أنسي الحاج: «مـادليــــن التـي كانــت سـاهــــرة»
كان رونيه شار ـــــ الشاعر الفرنسي المطلّ على الفلسفة من الجذور الإنسانية الكونيّة، شاعر البروق والقبض على البداهات المختبئة ـــــ كان يتمشّى ذات يوم من أيام صباه في المحطّة بانتظار القطار، عندما اتّجهت إليه فجأةً صبيّة وسألته إذا كان في حوزته ورق رسائل. أجابها بالنفي، وارتسمت على وجهه علامات استخفاف عابث، فقالت: «أترى الأمر مضحكاً؟». فأجابها: «لا، طبعاً. سواءٌ هذا الطلب أو سواه...». فقالت بنبرةٍ يشوبها الأسف: «مع أنَّ...». ويصفها بأنها ذات جسد نحيف، ممتقعة الوجه، «وبريقُ عينيها إلى أقصاه (...) نويتُ أن أشقّ لنفسي طريقاً تبعدني عنها. وهنا كنتُ قد بلغتُ قطارَ سان كلو فصعدت إليه مسرعاً. وإذا بها تصعد ورائي. مشيتُ بعض الخطى في القطار لأبتعد عنها وأقطع التواصل بيننا، ولكنْ دون جدوى. سارعتُ إلى إدارة ظهري لها. في المحطّة التالية عجّلتُ بالنزول، لكن خطاها الرشيقة لحقت بي. لقد تغيّرتْ نبرةُ صوتها. نبرةُ رجاءٍ بلا مسْكنة. ببضع كلمات هادئة أوضحتُ أنّ الأمور يجب أن تتوقّف هنا. عندها قالت:
ـــ أنتَ لا تفهم، لا، قطعاً. ليس الأمر كما تظنّ».
ويمضي شار في روايته:
«كان جوّ الليل يضفي حُسْناً على وقاحتها. وأضافت:
ـــ هل تتخيّلني في أروقة المحطّة الخالية التي يستعجل الناس الخروج منها، أقوم بعرض نفسي عليهم؟
ـــ أين تسكنين؟
ـــ بعيداً جدّاً من هنا. منطقة لا تعرفها.
عادت إليّ ذكرى مطاردةِ الألغاز، عهدَ اكتشافي الحياة والشِعر، فأشحتُ عنها منزعجاً. وأجبتها:
ـــ لا يغريني المستحيل كما في الماضي. (أكذبُ). شاهدتُ ما يكفي من العذاب...
فأجابتني:
ـــ أَن تؤمنَ من جديد لا يعني أنه سيكون هناك مزيدٌ من العذاب. حافظ على ملاءتك للاستقبال، لن ترى نفسك وأنت تموت.
ثم تنهّدتْ:
ـــ يا لرطوبة هذا الليل!
(...) ـــ ما اسمك يا بُنيّة؟
ـــ مادلين.
صراحةً، لم أفاجأ باسمها (...) لقد أنجزتُ بعد الظهر كتابة «مادلين وقنديل السهر»، مستوحياً إيّاها من لوحةِ جورج دو لا تور. (...) قصيدة كلّفتني كثيراً. وها أنا أجد برهانها في هذه العابرة العنيدة. سبق لي مرتين، ولقصيدتين أُخريين مكْلفتين، أن عشت المغامرة نفسها. لا أجد صعوبةً البتّة في الاقتناع بذلك. إن اختراق طبقة عميقة من الانفعال والرؤيا يشكّل ظَرفاً مؤاتياً لانبجاس الواقع الكبير. لا يبلغه المرء دون تقديم بعض الشكر للعرّاف. لا هذرَ في تأكيد ذلك. لستُ الوحيد الذي يُمنح أحياناً هذه البراهين النادرة. أقول لها: «مادلين، كنتِ معي جزيلةَ الطيبة والصبر. دعينا نمشي معاً بعض الطريق أيضاً، هل توافقين؟».
(...) منتصف الليل والنصف. في جادة فرساي يتصاعد من الأرض ضوء مترو ميرابو شاحباً (...)
ـــ قَبّلني هنا، كي أذهب سعيدة.
أُمسكُ رأسها بيديّ وأقبّلها على شعرها.
(...) أُقسم إن كلّ هذا حقيقي وحصل معي (...) إن الواقع النبيل لا يهرب من الذي، إذا صادفه، يقدّره حقّ قدره ولا يهينه أو يسجنه. هنا هو الشرط الوحيد الذي لسنا دوماً أنقياء بما يكفي لنستوفيه».
■ ■ ■
لنمضِ بعد شار قليلاً في استكشاف جوانب من هذه الحقول المسحورة.
خلال كلامه في كتابه «نادجا» على «الصدفة الموضوعيّة» يعود أندريه بروتون إلى تعريف إنغلز لها: «إنها الشكل الذي يرتديه ظهور الضرورة».
وفي «الحب المجنون» يضيف: «لعلّها الشكل الظهوري للضرورة الخارجية التي تشقّ طريقاً لها في اللاوعي البشري».
تراوح الصدفة بين صغرى وكبرى، حيث «تتفلّت مؤقّتاً من قبضة تأثيري وتدخلني إلى عالمٍ يكاد يكون محظوراً، هو عالم المتقاربات الفجائيّة والتزامنات الصاعقة (...) والبروق التي كان يمكن أن تكون فاتحة بل فاتحة جدّاً للبصر لولا أنها أسرع من البروق الأخرى». ويتحدّث بروتون أيضاً عن حصول «إشارة، لا يُعرف بالضبط أيّ نوعٍ من الإشارات، إنما حصيلتها أنّني، في صميم وحدتي، لا أزال أنعم بتواطؤات لا تُصدَّق».
وفي كتابه «قروي باريس» يتمشّى أراغون في شوارع المدينة مستنفراً أمام التفاصيل مكتشفاً بعينين جائعتين، وتحفّز للانتشاء بالجديد والغريب يعبّر عنه الكاتب بقوله: «كان يغمرني الأمل بالوصول إلى ملامسة قفلٍ من أقفال الكون... تُرى، ماذا يجري لو وَلَجَ المفتاح تماماً؟...».
شهيرةٌ أيضاً اللوحةُ التي رسم فيها كيريكو الشاعر أبوللينير، قبل موت الأخير ببضعة أعوام، وعلى صدغه أثر جرح... هذا الجرح الذي أصيب به الشاعر بعد ذلك بسنوات. بدوره رسم فكتور برونير نفسه عام 1932 مقتلَع العين. وعام 1938 اقتُلعت عينه بالفعل أثناء عراكِ طاوله بالصدفة.
قبل ذلك بعقود تحدّث بودلير عن «غابة الإشارات والرموز» التي يتحرّك فيها الإنسان. وقبل بودلير حفلت كتابات الرومنتيكيين، وبالأخص شاتوبريان ولامارتين وهوغو، وقبلهم الألمان والإنكليز، دون أن ننسى جيرار دونرفال، بقشعريرات اللحظات المسحورة والانخطاف والحلول في العجيب وحلول العجيب في الشاعر، وتكاد لا تمرّ عبارةٌ من أدب هذا الرعيل دون أن تضع قارئها على تماسٍ مع المجهول، مجهولٍ مرتعش يغدو فجأةً شديدَ الحضور، مجهول مقدّس أو راعب، تصبح الحياة معه توتّراً مهدهِداً، وكلّ مادةٍ روحاً تنبض وتومض بالمعاني.
الأزمنة الحديثة حملت إلى الواجهة شعراء يعيشون الشعر وأحياناً أكثر وأكثف ممّا يكتبونه. (وكلّنا في بلداننا العربيّة عرفنا أمثال هؤلاء الشعراء الكيانيّين، وما أكثرَ ما خجلت كتاباتنا المتباهية أمام وجودهم الحيّ الأكثر صدقاً وعمقاً وتوهّجاً من أيّة كتابات). نادرون أولئك الذين تفوّق شعرهم كنتاجٍ أدبي على حياتهم اليوميّة كنهجٍ شعري ممارَس في المعيش، في المغامرة وإنفاق الحواس والذات. والذين جمعوا الشعريّتين، كبول إيلوار، يمكن اعتبارهم من الاستثناءات، (لعلّ أشهرهم في قدامى العرب أبو نوّاس).
قدرةُ الشاعر أن يكون وسيطاً بين المرئيّ وغير المرئي هي أملٌ لكل إنسان أن يبلغ هذه القدرة. أن يصبح الكائن هو في وقت واحد الحدث والمكان الذي يحصل فيه الحدث، والفعل الناقد للحدث. الناقد، أو الشاهد بتذوقيّة النقد وصرامته، وبحدوده الطامحة على الدوام إلى اختراق نفسها. الكائن هو المحور، يستبطن الكون، ومع هذا يشعر بضيق مساحته كأنه نقطة، وباتّساع حدقة توقه كأنها الفجوة اللانهائيّة.
كيف يتمكّن الإنسان من البقاء على أُهبة الاستعداد النفسي، مصغياً عند بوّاباتِ العوالم الخفيّة، تلك التي هي فينا وحولنا، خلايا مقيمة ثابتة، أو هائمةٍ لعوب؟ كيف نبقي الشعلة مضاءة كي لا تضِلّ «اللحظةُ» طريقها إلينا؟
الانتظار... إنه الحالةُ المثلى، مهما كانت مرهقة.
ثمّة ظروف مناسبة لـ«استنزال» اللقاء، لاستجلاب الصدف، ظروف كحالات البرارة أو النعمة، ولحظات الانفعال، بالإضافة إلى الحالات «الثانية» الأشبه بنصف نومٍ ونصف يقظة، إلى غير ذلك من الأمور الأكثر تركيباً. والانتظار هو الحالة المثلى.
■ ■ ■
فلنترك أمرنا للقدر كما يستسلم الشراع للريح. بين الإرادة والسهو منطقة غائمة وصافية، ظليلة وكاشفة: هنا تُنْسج مصائر وتُفَكّ مصائر، ترتسم أجوبة صاعقة عن أسئلة كانت تبدو يائسة من الجواب، وتُلبّى أشواقٌ مستحيلة.
هناك حضور خفيّ تنبعث إشاراته منك أنت، أو من خارجٍ متسامٍ، وفي الحالين يظلّ الهدف تحقيق انتصارٍ للخيال على طغيان الواقع. بل تحقيق انكشاف واقعٍ محجوب ومظلوم وراء سجوفِ الواقع الكاذب.
البحث عن هذا الهدف يجد رمزاً من رموزه في العمل على استنباط الحجر الفلسفي. لاحَقَ الخيميائيّون هذا الحلم طوالَ عصور واكتشفوا أن جوهرَ الشغفِ إنما هو المسعى. وقد سبقهم في الأساطير سيزيف الذي لم يتوقّف كلّ يومٍ عن النهوض بالصخرة التي كانت تعيده للتوّ إلى موضع سقوطه. حتّى أَلْأَمُ الواقعيّين، كماكيافيل، آمن بأن الصدفة تتحكّم في معظم تصرّفاتنا «تاركةً لنا تدبير القسم الباقي». الشغفُ هو المسعى، لا بل هو الحلم، وهو ليس تجهيز المختبر والأوعية بقدر ما هو القصد الذي يشرف عليها والفكر الذي يوحي للعدم أنه سيكون.
«القصيدة ـــــ يقول رونيه شار ـــــ هي الحبّ المتحقّق للرغبة المستمرّة رغبة». تعريفٌ ينسحب على الانتظار.
التعامل مع الحياة على أساسِ أنَّ لها عقلاً كالإنسان، تُراوغ وتُباغت، ولكنّها تبزّ الإنسان في حساباتها الباطنيّة وفي علاقاتها الدهريّة بالغيب. التعاملُ معها على أساس أنها تخضع لقوّةٍ أعظم منها، لمركزٍ تشعّ منه معطيات كثيرة، منها الحياةُ التي نعرف ومنها قوى وكائنات نجهلها وأحياناً بعضنا يحدس بها حدساً، وإذا أصغينا إلى لغاتها فإنما نصغي في الحقيقة إلى السرّي المغمور في طيّات ذواتنا.
■ ■ ■
وبعيداً عن أن يتعارض هذا الاهتمام بالغوامض مع ما نحسبه حرّيتنا أو سلطتنا الإراديّة، نجده يعزّز هاتين الحريّة والإرادة خلال توسيع أمدائهما توسيعاً كونيّاً وإحلال الإيمان بوحدة الوجود محلّ التشرّد المرعب المعزول في صحارى الوحشة الخرقاء.
يقول لوي سكوتونير، أحد ألمع الأدباء السورياليّين: «يجب أن نَخْلق ما يوجَد». المقصود هو إعادة إنتاج الوجود عبر المخيّلة الشعريّة واستناداً إلى الرغبة. لقد أوصل رمبو الإيمان بقدرةِ هذه المخيّلة إلى الأوج يوم قال: «إذا عاد (الشاعر) من هناك بما يرتدي شكلاً، أوجَد الشكل. وإن عادَ بما لا شكل له، أوجد اللاشكل». ولا تحتاج «من هناك» إلى شرح، فهي توجز كل ما حاولنا قوله في ما سبق، وتفيض.
■ ■ ■
أشعرُ بحرجٍ شديد، وأنا أعيد قراءة ما سلف، حيالَ هذا الانسلاخ عن هموم الصحافة السياسيّة، ولا أقول هموم الناس، فهذه في مكان آخر تجهله الصحافة فيما تحاول تمويهه وتضليله واصطناع بدائل منه. وأسوأ ما في هذا التضليل حُسن نواياه. أقول: أشعر بحرجٍ شديد. كتابات كهذه لا محلّ لها من الإعراب. إنها، كما كان يقال في النصف الأول من القرن الماضي، برجُ عاجيّة. رحمَ اللهُ رئيف خوري وسهيل إدريس وقبلهما عمر فاخوري، وسائر المناضلين وأهل الالتزام، أو الانضواء على لغة مجلة «الحكمة» وفؤاد كنعان. حَرَج، أقول، لكنّه سطحي، فأنا في قرارةِ نفسي أشعرُ بأنّي أقرب، بمداولة كهذه، إلى «الموضوع»، من السائرين مع الأحداث، حتّى الأحداث الأدبيّة والفنيّة. لم أعرف يوماً واقعاً أكثر حرارة من هذا الواقع الخَفيّ الذي تتحدّث عنه هذه السطور، وما كتبتُ كلمة إلّا من خميرته، ولا رأيتُ بعينيّ إلّا من بصيرته. إن قولاً مثل «الحياة الحقّة هي في مكان آخر» إنما يقع هنا، في ما يقع. لم يخطئ الشعراء ولا مرّة، بل لم يُصبْ غيرهم. وما ضحكُ «الواقعيّين» الصفراوي على «شرود» الشعراء غير تعبيرٍ عن عجز هؤلاء «الواقعيّين». وهو في صميمه بكاء. كلُّ بحثٍ خارج هذا النطاق، خارج هذا النطاق اللانهائي واللامحدود، هو تعميق للتيه، والانشغال بالاهتمامات التي يشغل بها السياسيّون والإعلاميّون الناس هو إدارة للعمى كي يزداد عماءً وللاستقالة من نفوذ الروح والفكر والخيال كي يسهل استغلال البشر أكثر فأكثر.
وليس الشعر المالك الوحيد لمفتاح التواصل بين الإنسان وقواه الخفيّة، بل كلّ ما ينتمي في الإنسان إلى الطبيعة الشعريّة، من دهشة الطفولة إلى شهوة الشيخوخة. السرّ هو في الشفافية.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد