحات السمان تشكل نوعاً الرمز والعلاقة بين الفن الشرقي والغربي، أما الياس الزيات فيعتقد أن نبيل السمّان قد تجاوز الأسطورة المحلية في تجربته الأخيرة وصولاً إلى الأسطورة الكونية الإنسانية مستنداً في ذلك إلى تشكيل بصري وشخوص تدور في فلك مبتكر.. والرأيان يؤكدان أن السمان الذي لم ينفصل عن ذلك الإرث الأسطوري الذي كون ثقافته منذ البداية، لم يأسر نفسه أيضاً في كوادر مسبقة تمنعه من التحرر والانطلاق.. بشكل ما، إنها تجربة بقدر ما تنطوي على الخصوصية والولاء للبيئة السورية على أكثر من صعيد، فإنها تتوق للاختلاف ورسم الملامح الجديدة سواء على صعيد الفكرة أو الألوان والدلالات.
زياد قطريب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد