مهرجان دمشق والحاجة إلى السينما
مرة أخرى تغمرنا عاطفة السينما. للسينما عاطفة كما للعطور رائحة.
ولمهرجان دمشق السينمائي عاطفته الخاصة به. تفرّدَ تقريباً، بقرار مشاهدة السينما في سوريا منذ أكثر من عشرين عاماً. وصرنا حين يأتي موعده لا ندري إن كان علينا معاقبته بمقاطعته أو ملاقاته بأشواقنا المتراكمة التي أحيانا تتغير صورتها الحقيقية لتصبح حاجة إلى اللقاء والتجمع خارج دورة اللقاءات في المطاعم والعشاءات والبيوت والمقاهي التي فيها نحكي لبعضنا البعض عن نتاجنا الفني والإبداعي. فمن يستمع إليك اليوم ستستمع إليه غدا. تكسَّرت الكثير من ملامح الحياة الثقافية في المجتمع. منذ سنين ونحن نتمنى استعادة طقس عرض الأفلام الجيدة، ولهذه الغاية بحّت آمال الجميع بالمطالبة بإصلاح صالات السينما وتأهيلها لشروط عرض دولية، عدا استثناء واحدا، أو اثنين، لم يتحقق ذلك !.
تفعيل الإنتاج الخاص والعام والمشترك بعيدا عن الخطابات والندوات وتدوير الكلام وتكبيره وتصغيره ليعني في نهاية القول: الحاجة إلى السينما التي من المفترض أن يكون المهرجان ذروة تجليات حياتها يوماً بعد يوم، وليس التجلي الوحيد لهذه الحاجة.
استيراد أفلام عالمية، لا أميركية تجارية أو هندية باهتة قديمة الإنتاج، كان أحد مطامحنا. حين قضت صالات السينما القليلة المتبقية في دمشق سنوات عجافا في تدوير مكناتها في عروض تلك الأفلام.
نحن قلعة الصمود ضد الغزو الثقافي، لم نستطع على مدى عقدين من الزمن إزاحة أفيشات أفلام العنف وإيحاءات العري برسوم بدائية والصور المركبة من أفلام تجارية مختلفة عن واجهات السينمات القليلة المتبقية في دمشق، والمضمحلة في غالبية المحافظات السورية. ولم نستطع في حال كنا سنبقي على هذه الأفلام، عرض نوعية أخرى بجوارها. هذه الأفلام لم تكن بأفضل من أفلام القطاع الخاص السورية التي تمّ تصنيفها بالتجارية والبعيدة عن الالتزام والجدية فتمّ التضييق على إنتاجها، لتنتهي تماماً.
تمّ تنسيق السينما الفرنسية والإيطالية والإيرانية والألمانية واليابانية والصينية والسورية.. وَ.. وَ ! من شباك التذاكر طوال الأعوام المنصرمة، نراها في مهرجان دمشق كعروض سينمائية 35 ملم أو على أقراص الـ د ف د المقرصنة أو في أسابيع سينمائية باتت نادرة.
العاطفة تحركني من البيت إلى صالة السينما.
ألتقي بشبابي، بذاكرتي، بطاقتي على الصمت في قاعة العرض، على التأمل، على الانتماء إلى الحوار ولقاء الآخر.
ماذا بقي؟
كان مهرجان دمشق ملتقى للسينمائيين العرب المخرجين والنقاد، من تونس والمغرب والجزائر وسوريا ومصر ولبنان وكانت الندوات سجالا غنيا هاما يحمل ثقافة أهل المهنة وريادتهم وجرأتهم واختلاف آرائهم، وكان الجمهور شريكاً في هذه الندوات والمثقف السوري وعشاق السينما أصدقاء هذه الفعاليات. كان مهرجان دمشق يعكس حلم السينما البديلة لكل السينمائيين العرب فصار هو بديلا للسينما. بقي من مهرجان دمشق حالته وضيافته وكرمه وترحيبه الحميم بالضيف وبضعة أفلام جديدة جيدة جابت بضعة مهرجانات وحطت رحالها عندنا فاحتفى بها جمهور الـ«سيني فيل». عدا ذلك تبقى الصالات رديئة السوية الفنية فاغرة شاشاتها في التظاهرات المتعددة التي تعرض أفلامها غالباً على أقراص الـ د ف د؟
لماذا تلك الحاجة لتكبير الحجم في حين أن الحقيقة متواضعة!. من سيعتب علينا إذا نحن قلنا: لعشاق فيلليني ينظم المهرجان مجموعة من أفلامه ستعرض من أقراص الـ د ف د في قاعة صغيرة متواضعة! نعتذر من الجمهور الكريم أن شروط العرض قد لا تليق به!.
المشكلة هي أن الجميع يعرف الحقيقة منذ أكثر من عشرين عاماً وحتى اللحظة، والجميع يعرف الحلول! ويبقى الوضع مهرجانا بعد مهرجان على ما هو عليه. لا توجد نقطة في بند الحلول لم تكتب وتناقش من قبل السينمائيين والممثلين وأهل المسرح بما يخصّ المسرح وأهل الشعر بما يخصّ الشعر (حين تمخضت احتفالية «دمشق عاصمة للثقافة العربية «عن أنطولوجيا مسخت الشعر السوري) والنقاد في كافة المجالات الثقافية والفنية الذين حرصوا على مدى عقود على رصد لبّ المشكلة عشرات المرات دون فائدة!. هل يتعب المرء؟ يصاب بالللاجدوى! بالإحباط!.
الحقيقة هي ابتعاد السينمائيين عن المهرجان وهي أن المهرجان هو للعرض وليس للسينما.
لن أرى أفلاماً قديمة تعرض على الـ د. ف. د. موجودة في معظم بيوت المهتمين بفضل القرصنة الرائعة التي تتيح لنا رؤية العالمي الجديد بليرات سورية قليلة وبنوعية ليست أقل جودة منها في صالات السينما حين تعرض أقراص الـ د.ف.د.
نحن معنيون بنجاح المهرجان، لكن شرط النجاح هو النتاج السينمائي وحرية وقدرة هذا النتاج على التفاعل الصادق مع الواقع وتطوير حس المتعة فيه والتذوق الجمالي الذي يتفاعل بدوره مع المتلقي رافعاً طاقة الوعي والجرأة في المجتمع أكثر. نحن معنيون بصناعة السينما، وإزاحة سقف الرقابات المستعار عن أفق الثقافة والإبداع وصون حريتنا كي لا تقع في مآزق النسبية وغضّ الطرف عن الحقائق والهروب من اتخاذ المواقف كمسؤولية وجود وليس كحالة عداء واصطفاف في خانة الآخر أو الآخر أو الآخر أو الأنا!. كي لا نقع في فخّ دبلوماسية الاحتفالات كأنّ الأمر ضيافة في المكان.
ما يعنيني هو نضال وجهد السينمائيين الذين صنعوا مجد السينما السورية بالأفلام القليلة التي أتيح لهم إنتاجها، والتي حازت جوائز عالمية وعربية، ومطالبهم التي تبدأ بالمجلس الوطني للسينما وصندوقه ولا تنتهي بالمطالبة بمعهد عالي للسينما في دمشق. ولا أعتقد أنه يمكن اختزال هذا الطريق الطويل بمجرد انتصار البهرجة في المهرجان. كيف ينتصر المهرجان السوري بعد هذا العمر من المطالبة بنهضة صناعة السينما دون صناعة سينما! بل بإنجازات سينمائية لا تتجاوز الفيلم الواحد في العام (يصيب أو يخيب). كيف ينجح بصالات عرض رديئة ! كيف ينجح بإلقاء مطالب للسينمائيين عمرها أكثر من ثلاثين عاما في سلة النسيان الدائم. الجواب يلطي لنا وراء الباب، حيث تدار المعارك الجانبية بديلا عن معركة السينما نفسها.
هذا نتاج تربية متينة صارمة تمّت فيها محاولة ترويض الفرد والمثقف بكل أنواعه وانتماءاته. هكذا يصبح المعترض شخصاً أنانياً لا يتفاعل مع الجماعة. ودائما التهمة جاهزة بأنه يتصرف من مصلحة ضيقة حتى ولو كان أفقها رحابة السينما!!.
هالة محمد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد