كيف يتمّ توزيع الأفلام وتسعيرها مع وجود التلفزيون وتناقص الصالات؟
تُشكّل السوق السينمائية في مهرجان «كان» السينمائي، التي تأسّست رسمياً عام 1959، إحدى الركائز الأساسية للمهرجان الأول في العالم، وهي استقبلت، في الدورة الثانية والستين للمهرجان (13 ـ 24 أيار 2009)، أكثر من عشرة آلاف منتج من سبع وتسعين دولة مختلفة، أتوا إليها للتفاوض على خمسة آلاف فيلم كان لا يزال بعضها في طور الإنتاج، وبعضها الآخر في مرحلة الجهوزية التامّة للعرض التجاري. وحدّد المدير الفني لمهرجان «كان» تييري فريمو المعالم الأساسية للسوق بقوله إن «المهنة كلّها موجودة هنا»، إذ رأى أنه «إذا كنتَ بائعاً، فإنك تستطيع لقاء عشرات الشارّين المقبلين من عشرات الدول يومياً».
بعد أسابيع قليلة على انتهاء الدورة المذكورة، نشرت المجلة السينمائية الفرنسية «بروميير» (تموز 2009) تحقيقاً لآن دياتكن بعنوان «من يشتري ماذا في «كان»؟»، تناول تفاصيل عدّة حول الجانب التجاري البحت في صناعة السينما. بدأ التحقيق بالإشارة إلى أن سوق الفيلم كانت، في دورة هذا العام، هادئة، ناقلاً عن بائعة أوسترالية شابّة خشيتها من الوقوع في نتائج سلبية: «ذهبنا إلى برلين حاملين معنا الأفلام نفسها، التي لم تجذب موزِّعاً أجنبياً واحداً. أخاف حقيقة أن يتكرّر الأمر هنا، وأن نغادر هذا المهرجان حاملين معنا الأفلام نفسها أيضاً». أضاف التحقيق أن عصب الحرب «مدفون» تحت الأرض: «عشرة آلاف منصّة من الجنسيات كلّها، يُقدّم التجّار البائعون عبرها كاتالوغاتهم إلى الموزّعين، آملين أن يبيعوا أفلامهم، لتوزيعها في السوق التجارية الأجنبية. هناك 1500 عرض لا يُسمح للصحافيين المشاركة فيها، تقترح على الموزّعين والمصدِّرين أثناء المهرجان نماذج متفرّقة من الإنتاج السينمائي الجديد». وأعطى التحقيق مثلاً على ذلك: «ثماني دقائق من الفيلم المنتظَر جداً لجوان سْفَار حول غينسبور يمكنها أن تكون كافية للتحريض على مزادات عدّة، مع أن هذا الروائي الطويل الأول، الذي تُطلق عروضه التجارية في شباط 2010، لم ينته إنجازه بعد».
إذاً، ما الذي يُباع ويُشترى في «كان»؟ ولماذا من المهمّ أن يتواجد فيه المرء؟
أول المشاركين في هذا التحقيق هو يوهان كونت، المسؤول عن قسم المبيعات الخارجية في شركة «رواسي للأفلام»، الذي يرتكز عمله على أن يبيع من موزّعين أجانب «أفلاماً فرنسية منضوية في إطار «فن وتجربة» ذات نزعة تجارية». فتحت هذا التعبير، تُعشِّش إنتاجات متنوّعة للغاية، بدءاً من «سيرافين» (2008) لمارتن بروفست و«شواطئ أنيياس» (2008) لأنيياس فاردا و«الأخت ابتسامة» (2008) لستين كونينكس (العنوان وصفٌ عُرِفت به جانين ديكيرز، صاحبة مليوني ألبوم بيع عام 1963، وأشهر أغنية «دومينيك»)، أو الأكثر حميمية «قصّة جِن» (2007) الفيلم الثاني للمصوِّر الفوتوغرافي فرنسوا روتغير. بالنسبة إلى يوهان كونت، يستحيل عدم التواجد في «كان»، لأن سينما العالم كلّه ممثّلة في الطابق تحت الأرضيّ هذا، الممتدّ على مئات الأمتار المربّعة: «سواء كانت هناك أزمة أم لا، فإن المواعيد تنتظم في السوق كل نصف ساعة. لكن، ليس ضرورياً أن يكون موزّع فيلم ما هو نفسه من يدفع مبلغاً أفضل، بل ذاك الذي يضمن أفضل توزيع ممكن». إنها خلاصة أدركتها كاتبة التحقيق دياتكن بعد جولتها على المنصّات ولقاءاتها المتنوّعة مع عدد من الموزّعين وممثلي الشركات المختلفة. وهي نقلت عن كونت قوله إن لديه ميلاً إلى التعامل مع شركات تمتلك أيضاً شبكة صالات، «لأن الأهمية الأولى، بالنسبة إلى الأعمال التي ندافع عنها، كامنةٌ في ضرورة تأمين إطلاق جيّد للفيلم في الصالات، وليس عبر أشرطة فيديو ديجيتال». فمهنة الموزّع تشتمل على معرفة قوّة الفيلم المنوي شراء حقوق توزيعه، والبحث عن «الأفضل» لترويجه: اختيار أفضل عنوان وأفضل ملصق، وإطلاق أفضل إشاعة لـ«إصابة» الجمهور (هذا كلّه من بين أمور أخرى). بحسب كونت، فإن الأفلام التي يصعب الدفاع عنها والترويج لها أمام موزّعين أجانب هي تلك التي لا تضمّ ممثلين «يسترعون الانتباه دولياً، وفي الوقت نفسه يكونون ذوي شعبية كبيرة جداً ويُشاركون في المهرجانات». ماذا يعني هذا؟ «حتى لو عرفت (الأفلام هذه) نجاحاً كبيراً، فإن الكوميديا أداة يصعب ترويجها أمام موزّعين أجانب، حتى لو أن الممثلة أو الممثل قادرٌ على تحقيق أرباح جمّة في فرنسا: لا يُمكن تصدير الفكاهة بشكل جيّد. إنهم يردّون علينا بالقول: لا يعني حصول هذا الفيلم على إقبال كبير عندكم أنه سيعثر على جمهوره عندنا».
هناك أيضاً جان هرنانديز (أوشيان للأفلام) وجان لابادي (باكت): إنهما موزّعان فرنسيان مستقلاّن يُمارسان هذه المهنة منذ سنين طويلة. بماذا أجابا على سؤال: ما الذي تغيّر في «كان»؟ قال الأول إنه «منذ ثلاثين عاماً، كنا نشاهد الأفلام المختارة وكنا نستطيع شراءها في اليوم التالي (على مشاهدتنا إياها). كان الازدحام شديداً. هكذا استطعت الحصول على «الأغنية الراقصة لنراياما» لإيمامورا، الفائز بـ«السعفة الذهبية» عام 2003، في اليوم التالي على عرضه». أما الثاني، المدجّج بثماني «سعف ذهبية»، يتذكّر: «في برنامج «نصف شهر المخرجين»، كان السباق على اصطياد الأفلام محتدماً. كل شيء كان مباحاً!». في العام الفائت، اشترى حقوق توزيع «فالس مع بشير» بمبلغ 700 ألف يورو: هل كانت صفقة سيئة قياساً إلى أن الفيلم لم يحصل على أية مكافأة؟ «بل إنها صفقة ممتازة، على العكس. أفضّل ألاّ يمنح الفيلم أية جائزة أبداً، لأن الجميع اعتبر المسألة «فضيحة» قبل أن نحصل، بضربة واحدة، على إجماع في الصحافة». اعترف الرجلان بأنهما ارتكبا أخطاء عدّة في حياتهما المهنية، ومع هذا «يُفضّلان الذهاب إلى الصيد بحماسة على أن يذهبا بإخلاص وصدق ناقصين». قال هرنانديز: «عندما نكون غير مقتنعين بمشروع ما، ومع هذا نستثمر أموالاً فيه لأننا متأكدون من أننا سنحصد أرباحاً كبيرة.. ونخطئ في هذا كلّه، يكون الأمر مزعجاً للغاية». أما لابادي فقال: «هناك شركة يابانية كانت أساساً لنجاحات كبيرة منذ أعوام عدّة، وضعت قيد البيع قواعد أساسية تُشكّل المعايير الخاصّة بنجاح فيلم. اشتراه موزّعون عديدون (وعملوا بموجبه). غير أن الشركة أفلست بعد إخفاقات عدّة، مع أنها اتّبعت بدقّة هذه القواعد. ما أريد قوله هو إننا لسنا محميين أبداً. هذا هو القانون الوحيد الذي لا يُمسّ!». يتّفق الاثنان على أن مهنتهما تبدّلت بشكل جذري عندما باتت المحطّات التلفزيونية في موقع الـ«شراة»: «فجأة، بدأ الكلام مرتبطاً بنِسَب المُشاهدين والفترات الأساسية والجزء الثاني من السهرة، في حين أن الكلام سابقاً تركّز على نتائج (إيرادات) الصالة».
إنها إحدى علامات الأزمة: «للمرّة الأولى منذ أعوام، لم يحصل ثلث الأفلام المشاركة في البرامج الموازية في «كان» على موزّع»، كما رأت كاتبة التحقيق آن دياتكن، التي أضافت أن «هشاشة المستثمرين تُعتَبر إحدى المشاكل الأساسية في التوزيع. ففي بلاد كثيرة، تُقفل صالات السينما أبوابها، وليس نادراً أن فيلماً لا يمرّ أبداً في مرحلة الصالة». ونقلت عن يوهان كونت قوله إن شبكة الصالات في روسيا مثلاً لا تتوقّف عن التوسّع: «مع ذلك، لا تزال هذه الشبكة غير كافية، والمستثمرون لا يهتمّون إلاّ بالأفلام التجارية. ثم إن انهيار العملة الروسية جعل أسعار الأفلام هابطة». وعلى العكس من ذلك (تابع كونت)، فإن عدد الصالات السينمائية في اليابان أقلّ مرّتين من ذاك الخاصّ بفرنسا، على الرغم من أن عدد السكان في البلد الأول يُشكّل ضعف عدد السكان في البلد الثاني: «هذا يعني أن هناك حالة من الضيق والاختناق. لكن، مع ميزة أن المستثمرين اليابانيين لديهم الأقدمية في هذا المجال. يأتون «كان» لمشاهدة الأفلام، ويوصون بها لموزّعين».
لا الموزّعون ولا التجّار يكشفون بسهولة المقولة الشهيرة «سؤال السعر»، أي السعر المطلوب لشراء حقوق بيع فيلم ما أو توزيعه، ولا يذكرون أكثر من المبلغ النهائي الخاصّ بالعقود التجارية. فقد أجمعت غالبية التجّار المستجوَبين في هذا التحقيق على أنه في الأعوام الخمسة السابقة قُسِّم الثمن الوسطي للفيلم الروائي الطويل على ثلاثة. مع استثناءات: «سكّر بنات» لنادين لبكي هو المثل النموذجي لفيلم تمّ تجاوز «سؤال السعر» الخاصّ به، لأن الموزّعين تملّصوا منه. جان لابادي استطاع شراء «أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع، يومان» لكريستيان مونجيو بـ«لا شيء» لحساب السوق الفرنسية، قبل أن ينضمّ إلى «لائحة الاختيار الرسمي» في «كان». قال لابادي: «فيلمٌ روماني من دون نجوم ويتناول الإجهاض؟ ما من أحد راهن عليه بدولار واحد! يجب أن تصدّقي هذا. إننا، قبل أي شيء آخر، مشاهدون».
بالنسبة إلى المبيعات من الخارج، فإن «السعفة الذهبية» لعام 2007 كانت من نصيب «وايلد بانش»، الشركة الكبيرة للتوزيع والبيع والشراء. للمرّة الأولى منذ أعوام، اعتقد جان ـ فيليب تيرال، المسؤول عن اقتناء الأفلام الأجنبية في هذه الشركة، أنه عائدٌ من «كان» خاوي اليدين. النصوص السينمائية التي حصل عليها قبل خمسة عشر يوماً من موعد بدء المهرجان لم تجذبه: «إما لأن المشروع متوسّط الأهمية، وإما لأنه جيّد لكن لائحة الممثلين فيه لم تكن جذّابة بما فيه الكفاية، وإما لأن الإنتاج لم يكن صلباً بالنسبة إلينا». المبالغ المطلوبة من الباعة تبقى مرتفعة جداً على الرغم من الأزمة، كما لاحظ تيرال. لكن، كيف يُسعَّر فيلم ما؟ «انطلاقاً من الأدوات الموضوعة في التصرّف، كالنص السينمائي واسم المخرج والـ«كاستنغ»... نضع سلسلة من الفرضيات: إيرادات الصالات التي نتمنّى الحصول عليها، وعدد أشرطة «دي في دي»، والمبيعات الخاصّة بالمحطات التلفزيونية، ونفقات الطبع (عدد النسخ، الترويج الإعلاني، الملصقات...). مع معرفتنا أنه إذا لم يصمد فيلمٌ أجنبي ما في الصالة، فإن مبيعات التلفزيون والاستثمار في أشرطة «دي في دي» تتدحرج هي أيضاً» كما شرح تيرال، الذي أكّد أن شركته، منذ الأزمة، باتت أقلّ مخاطرة: «تسعون في المئة من المشتريات تحدث على أساس النصّ السينمائي، قبل بدء التصوير». وهذا يُعتبر رهاناً ذا مخاطرة: «لكنها الطريقة الوحيدة التي يُمكننا بفضلها امتلاك أفلام أميركية ذات قدرة على رفع سقف الإيرادات».
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد