شعرة التلفزيون السوري التي لا تنقطع
الجمل – خيرا لله علي: منذ أكثر من عقدين تقريبا وأنا اتابع التلفزيون السوري ، وأستطيع أن أستنتج بعد هذه السنوات أن سياسته المبرمجة كانت دائما، تعمل للمحافظة على شعرة بينه وبين المشاهد ، فلا هي تبتر العلاقة معه من جهة ،ولا هي تشده اٍليها الى درجة يصبح معها المحطة الاولى التي يكرس لها هذا المشاهد جل وقته من جهة ثانية ، وكان ذلك يتجلّى بوجود برنامج واحد ، في أحسن الاحوال ، يستحوذ على اهتمام المشاهدين، ويدفعهم لانتظاره مرة كل اسبوع مترقبين الجديد فيه ،ومستمتعين بطريقة تقديمه ، واسلوب عرضه الشيق . نجاح تلك البرامج كان سببه يرجع ببساطة ، الى أنها أوكلت لمعدين واٍذاعيين قديرين ،هم أولا أصحاب رأي وذوو خبرة وثقافة ، وثانيا ،وهذا الاهم ،هم أناس منخرطون بالهم العام اٍلى حد كبير ، وتشغلهم الامور الصغيرة والتفاصيل المتعلقة بتطوير مجتمعاتهم بنفس القدر الذي تشغلهم فيه القضايا الكبيرة والمصيرية . ولا شك أن الجميع وخاصة الاجيال السابقة يتذكرون على سبيل المثال ، مجلة التلفزيون التي كان يعدها ويقدمها الاعلامي البارع مروان صواف ، وبرنامج السالب والموجب لتوفيق حلاق ، ومن ثم برنامج ملفات ساخنة كما اذكر لابراهيم ياخور، والفن السابع للناقد محمد الاحمد ........الخ .وصولا الى البرنامجين المتميزين "نسبيا" اللذين يقدمان الان وهما أنت ونجمك من اعداد معن صالح وتقديم الفنان نضال سيجري ، وبرنامج علامة فارقة للشاعر ابراهيم الجبين بالرغم من انهما برنامجان لهما طابع ثقافي وموجهان لشريحة محددة من المشاهدين .
باستثناء تلك البرامج التي ذكرتها قديما وحديثا ، وبعض المسلسلات التي ماعادت تشكل رابطا مهما بين المشاهد والتلفزيون السوري نتيجة توفرها بكثافة لا مثيل لها على قنوات عديدة أخرى ، أقول اٍذا ما استثنينا هذه النوافد القليلة جدا، فاٍن المشاهد السوري يكاد لا يتذكر أن هناك شاشة ناطقة باسمه .
لا نريد هنا أن نعلم أحدا ، أو أن نعطي مواعظ ودروسا في معرفة كيف يمكن للتلفزين الرسمي السوري أن يكون مشاهدا من قبل جمهوره الاول والاهم ، بعدما أضحى حل المشكلة من بديهات العمل الاعلامي ،وهو أن تعطي الخبز للخباز ولو أكل نصو . لكننا نذّكر أن نجاح البرامج القديمة التي أشرت اٍليها، وكذلك اهتمام الناس بالبرنامجين الجديدين مثالان حيّان على أهمية التخصص والاطلاع الواسع ، والالمام شبه الكامل من جانب المذيع والمعد بخيوط الموضوع المطروح للمعالجة ،وطبعا، اٍلى جانب مواصفات المذيع الناجح التي يتجاوز عددها أصابع اليدين لمن لايعرف ، وتحديدا منها الثقافة الجيدة ،وحضور البديهة ،والقدرة على المناورة في الحوار ،والاطلالة المريحة والخفيفة على المشاهدين .
والمطلوب لتحقيق الغاية المرجوّة لا علاقة له هنا بالحرية الاعلامية وحق التعبير عن الرأي ،فهذا بند لا يبدو انه سيدرج على جدول أعمال وزارت الاعلام العربية في العقود المنظورة ، ولكنني أتوقف عند الممكن والمتاح والمعقول، والذي ينسجم مع الشعارات العريضة التي ترفعها الحكومة التي غالبا ما تحّمل المواطن العادي الذي لاحول له ولاقوة مسؤولية فشل الخطط الخمسية، والعشرية المشبعة بالدراسات المعمقة .
مع ذلك ،المشكلة بالنسبة للبعض لم تعد في كل ذكرناه كما يبدو ، بل في مكان أبعد، أخذت هذا البعض اٍلى حد اتهام الحكومة بأن كل ما يجري مدروس ومدبر من قبلها ،وبالتالي لابد من الاجابة على أسئلة جوهرية بهذا الخصوص ،فهل فعلا لا تريد الجهات ذات العلاقة أن يكون التلفزيون السوري مشاهدا من قبل الناس ؟ وهل اصرار هذه الجهات على بقاء وجوه اعلامية باهتة لم يكن لديها مايستحق الالتفات والتقدير في يوم من الايام واحتضانها بطريقة استفزازية أحيانا ،هوموقف مدروس ومتعمد لتنفيرالناس من الشاشة السورية؟ أم جهل في مسألة الاختيار ؟ وماهوتفسير هجرة الاسماء المتميزة أو سبب تهميشها وأحيانا كثيرة الضغط عليها ؟،واٍلى متى سيبقى المشاهد السوري بسبب ماذكرت مهاجرا افتراضيا عبر الشاشة اٍلى محطات العالم بينما هو لايريد في الحقيقة اٍلا العكس ؟ أي العودة الى شاشة تلفزيون بلده التي ينتظر أن يرى فيها صورته، ويستمع فيها الى صوته من خلال برامج قادرة على طرح الاسئلة الواضحة، والحصول من خلالها أيضا على أجوبة واضحة وصريحة وأن يتخلص من تلك البرامج الخاملة الحاملة اٍجابات جاهزة جل ما تنطوي عليه من طاقة ،هي تلك التي تدفعك للضغط على زر تغيير المحطات .
هذه الاسئلة يمكن سوقها وتعميمها طبعا ،على جميع وسائل الاعلام الرسمية الاخرى ، مرئية ومطبوعة ومسموعة ،وكذلك على وسائل الاعلام الخاصة بدون استثناء ،اٍذ أن المشكلة تتكرر منسوخة تماما ،وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم أن يكون أديب ، أو مفكر، أو محلل سياسي ، في منصب رئيس تحرير صحيفة سياسية ، ولكن أن يكون صحفي اقصادي في هذا المنصب فذلك أمر ليس فقط غير مفهوم ، واٍنما يبرر بشكل جدي طرح الاسئلة السابقة .
ثمة لعبة هنا لا يحتاج فهمها الى كثير عناء ، بعدما بات معلوما أن أكثر رجالات الحكومة مع من يدور في فلك فسادهم من الرأسمال اللاوطني هم الذين يستوردون البضائع ،وهم الذين يسنون القوانين ،وهم الذين يتحكمون بانتاج نمط وشكل الثقافة التي على الناس استهلاكها .
وبكلام أوضح ،فاٍن من يفصل قوانين البلاد على مقياس مصالحه ومصالح أبنائه من بعده ، بالتأكيد لن يسمح بخطاب اعلامي اٍلا على قدر مصالحه ومصالح أبنائه ، فهل من مصلحة أي مسؤول اٍيجاد بيئة اعلامية صحيحة تفضح موبقاته وفساده ورذالات أولاده ؟
من هنا انا اقول للناقدين والمحللين لاعلامنا ، هذه هي الحقيقة ، كما أظن ،وليس أمامكم سوى أن تصمتوا ، وتسلموا امركم الى الله العلي الرحيم .
اٍنما عندي كلمة اخيرة لأولئك الحريصين على بلدي أكثر مني : اذا افترضنا حسن النية ،فهذه السياسة الاعلامية كان يمكن أن تؤدي وظيفة ما في زمن ما ، لكنها الآن سياسة هشة ،مفضوحة في خضم هذه العولمة الاٍعلامية المذهلة ،وكل ما تقوم به هذه السياسات المريضة من تأثير على المشاهد هو زيادة مستوى القرف في نفسه ، وتعميق احباطه ويأسه من أي أمل يلوح في الافق ،وبالتالي استمرار دفعه لمواصلة الترحال عبر قائمة القنوات التي تحمل في كل مطلع شمس حزما جديدة ،لأقنية جديدة قد لا تكون مشاهدتها من صالح أحد في هذا الوطن الذي من المفترض أن نكون جميعا شركاء فيه .
ملاحظة هامة على هامش الموضوع : ثمة ظاهرة قديمة جديدة صار وجودها يأخذ شكل الفضيحة ، في جميع المؤسسات الاعلامية : يخطئ المسؤول المسنود الظهر صاحب القرار ، ولكن بدل أن يسأل لماذا فعل كذا وكذا ، يدفع المحرر الصحفي صاحب الجهد الواضح والكبير الضريبة الباهظة بدون أي مبرر ، والذي جرى مع زملائنا في التلفزيون كما قرأنا وسمعنا مؤخرا هو حكاية من الف حكاية وحكاية ، هذا معيب .
إضافة تعليق جديد