شــربل روحانــا فــي «دوزان»
كأنّما بدأ ينفض شربل روحانا عن أسلوبه اطّراداً ونمطيّةً عُرف بهما. ولعلّه أدرك مؤخّراً شوائب طرحه الهيولي الماضي. يخطّ اليوم أفكاراً قابلة للتشكيل والتطوير، رغم تراكبها واختلاطها. فبعدما هام في شوارع العود وأوتاره، أطلق أسطوانة «دوزان»، ليسترجع بعضاً ممّا أعطاه بدايةً. دَوَرانٌ يعيده إلى نقطة انطلاقه. رجوعٌ يتمثّل في خطواتٍ مستعادة، واعدة. وإذ يتخفّف، في عمله الجديد، من رؤى مطّاطة وأساليب متمغّطة أثقلت أغانيه وبعض تآليفه التوليفية السابقة، فإنّه ينأى، أيضاً، عن إسقاطاته الجاهزة، وعن توهّماتٍ مشوّشة غلبت عليه. يرتدّ إلى مشروعه الكتابي والأدائي الأوّلي والرئيسي. تكمن أهمّيته، عمقاً، في قدراته العزفية، وفي سعيه إلى توسيع آفاق العود على اعتباره آلةً مستقلّة لا يقتصر دورها على مرافقة الغناء الطربي، بل يتجاوز محدوديّة تلك المهمّة المؤطّرة والمكبّلة. هذا ما حاول بلوغه فعليّاً قبل أن يتخبّط في أوحال الغناء (أسطوانة «خطيرة»)، وفي مشاريع واهية طُبعت على مظاهر الدمج الشكلية وإشكاليّاته، (وأعني أسطوانة «مدى» على وجه الخصوص). أمّا «دوزان» الصادرة حديثاً عن «فوروِرد ميوزيك»، فعبارة عن عودةٍ واعية إلى خطّه الأساسي وملعبه اللذين اختلف بهما عن سواه بعلاماتٍ فارقة. الخطّ المذكور نموذجٌ خاص انطلق، أصلاً، من فكرة تحرير العود من قيودٍ تاريخية رُبط بها. والملعب فسحةٌ للجديد في التحرّك، واللّعب، والمغامرة بحثاً عن عودٍ آخر. يتشارك روحانا أحياناً، في الخطّ والملعب، مع كلٍّ من مرسيل خليفة، نصير شمّة، عمر بشير، سيمون شاهين، أندريه الحاج، ربيع أبو خليل، وأنور براهام، إلخ... رغم التباينات الجليّة التي تفرّق واحدهم عن الآخر، أو الآخرين. غير أنّ روحانا المسهم، جزئيّاً، في عملية إعتاق العود وعصرنته يبدو قريباً، في توجّهه ومقارباته، من وجهة مرسيل خليفة. ومع أنّه لم يصِب في كلّ ما أقامه وكتبه، أكان على مستوى المنهج الأكاديمي الخاص بالعود أم في ميادين التأليف والتلحين، إلاّ أنّ إصراره الفنّي وجدّية اشتغاله على أفكارٍ متشعّثة وصعبة التنفيذ والترجمة... أنّ إصراره وجدّيته يشيان بمدى التصاقه بتلك الآلة، ويرشحان ماء التقنية في الأصابع ومهام التنويط. تتمظهر نقاط التفاوت التي تفصله عن خليفة (مثلاً) في مواضع محدّدة ودقيقة، وفي مفهومٍ أكثر تطرّفاً، أو بالأحرى أكثر جنوحاً إلى الشقّ التكنيكي الصرف والمبالغات العزفية المبهرجة. أشركه خليفة عزفاً في كونشيرتو «جدل» (المكوّن من عودَي خليفة وروحانا، إضافةً إلى الرقّ والباص). واشترك روحانا في أمسياتٍ وأعمالٍ غنائية - موسيقية متفرّقة خاصة بمرسيل. قد لا تفي المقارنات الجامدة بينهما، ربطاً بالعود، بالحاجة والغرض النقديّين. لكن مَن يتتبّع روحانا في الخُطى والأعمال المتوالية بدءاً من «سلامات»، مروراً بـ«رباعي العود» الذي قُدّم في «الأسمبلي هول»/ الجامعة الأميركية في بيروت، وصولاً إلى «دوزان»... مَن يتعقّبه يكتشف مدى تأثّره بخليفة، وعلامات التشابه الضمنيّة الناتجة من هذا التأثّر. تأثّرٌ صيّره عاجزاً، في بعض الأحيان، عن تخطّي أسلوب خليفة الكتابي، وصِيَغه، وصوته، وكيفية معالجته لكمّ من الأفكار المترابطة والمتّصلة بالعود. أمّا إيجابيّات هذا التأثّر، فتبلورت في رؤيةٍ منفتحة ومفتوحة، حُكماً، على احتمالاتٍ أدائية وتأليفية كثيرة. يتبدّى ذلك في أَسطُرٍ مؤسلبة كُتبت للعود، خصّته، وتخصّصت في أبحاثه، وإمكاناته، وصائتيّته، وصناعته، وهامش تطوّره بالتوازي مع هوامش الآلات الأخرى، أغربيةً كانت أم شرقية، ومع متطلّبات كتابةٍ عصرية وتوزيعٍ حديث. وإذا أردنا أن نقابل بين «جدل» (خليفة) و«دوزان» (روحانا) - ارتكازاً على المشترَك ظاهريّاًً بينهما وإن بدا مموّهاً ومقنّعاً - قلنا إنّ قُطَب الجديد الخفيّة تبدو، للوهلة الأولى، مستلّة من خلفيةٍ واحدة وأبعادٍ متماثلة، عِلماً بأنّها جُسّدت في «جدل» أوّلاً. ولا بدّ من القول ههنا إنّ فكرة الحوار الجدلي بين آلتَين أو أكثر هي فكرةٌ غربية تبنّاها خليفة مقولباً إيّاها بما يتلاءم مع خصوصيّات العود. أي أنّ الفكرة التي استنبطها خليفة في «جدل» مشرّعاً، من خلالها، صيغة حوارية محكمة بين عودَين (بما تتضمّن من هارموني تُراعى بها حساسية ثلاثة أرباع الصوت) بدت وكأنّها تُستحضر مجدّداً في «دوزان».
كسر التقليد
استحضارٌ لا يُنفَذ إليه بسهولة إذ يمتصّ أصداء العود في «جدل»، ويتشرّب نتاجات روحانا السابقة، لتُفرّغ الحمولة اللّحنية (وليس التأليفية) في قوالب، ومحطّاتٍ، ووُصَل لا تنتسب إلى بنيةٍ معيّنة. هذا من الناحية الخارجية. أمّا عمليّاً، فقد جدّ روحانا في الحصول على مادّةٍ سمعية نظيفة ومختلفة عن مناخ «جدل» في النفَس، والوتيرة، والعصب، والشكل، والنوع. اختلافٌ طبيعي أخذ في التكوّن والتوضّح منذ دقائق العزف الأولى. وتختزل أسطوانة «دوزان» أفكاراً متنوّعة تكوّرت على مراحل متتابعة. يمكن اعتبارها، بهذا المعنى، «عصارة تجارب متعدّدة»، وفقاً لأقوال روحانا. وما كتبه مرسيل خليفة على الغلاف الداخلي للأسطوانة يعبّر، بصورةٍ أو بأخرى، عن واقع هذا العمل النازع إلى التجديد وكسر «التقليد المتحجّر». لكنّ الأعمال الفنّية لا تُقاس بالنوايا وبالنزعة إلى التجديد فحسب، بل بالجديد عينه الذي يعلن عن نفسه بنفسه. قد يكون جديداً فعليّاً مطابقاً لمواصفات الجديد، وقد لا. انطلاقاً من هنا، يمكن القول إنّ ما صاغه روحانا يشتمل على جديدٍ نسبيّ، وعلى قديمٍ مجدّد، وعلى جُمَلٍ تكرارية، معاً، وفي آنٍ واحد. واللاّفت في العمل يكمن في المهارات العزفية الخاصة بروحانا وإيلي خوري. يتبادلان الوظائف الأدائية والأدوار التكاملية آناً والكمالية آونةً. يتخاطبان في محادثةٍ دائمة التأرجح بين الخافت والقوي، الخفيض والحاد، البطيء حركةً وإيقاعاً وازدياد سرعة تدريجية أو فجائية. والتناقضات المومأ إليها أعلاه لم تكن مجّانيةً أو ناتئة. شكّلت روح العمل وديناميّة الصوت الموقّع والمزدوج غالباً. ازدواجية تقوم على ثنائي متمرّس يتألّف من عازفَين متكافئَين. دُوّنت حركتهما تبعاً لخطوطٍ مرسومة بدقّةٍ متناهية، رغم المَيل الكتابي، في صورةٍ عامّة، إلى اللاشكليّ الفالت.
«دوزان»
ترتسم في المقطوعة الأولى «دوزان» (4 دقائق و55 ثانية) ظلال نمطٍ عزفي حائر يبعث بدوره على ارتباكٍ ولُبسٍ في التصنيف. تنقّلاتٌ تحوم في فضاء الشرقيّ العام، والتركي، ونثار الأرمني، والعربي (مقام «البياتي»). أمّا صوت العود، فشفيف وعميقٌ كبئر. وفي الحديث عن قطعة «قبل الدوزان» (6 دقائق و11 ثانية)، لا بدّ من التنويه بالتقاسيم الارتجالية (أو المدوّنة على الأرجح) التي تخلّلتها، رغم شحوب التيمات الرتيبة، وعدم تميّز الكتابة الموسيقية في ما يتعلّق بالتوزيع والميلوديا. وفي مرورنا سريعاً بـ«كرمالن» (5 دقائق و56 ثانية)، نلحظ تقنية الرشّ الدافئة والجميلة Tremolo التي غلّفت القطعة، رغم الغمغمة ونوعيّة الصوت الناشفة والقاسية في الوضعيّات والطبقات العالية (على وتر الـ «فا»). أمّا «رجوع» (رقم 4)، وكما يبيّن عنوانها، فرجوعٌ إلى أفكارٍ خام كتبها روحانا منذ أكثر من عشرة أعوام. يقدّمها في أسطوانته هذه بصورةٍ مصقولة ومشذّبة، مع إضافة بعض اللمسات المزركشة والتعديلات الطفيفة تلازماً مع التوزيع والإطار الجديدَين. وما يجتذب المسامع في الأسطوانة يكمن في «حكايا» (5 دقائق و49 ثانية) المتضمّنة صبغة العود العربي التقليدي ورخامته، بعيداً من الفذلكة والتكلّف التقنيّين. وتجدر الإشارة إلى أنّ آلة الرقّ الإيقاعية داخلت العمل في مقطوعة «بسمة» (رقم 7).
لعلّ «دوزان» روحانا يفتقر، رغم جماليّاته وألقه، إلى «دوزنةٍ» من نوعٍ آخر على المستويَين التأليفي والتوزيعي. يعوزه قليلٌ من الهدوء، والتباطؤ، والخفّة. فالجديد مثقلٌ بالتيمات الميلودية المرصوفة، والمزدحمة، والمنمّقة، والمتشابكة. أمّا المطلوب، فمزيدٌ من الرقّة والبساطة أو التبسيط، لإزالة عُقَد العمل وتعقيداته. ويستلزم ذلك تبحّراً في ضرورات الكتابة والعود الجديدَين، بمنأى عن التفاصح التقني الاستعراضي. فالزخرفة، والبراعة الأدائية، ومعدّلات السرعة، وزحمة الجُمَل المتلاحقة... لا تمكن أن تغطّي ثغرات النصّ ووهن التناغم الهارموني.
هالة نهرا
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد