التواصل بين المتلقي والعرض في المسرح
يكشف السجال الذي شهدته النظريات النقدية الحديثة عن جدل طويل حول وجود التواصل أو عدمه في المسرح، على غرار التواصل اللغوي، ذلك لأن عملية التواصل تفترض تبادل الأدوار بين قطبيها بحيث يتحول المُستقبِل بدوره مُرسِلاً، وهذا ما دفع بعض الباحثين، وخصوصاً جورج مونان، إلى نفي وجود التواصل في المسرح كتبادل متناظر بين القطبين، وفي الاتجاهين، على الرغم من تلازم الوجود المادي للمُرسِل والمُستقبِل معاً، وتلازم التطابق الزمني لعملية الإنتاج المسرحي وإنتاج التواصل، على ما بيّن دو مارديني في دراسته حول التواصل، لكون المتلقي في المسرح ليس مُستقبِلاً يتحول مُرسِلاً، كما في مجال الحوار العادي. حتى عندما يبثّ بدوره رسالة، فإن رسالته تكون من طبيعة مختلفة عن الرسالة الأولى، إلاّ في حال المسرح القائم على مشاركة الجمهور بشكل فاعل كما في المسرح التحريضي، وخصوصاً بعض عروض بسكاتور، ومنها عرضه المسمّى "المادة 218" (العنوان يشير إلى قانون مدني ألماني يتعلق بالإجهاض) الذي نجح في إقامة حوار مع الجمهور حول هذا القانون، بل أحرز أيضاً تغييراً سياسياً. فقد شارك الجمهور في هذا العرض بتعليقاته، كما قدّم وجهات نظر معارضة للقانون، وفي نهاية العرض صوّت ضده. أدى هذا العرض إلى تظاهرات وشغب في الشوارع. وكان في مقدور بسكاتور استخدام العمال من جمهوره عنصراً في عروضه، وقد سمح لهم بالفعل بأن يكون لهم دور في الفعل الدرامي. وعلى الرغم من تأثر بريشت ببسكاتور، فقد نبذ هذا التحريك الهستيري للجماهير.
من أشكال المسرح القائم على مشاركة الجمهور أيضاً، مسرح الجريدة الحية الذي ارتبط استخدامه بظروف تاريخية محددة، استدعت التوجه المباشر إلى جموع كبيرة بهدف توجيهها إيديولوجياً من خلال تقديم أحداث اليوم في نهاية النهار على شكل استعراض كبير، كما هي الحال في فترة "كومونة باريس" 1871 وما بعدها، أو تقديم الأحداث الساخنة على شكل قراءة مقتطفات من الصحف، أو عرض مشاهد تمثيلية قصيرة بهدف إعلامي أو تحريضي، كما هي الحال في بداية الثورة الروسية، أو استقصاء الظرف الاجتماعي السياسي، وخلق فرص لمعالجته، كما حدث في الولايات المتحدة إبان فترة الإصلاح في الثلاثينات من القرن الماضي. وقد أفرز هذا الشكل المسرحي أشكالاً أخرى أهمها: المسرح الوثائقي الذي ظهر في الستينات خلال الحرب الفيتنامية، وعروض الهابننغ التي اعتمدت أسلوب التعامل المباشر مع الجمهور، ودفعته إلى التفاعل مع الأحداث.
في هذا السياق يرفض المنظّر المسرحي الفرنسي باتريس بافيس مقاربة نظرية المعلومات، وسيميولوجيا وسائل الاتصال للعرض المسرحي بوصفه رسالةً مكوّنةً من علامات صادرة عن خشبة المسرح لمتلقٍّ يجلس في مكان محلل الشفرات (وهو موضوع إشكالي بحث فيه كير ايلام بشكل تفصيلي)، ويصف هذه المقاربة بأنها مقيدة وزائفة لأن المسرح ليس وسيلةً ومصدراً للمعلومات المرسلة كما يحدث في الرسالة التلغرافية، كما أنه ليس وسيلةً لفظيةً ذات طبيعة نفعية، بل يظل خطاباً ميتاً من دون التناول التأويلي لعلاقة القارئ/ المتلقي. لذلك يؤكد بافيس عدم إمكان تطوير دراسات التلقي على أسس سيكولوجية، أو اعتبارات اقتصادية اجتماعية تقام من خلال المسح الشامل للجمهور المتلقي. فعلى الرغم من أن معرفة المؤثر الذي يستجيب له المتلقي، والمعايير الاقتصادية التي تجعله يصنع ذلك، مسألة لها أهميتها، فإن هذه البيانات الإحصائية الكمية لا تلقي الضوء على طبيعة العلاقات الإيديولوجية الجمالية التي تجذب انتباهه.
إن تلقي العمل المسرحي شيء مباشر ومفيد، ولكن بسبب طبيعة كون المتلقي مواجهاً للعرض المسرحي، ربما ينشأ تصور أن علاقته بالعرض علاقة خارجية ثابتة، أو أنه هدف لإشارات جاهزة صادرة من خشبة المسرح، في حين أن العكس هو الصحيح، إذ يجب محاولة إيصال هذه العلاقة إلى سيطرة تبادلية بين خشبة المسرح والمتلقي، سواء أكان التفاعل يحدث مع العرض، أم مع النص في الوعي غير الكامل للمتلقي، فلا يزال موقع المتلقي المواجه للعرض هو أهم شيء (أمام، في داخل، منفصل عن)، في حين أن العمل القائم على موضوع المعرفة هو الذي ينشئ العرض.
في ضوء ذلك يعدّ بافيس الحديث عن وسيلة اتصال بين المتلقي وخشبة المسرح، إساءة لاستخدام المصطلح اللغوي، فإذا كان المتلقي يستجيب الرسالة الصادرة من خشبة المسرح، والمحددة بنظرية المعلومات، ونظرية وسائل الاتصال، فما هي شروط الاستجابة؟ وكيف يحدث التبادل بين المتلقي والممثل إذا كان لكل منهما منطلقاته الخاصة؟ لكن بافيس لا يقدم إجابةً وافيةً عن هذين التساؤلين، بل يكتفي بذكر نقطتين تتسمان بالعمومية هما:
-1 انتقال القصة من خلال المنظومات الدلالية المختلفة.
-2 الحدث، بمعنى كسر الإيهام بين المتلقي والممثلين الذين تكون أجسادهم مثل الدعائم المادية للقصة (وليست القصة نفسها).
إذا كان ثمة أي تبادل بين المتلقي والممثل فإنه يحدث في أندر الأحوال (المسرح الحي مثلاً) حيث لا يقوم الممثل بأداء دور، بل يقدّم نفسه للمتلقي، ويتصل به على مستوى وجهات النظر حول فن الممثل.
ويعزو بافيس عدم قدرة سيميولوجيا وسائل الاتصال، التي تشغل نفسها بتشكيل العلامات المنقولة من العمل الفني، على حصر التبادل بين المتلقي وخشبة المسرح، إلى كونها لا تدرك هذا التبادل كعملية جدلية بين المتلقي وخشبة المسرح الواضحة تماماً أمامه. ويرى بافيس أن هذه المقاربة السيميولوجية تقطع الدائرة التأويلية، إذ لا يمكن إقامة تبادل مباشر (سواء أكان الفعل كوميدياً أم تراجيدياً) إن لم يشعر المتلقي بأنه قد أستثير من رؤية القيم والإجراءات الفكرية والجمالية، وبذلك تفشل في أن تتطابق مع إدراك المتلقي العادي لها، وتزعج أدوات الفهم عنه. فحينما يقوم بمشاهدة فاصل كوميدي لن يفهم شيئاً، ولن يضحك على شيء إن لم يواجه، هو بنفسه، خشبة المسرح ككل بمعاييره الذاتية، وشعوره بالتفوق على الشخصية الفجة الماثلة أمامه على خشبة المسرح، وفي الوقت نفسه تقويمه لهذه العلامة. من الواضح أن بافيس يتبنى في رؤيته للكوميديا هنا، نظرية نورثروب فراي، التي تذهب إلى أن القارئ، أو المتلقي، يرتفع، في المرحلة الخامسة من مراحل الكوميديا (يقصد بها الكوميديا التي يكون عالمها أشد إيغالاً في الرومنطيقية) فوق مستوى الفعل، ويراه من وجهة نظر عالم أعلى وأنظم.
وإذا كان آيزر قد رأى أن وضع المتلقي في موقع منفصل عن الأحداث يمكّنه من أن يرى نفسه كلاعب لشخصية كوميدية، وهو دور تدفعه إلى القيام به خبراته السابقة في المشاهدة، فإن بافيس يذهب، على العكس من ذلك، إلى أن وضع متلقٍّ ما في سياق متوحد مع الشخصية الكوميدية يخلق نوعاً من التبادل مع خشبة المسرح: إنسان يضع نفسه مكان الشخصية.
ويذهب المنظّر المسرحي الايطالي كير إيلام إلى أن المتلقين يفوّضون، إذا جاز التعبير، الممثلين على المسرح بمبادرة الاتصال، ويعقدون اتفاقاً يمنحون بموجبه هؤلاء الممثلين نسبةً مرتفعةً من النطق. ويملك هؤلاء المتلقون حق الانسحاب من الاتفاق لحظة يكتشفون أن الممثلين يسيئون استعمال المبادرة الموكلة اليهم. ويوضح إيلام، في هذا السياق، أن لرد فعل المتلقين تأثيره في العرض نفسه، وفي تلقيه معاً، فاتصال المتلقي- المؤدي يمكن أن يؤثر، في غياب أي تأثير آخر، في درجة التزام الممثل لعمله. ويحدد لهذا الاتصال، بوصفه عاملاً سيميائياً، ثلاثة تأثيرات رئيسية مهمة بالنسبة إلى تجانس الاستجابة الإجمالي، هي: الإثارة (الضحك في ناحية من القاعة يثير رد فعل مماثلاً في ناحية أخرى)، التثبت (يجد المتلقون دعماً لاستجابتهم من الآخرين)، والتوحد (يلاقي أحد المتلقين تشجيعاً فيتنازل، نتيجة لذلك، عن وظيفته كفرد، من أجل الانخراط في وحدة أكبر يعدّ نفسه جزءاً منها).
يعزو إيلام الارتباك الرئيسي الذي أثاره إنكار مونان للتواصل بين المتلقي والعرض، فضلاً عن السبب السابق، إلى تحديداته نفسها للاتصال، وللشفرات التي يعتمد عليها. فقد أصر على أن يكون المرسِل والمتلقي على حد سواء في وضع يسمح لأي منهما بأن يستخدم شفرةً واحدةً، ومجموعةً من القنوات المادية، ومن ثم بنقل رسائل متشابهة، في حين أن التصور الأشمل لعمل الاتصال، الذي يعدّه إيلام تصوراً مقبولاً بشكل عام اليوم، هو أن يكون المتلقي ملمّاً بشفرة المرسِل وكفى، لكي يصبح قادراً على فك شفرة الرسالة. في ضوء هذا التصور، يعتقد إيلام أن المتلقي المجرب إلى حد معقول يستطيع أن يفهم العرض بلغة الشفرات الدرامية والمسرحية التي يستخدمها المؤدون.
لكن على الرغم من اعتراض إيلام على وجهة نظر مونان، فإنه يأخذ التحدي الجريء الذي أثاره على محمل الجد، فهو ينبّه إلى صعوبة تحديد تعامل الممثل- الحضور. أكثر من ذلك، إلى خطورة اعتبار العرض لغةً مماثلةً للكلام مباشرةً، ومن ثم إلى خطورة اعتباره موضوعاً مناسباً لنماذج تحليلية مأخوذة مباشرةً من اللسانية.
يقترح إيلام نموذجاً للاتصال المسرحي يبيّن فيه، أولاً، أن العرض المسرحي يتسبب في تكاثر عوامل اتصاله، ففي كل مرحلة من مساره يبرز مركب من المكوّنات الكاملة أكثر مما يبرز عنصر فرد، وأن من الممكن، مثلاً، تعيين مصادر الإعلام المسرحي في الكاتب المسرحي، حيث يكون ثمة نص درامي يشكل ما قبل النص، ويكون في الوقت نفسه مكوّناً أساسياً للعرض. وأرى أن هذه الفكرة تتعامل مع النص بوصفه بنيةً عميقةً للعرض توجد فيه بذور الإخراج، الذي يمكن أن يكون بمثابة المكون التحويلي (بنية سطحية)، استناداً إلى النظرية التوليدية التحويلية في علم اللغة، كونه يُشتق من المكوّن الأساسي، الذي يشكّل تنظيماً للمسرحية على المستوى المجرد قبل حصول أي عملية تحويل تتوافر على معطيات العرض المرئية والسمعية التي تتمثل في البنى الإخراجية المضافة، أو المبتكرة، أو المستبدلة، أو المطوَّرة، أو المرجعية. ينتج من الجمع بين المكوّنين، الأساسي والتحويلي، مكوّن ثالث هو المكوّن التركيبي.
يضاف إلى مصادر الإعلام المسرحي، عند إيلام، كل من: المخرج الذي تحدد قراراته وتعليماته اختيار المرسلين إلى حد كبير، وكذلك الشكل الذي تأخذه إشاراتهم، وتشفير الرسائل، ومصمم الديكور، ومصمم الإضاءة، ومؤلف الموسيقى، ومدير المسرح، والتقنيين، والممثلين أنفسهم بوصفهم صانعي قرار، قادرين، ومبادرين، وموارد أفكار. ولا يمكن الاستغناء عن أيٍّ من هذه المصادر الممكنة التي تكون لها جميعاً تأثيراتها الكبيرة على العرض في أشكال المسرح الأكثر غنى، حيث تقوم أجساد الممثلين وأصواتهم فيه بدور المرسلين، في الدرجة الأولى، إضافة إلى خصائصها المجازية المجاورة كالملابس واللوازم الأخرى، ثم عناصر المجموعة التقنية، كالمصابيح الكهربائية، والآلات الموسيقية، وأجهزة التسجيل الصوتية، وآلات عرض الأفلام، وغيرها. ويجري اختيار الإشارة المرسلة وترتيبها بوساطة هذه الأجسام- حركات وأصوات ونبضات كهربائية- تركيباً على وفق نطاق واسع من العلاقات وأنساق الإشارة التي تنتقل عبر عدد من القنوات المادية الصالحة للاتصال البشري، من موجات الضوء والصوت إلى وسائط الروائح واللمس.
نتيجةً لتكاثر المكوّنات والأنساق في العرض المسرحي، يرى إيلام أن من المستحيل التحدث عن رسالة مسرحية مفردة، بل عن "رسائل متعددة تستخدم في آن واحد من أجل إنشائها قنوات كثيرة، أو ضروب كثيرة من ضروب استعمال قناة في الاتصال تجتمع في تركيب جمالي، أو إدراكي"، على حد تعبير المنظّر في الاتصال إبراهام مول. ويمكن المتلقي أن يفسر هذا المركب من الرسائل على أنه نص موحد بما يتفق والشفرات المسرحية والدرامية التي في حوزته، ويمكنه أن يقوم، أيضاً، بإرسال الإشارات صوب المؤدين (الضحك، التصفيق، والهمهمة...إلخ)، على طول قنوات بصرية وسمعية، والتي يمكن أن يفسرها كل من المؤدين والتلقين كتعبير عدائي، أو تقريظ، أو ما شابه ذلك. يطلق إيلام على هذه الإشارات تسمية "الفعل المرتدّ" الذي يُعدّ، إلى جانب الاتصال ما بين المتلقين، أحد المقوّمات المميزة للمسرح الحي.
لكن إيلام يستدرك، كأنه تذكر إنكار مونان للتواصل بين المتلقي والعرض، فيشير إلى بروز عامل أكثر تعقيداً في معظم أشكال المسرح، وهو كون اتصال المؤدي- المتلقي لا يأخذ شكلاً مباشراً (عدا ما يحصل مع المونولوغات، والأبيلوجات، والكلام على انفراد، والمناجاة) بل من خلال توسط السياق الدرامي، حيث يتوجه متكلم تخيلي إلى مستمع تخيلي، فما يجري إبانته أمام الجمهور هو هذه الحال الاتصالية الدرامية. في ضوء هذا الاستدراك، يلزم إيلام أي نموذج للاتصال المسرحي أن يأخذ في اعتباره التواء علاقة الممثل- المتلقي. وتحت عنوان "الإعلام في المسرح"، يقدم إيلام تمثيلاً مبسطاً لهذه الحال الاتصالية الدرامية، مؤكداً أن نموذجه يُعدّ مختزلاً وآلياً، غير أنه يخدم كشعار لخاصية التبادل الاتصالي المسرحي المتعدد المستويات. إن كل فعل اتصالي يتوقف، من وجهة نظره، على قيمة إعلام الرسالة. ويعرّف هذا الإعلام بأنه "معلومات تُعطى" حول أمر ما، ويسمّيه، وفق المصطلح التقليدي، إعلاماً دلالياً، بمعنى أنه يرتبط بمحتوى الرسالة الدلالي على نحو صارم، ويحدده كمجموعة من المعارف المعطاة في حال شؤون ما يجري الرجوع إليها. تعني مثل هذه المعارف في العرض المسرحي، عادةً، العالم الدرامي التخيلي الذي يقيمه التمثيل، ومن ثم يمكن أن يُشار إليها بالإعلام الدرامي الذي يتلقنه الجمهور في شأن جماعة من الأفراد، ومجموعة من الأحداث في سياق تخيلي ما.
إن هذا الإعلام قد يجري تقبله بوساطة أيٍّ من الأنساق المعنية، أو بوساطتها جميعاً، ذلك أنه يمكن أن يترجم من نوع رسالة ما إلى آخر وفق كيفيات العلامات المادية المعنية بذلك. يضرب إيلام مثالاً على ذلك، أن معلومة مثل "يهبط الليل" قد يجري إبلاغها بوساطة تغير الإضاءة، أو مرجع لفظي، أو إيمائياً كما في المسرح الشرقي. ويرى إيلام أن الفرجة المسرحية كانت قد قامت، تقليدياً، على أساس هذه الوظيفة الإعلامية، فالجمهور يتوقع، بشكل عام، أن يتلقى مجموعةً من المعطيات المتماسكة على نحو ما، وأن تثير هذه الأحداث المروية، أو المصورة، اهتمامه. لكنه يعتقد أننا لا نذهب إلى المسرح ليجري إعلامنا حول عوالم أخرى فقط مهما بلغ عامل المعرفة هذا من قوة. وكذلك نحن نستسيغ حضور مسرحيات نعرف محتواها الدرامي بشكل جيد، وأكثر من ذلك قد نعود، أحياناً، لنشاهد مرةً ثانيةً إخراجاً لمسرحية ما، لماذا؟ لأن اهتمامنا في مسرحية ما لا يستنفده اكتساب "المعلوماة المعطاة" الحالية، بل توحي بوجود مستويات إعلامية أخرى تعمل الرسالة المسرحية عليها.
على الرغم من أن المعلومة- العلامة محض تابعية في الإعلام الأولي، بحيث أنها تبقى متميزةً تماماً عن المحتوى الدلالي المنسوب إلى الرسالة، فإن الخصائص المادية للعلامات في المسرح، من وجهة نظر إيلام، لا تجري إبانتها من أجل ذواتها، إضافةً إلى أشكال تراكبها الصورية فقط، بل إنها تساهم، أيضاً، في إنتاج المعنى مباشرةً. وبذلك تصبح المعلومة- العلامة في المسرح مصدر الإعلام الدلالي تقريباً، مانحةً كيفيات الرسالة المادية القدرة على الدّل بالتضمّن (اكتساب العلامة، بفعل التلقي، دلالات إضافية "حافة" ذات طابع ثقافي وراء الدلالة الحقيقية) على سلسلة من المعاني الخاصة بها.
إن عمل علم الدلالة، بحسب هذا النموذج الاتصالي، يمتد إلى ما وراء الإشارة والرسالة والقناة ليطاول المرسلين الحقيقيين، ومصادر الاتصال في بعض العروض. فصوت الممثل وجسده، بوصفهما مرسلي إشارة، يصبحان ملائمين للنص في مادتيهما، إذ، على الرغم من كون مقام الممثل الشخصي، وصفاته الصوتية، وخصائص مزاجه عرضية بالنسبة الى الدراما، فإنها تساعد المتلقي في إدراكه، وتفكيكه لشفرات الرسائل. يضاف إلى ذلك ما يسمّيه إيلام بالمرسلين المصطنعين (التقنيات الفنية)، إذ يمكن أن يشاركوا كدلالات حاضرة بالتضمن في حد ذاتها. ويشير، في هذا السياق، إلى إصرار بريخت على ذلك في جعله مصادر الإضاءة مرئيةً في مسرحه ليتحاشى "عنصر إيهام غير مرغوب فيه"، وذلك من أجل توكيد المقدمات الإيديولوجية المضادة للبورجوازية للمسرح الملحمي. وكذلك إلى شيشنر، الذي دعا، بعد بريخت، إلى توسيع هذه الإيماءة كي تشمل تقنيي الإضاءة أنفسهم، وهم عادةً من بين مصادر إعلام "ما قبل النص" غير المنظورة، ليصبحوا، على حد قوله، "جزءاً فعلياً من العرض… وهم يرتجلون ويعدلون في استخدام ديكوراتهم من ليلة إلى ليلة". وأخيراً يشير إيلام إلى أن بعض المخرجين المعاصرين، مثل تاديوش كانتور، يظهر في إخراجه "كضابط" للتأثيرات الهامشية، فاضحاً، من ثم، دورها الظاهر (والنصي) كمصدر. لكننا نرى أن دعوة شيشنر إلى ظهور تقنيي الإضاءة في العرض (ولا ندري لماذا لم يقل تقنيي الديكور ليستقيم المعنى) غير مستساغة من الناحية الجمالية، لأن الأخذ بها يشوه العروض المسرحية، وثمة وسائل أخرى أفضل، جمالياً ودلالياً، لكسر الإيهام الذي يهدف إلى تحقيقه.
عواد علي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد