قانا: الجزء الثاني من فيلم الرعب الإسرائيلي

01-08-2006

قانا: الجزء الثاني من فيلم الرعب الإسرائيلي

أدخلت مجزرة قانا الحلبة الإسرائيلية في دوامة. فمن جهة اندفع رجال الجيش والسياسة لاستغلالها بشكل فظيع سواء بتحميل الضحية مسؤولية وضع نفسه تحت القذيفة أو بمحاولة الاثبات أنها كانت درعا بشريا لحماية المقاومة. وبين هذه وتلك وجد الكثير من الإسرائيليين أكثر من مبرر لاستمرار الحرب ورفض مطلب الوقف الفوري لإطلاق النار.
غير أن محاولات الجيش الإسرائيلي للتشكيك في الرواية وصم الأذن عن كل الوقائع والتركيز على فجوة افتراضية بين القصف الإسرائيلي وسقوط البيت، ضاعت هباء. وحاول رئيس أركان سلاح الجو العميد أمير ايشل تشويش الصورة الواضحة فأعلن أنه يحتمل أن يكون في البيت مخزون لمواد من نوع ما أدت في نهاية الأمر إلى الانفجار. بل أن الجيش أشاع تقديرا بأن مواد متفجرة كانت داخل المبنى انفجرت بعد سبع ساعات من الهجوم وأدت إلى انهياره.
كما أن محاولات الحكومة الحصول من الجيش على شريط مصور يثبت تورط البيت في محاربة إسرائيل، لم تجد نفعا. وبدا للعالم من جديد أن الحرب الإسرائيلية على لبنان ليست موجهة فقط ضد حزب الله وإنما تستهدف الإنسان اللبناني عموما، وهو ما أحرج الإدارة الأميركية التي اضطرت لأن تملي في وقت متأخر أمس الاول على الحكومة الإسرائيلية قرارا جزئيا ومؤقتا بوقف الغارات الجوية.
وعندما رأت الحكومة أن هذا الإعلان أساء لصورتها المتحدية أمام جمهورها، فأرسلت الطائرات لضرب قنبلة موقوتة، بدعوى أنها قائد كبير في حزب الله، شاهد العالم كله أن الغارة استهدفت ضابطا وجنودا في الجيش اللبناني. وأثارت مجزرة قانا ردود فعل متضاربة في الحلبة السياسية الإسرائيلية. وطالبت بعض قوى اليسار حكومة ايهود أولمرت بالوقف الفوري للحملة والتوجه إلى المفاوضات، ولكن اليمين اتهم حزب الله باستخدام النساء والأطفال ودعوا إلى استمرار العمليات.
وأعلن زعيم الاتحاد القومي بني ألون أن هذه مؤامرة شريرة من حكومة لبنان وحزب الله. فقد أدخلوا الرضع والأطفال ممن ليسوا من سكان المكان إلى داخل المنازل وهم المسؤولون المباشرون والوحيدون عن القتل.
ومن الجائز أن اهتزاز صورة الحكومة والجيش في المجتمع الإسرائيلي، دفعت المعلقين إلى انتقاد هذا الواقع. وهكذا كتب المراسل العسكري لـ يديعوت أحرونوت اليكس فيشمان أن قرار رئيس الحكومة بوقف العمليات الجوية في جنوب لبنان هو، على أقل تقدير، قرار غريب. فهو يوقف الزخم ويحد من مسيرة تآكل حزب الله وعمليا تبدأ مسيرة وقف النار بشروط هي أقل جودة لإسرائيل. حزب الله يواصل إطلاق النار، يقف على ساقيه وإسرائيل تذعر وتنثني تحت الضغط.
وأشار إلى أنه ليس فقط لا ينبغي وقف المعركة، بل محظور اعتبار الأحداث في قانا سببا يمكنه أن يؤثر عليها. لا يوجد هنا استخفاف بحياة الإنسان أو استهانة بأزمة إنسانية. فقد انطلقت دولة إسرائيل إلى هذه الحرب كي تحقق أهدافا حيوية لوجودها، وهي ملزمة بأن تحققها وإلا فإن الأثمان التي ستدفعها الدولة على مدى السنين سوف لن تطاق. إذا ما فشلت إسرائيل في هذه الحرب فسيكون متعذرا مواصلة العيش في الشرق الأوسط. وبالتأكيد ليس في شرق أوسط من شأنه أن يكون نوويا بعد سنوات.
واضاف أنه : بعدما دمرنا حيا كاملا في بيروت ومئات المباني في أرجاء جنوب لبنان، فجأة ارتعدت فرائصنا وبتنا نتلعثم ونعتذر. ومع كل الأسى، فان حدثا مهما كان باعثا للصدمة محظور له أن يحرف الدولة عن هدفها المركزي. وفضلا عن ذلك، فان على دولة إسرائيل أن تشيع من دون أن يرمش لها جفن أنه إذا استمر حزب الله في إطلاق الصواريخ من مناطق مأهولة والاختفاء فيها فستصاب المزيد من المباني. صحيح أنه بعد الحدث في قانا صدرت تعليمات لسلاح الجو لتدقيق المعلومات الاستخباراتية قبل تحديد مبنى ما كهدف للقصف، ولكن بقي على حاله مبدأ قصف المباني التي يجد فيها رجال حزب الله أو منصات الصواريخ مأوى.
وشدد فيشمان على أنه منذ الآن يمكن القول أن الحدث في قانا لا يمكنه أن يعتبر حدثا تأسيسيا في هذه الحرب، ذلك انه يقع في مرحلة باتت فيها خطوط التسوية السياسية المنسوجة معروفة جيدا لكل واحد من الأطراف. قانا لن تغير خطوط هذه التسوية جوهريا. وفي هذه الأثناء فان الضرر الذي لحق بإسرائيل هو في أساسه ضرر في صورتها... واليوم لا تزال ردود الفعل المناهضة لإسرائيل عاطفية، من البطن. أما غدا فسيعودون للحديث في المصالح. ولا توجد دولة ديموقراطية برغماتية على وجه البسيطة تتوق لان ترى انتصار منظمة إرهابية مثل حزب الله.
واعتبرت سيما كدمون في يديعوت أن حسن نصر الله سجل أمس (الاول) إنجازه الأكبر في هذه الحرب. وهو ليس إنجازا عسكريا، أو حتى أخلاقيا، بل هو إنجاز في صورته. وقد كان يتوسل بالضبط هذا الإنجاز: صور الأطفال الموتى. التظاهرات. صدمة العالم وردود الفعل. التفسيرات، وفي الأساس التلعثم... دولة إسرائيل سجلت لنفسها أمس (الاول) الحرج الأكبر في هذه الحرب. وليس هذا حرجا من فشل عسكري. هذا حرج أخلاقي وفي صورتها.
وتساءلت كدمون سوء حظ، قلة حذر، أم سوء تفكير؟ يبدو أنها جميعا معا. ومع كل الغضب والإحباط من أن منصات الكاتيوشا موجهة إلى إسرائيل من داخل المنازل، فان هذا الشرك كان مكتوبا على الحائط. تحدثوا عنه منذ اللحظات الأولى للحرب: عن التخوف من أن يقع حدث مثل ذاك الذي وقع في قانا في 1996 وأصبح نقطة تحول في حملة عناقيد الغضب وأملى على إسرائيل شروط وقف إطلاق النار.
وأضافت :كان هذا يوما عسيرا. فليس سهلا على أحد أن يرى جثث الأطفال تستخرج من تحت الأنقاض. ولكن حذار أن نتشوش: حذار السماح لهذه الصور أن تنسينا ما يريد نصر الله أن ينساه العالم. مثلا: كيف بدأت هذه الحرب؟ ولماذا تسقط مئات الكاتيوشا هنا منذ ثلاثة أسابيع؟ واعتبرت أن ضغطا كبيرا مورس أمس (الاول) على حكومة إسرائيل. من ناحية التأييد والإسناد الدولي قانا ستكون هذه المرة أيضا نقطة انعطاف. ولكن محظور أن تكون هذه نقطة انعطافة من ناحيتنا أيضا. إذ مع كل الحرج، الأسى والإحساس بعدم الراحة، فان هذه الحرب يجب عدم إنهائها الا عندما تكون هذه مصلحة إسرائيلية.
وخلصت إلى أنه من بين كل السيناريوهات السيئة لإنهاء هذه الحرب، فإن هذا السيناريو هو الأسوأ: السيناريو الذي سيرسخ في الوعي عدوانية إسرائيل وليس عدوانية حزب الله.
وفي يديعوت أيضا كتب سيفر بلوتسكر عن مجزرة قانا أن :مشهد الجثث يفطر القلب، صحيح أن حزب الله استخدم قرية قانا كقاعدة لإطلاق الصواريخ على إسرائيل، وذلك ربما لمعرفته واعتقاده بأن إسرائيل ستخشى قصف هذه القرية تحديدا، التي تحولت (قبل عشر سنوات) إلى نموذج لمذبحة لا سابق لها. ولكن هذا الاستعداد لذاته لا يسمح ولا يُنظف ولا يُهدئ أي ضمير في إسرائيل. ففي الفهم القومي، نحن جميعا مذنبون: شعوب صغيرة هي شعوب تتحمل المسؤولية الجماعية، هذا القتل يقع على رؤوسنا جميعا.
وأشار إلى أنه لا حاجة للشرح والتفسير، بل هناك حاجة فقط لتحمل المسؤولية، للترحم وطلب الصفح والمغفرة. لأن تحمل المسؤولية يعتبر شيئا مركزيا في مسألة من هذا النوع، وهكذا أيضا طلب العفو، وكما هو من واحد لآخر، فانه من شعب لشعب مجاور. فحوى من هذا النوع يمكن أن تُفسر من قبل شعوب أخرى كنوع من الوقاحة والاستفزاز اليهودي، وكأنه نوع من إظهار التقليل من قيمة من ليسوا يهودا، وكموقف من يواصل إيقاع الضحايا. فقبالة عشرات الجثث من الأطفال التي لا مكان لها، لا بد أن نكون من بني البشر، إنسانيين تماما: يجب أن نبكي، ومكانتنا القومية لن تتضرر من هذا. وأعداء إسرائيل لن يعتبرونا قُساة القلوب، بل إن عائلات هؤلاء الأولاد سيعتبروننا من بني البشر، بل وربما يساعدوننا.
وشدد بلوتسكر على أن تحمل المسؤولية عن هذا القصف المأساوي الذي تعرضت له قرية قانا لا يعني إلغاء عدالة هذه الحرب. فهذه حرب عادلة ومُحقة، وكذلك فان القصف عادل ومُحق.
واعتبر رافي مان في معاريف أن من الصعب، بل ومن غير الممكن، اتباع سياسة أمنية تقوم على الأفكار الغيبية المسبقة والأحاديث عن عين الحسود وسوء الحظ، ولكن ما العمل عندما يتعلق الأمر بلبنان، فالإشارات السيئة تعود إلينا مثل الجن الذي يخرج من الظلام. كمائن حزب الله والعبوات الناسفة والمروحيات المتصادمة مع بعضها البعض والمصابين من جنودنا بنيران رفاقهم، وأمس (الاول) قانا مرة أخرى. وكأن أحدا ما يُصر على عرض فيلم رعب للمرة الثانية علينا في الوقت الذي نحاول فيه أن ننسى العرض الأول لذلك الفيلم.
وكتب أنه :يمكن القول في هذه المرة أيضا أن الطبعة الثانية من مأساة قانا ستكون بمثابة جرس الساعة المنبهة الذي يعيدنا إلى ارض الواقع. فعندما خرجنا لهذه المجابهة قبل 20 يوما بدا وكأننا أمام حدث سيُغير وجه الشرق الأوسط كله: إسرائيل تستعيد لنفسها أخيرا قدرتها الردعية كما قالوا لنا وأننا في الواقع أمام حرب اللاخيار. في غضون ذلك وحتى الآن إذا لم يحدث تغير حاد في الوضع فسوف تخرج إسرائيل من هذه الحرب بإنجازات شحيحة في أحسن الأحوال. وعدد مان إنجازات إسرائيل: تقليص مخزون حزب الله من الصواريخ مع بقاء أكثر من عشرة آلاف منها، وشحوب وجه القائد والرمز حسن نصر الله, بعباءته وابتسامته برغم بقاء رسائله على ذات المستوى من الحدة، القوة متعددة الجنسيات ستصل ولكن من المشكوك بقدرتها على تقييد حزب الله.
وبعد أن يعدد تعقيدات الوضع في لبنان يكتب : كم مرة ينبغي أن نتذكر أن الصدام بين جيش مسلح بطائرات اف15 ودبابات ميركافا وبين تنظيم عصابات، لن ينتهي بانتصار ذلك الجيش الضخم. ولماذا يدخل الجيش الإسرائيلي إلى معركة لم يستعد لها ولم يُجهز نفسه لمواجهة تلك الكمية الكبيرة من قاذفات الصواريخ بصورة ناجعة؟.
غير أن الزعيم اليساري السابق يوسي ساريد يحاول أن يقف على المفارقة في الموقف الإسرائيلي من مجزرة قانا بطريقته. فيكتب في هآرتس منتقدا الادعاء الرسمي بأن الحكومة والجيش والطيار لم يكونوا يقصدون واعتبر أن هذه حجة حسنة، إذ أن:هذا هو ما كان ينقصنا فقط: أن نقتل 60 مدنيا، بينهم 30 طفلا عمدا وعن سبق إصرار.
وأشار إلى إعلان الحكومة الإسرائيلية أنها حذرت سكان الجنوب اللبناني وطالبتهم بالفرار وأنها تأسف للمجزرة، ولكن :عندما يحذرون سلفا مئات آلاف الرجال، والنساء والأطفال، من القنابل والصواريخ والقذائف، التي ستسقط عليهم بعد قليل، يجب الأخذ في الحسبان أنهم لن يهربوا جميعا. فليس من السهل جدا ترك بيت؛ ومن ينقذ الفارين من الأخطار التي تترصدهم في طريق هربهم؟ لقد حدثت حالات في القديم وفي الفترة الأخيرة، هوجم فيها لاجئو جنوب لبنان وقُتلوا في طريقهم الحزين إلى الشمال، وفي هذه الحالات أيضا لم نكن نقصد العفو بل عبرنا عن الأسى.
وكتب أن الأمين العام لحزب الله أيضا قام بتحذيرنا هنا، في شمال إسرائيل. لقد أطلق نحوا من 2000 قذيفة تحذير إلى عنواننا في الأيام العشرين الأخيرة، وتوقع عبثا أن يصيبنا الرعب وأن نفهم التعريض... بدل الهجرة فورا، بقي عشرات آلاف المواطنين في الجبهة الأمامية، بين حيفا وكريات شمونة. وسواء أكان الأمر بإرادتهم أو رغما عنهم، فإنهم عالقون في الملاجئ. هل سنوافق على إعفاء نصر الله من جرائم حربه لأن الشجعان لم يسمعوا صوت صواريخه فقط؟ لماذا نعفيه؛ على ثلاثة أو أربعة أو ألفي كاتيوشا لم نرد عليها. جريمة الحرب هي جريمة حرب ولا توجد جريمة من غير مجرمين.
ويبين من وجهة نظره الفارق بين الأمرين: على الأقل، لا يزعم نصر الله أنه يقود أكثر جيش أخلاقية في العالم. ربما يكون هو نفسه يعلم من هو. هل نعلم من نحن؟

حلمي موسى

المصدر: السقير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...