الثورة الفرنسية من خلال التصوير

11-06-2010

الثورة الفرنسية من خلال التصوير

عبّرت لوحة دوبلاسيس «الملك لويس السادس عشر بلباس التسقيف» عن إلهية السلطة الملكية وارتباطها العميق بالإكليروس. تلك هي رسمة آخر ملك حكم فرنسا. وربما تفسّر هذه اللوحة أسباب نهاية العهد الملكي. بالفعل، في هذه التحفة الفنية الرائعة، تشير الملابس الى حالة الرخاء التي كان يعيشها الملك بعكس الشعب الفرنسي الفقير. يرتدي الملك لويس السادس عشر معطف الفرو والمخمل المزيّن بأزهار الزنبق الذهبية، شعار الملكية الفرنسية. ونلاحظ الى جانبه التاج الملكي الذي كان الملك يتوقع أن يورثه الى إبنه لويس. بالفعل، إنه الملك - الإله الذي يحمل من جيل الى آخر نفس الاسم وكأنه يعتبر أن سلطته ذات طابع مطلق وأبدي. فهو لا يموت حتى لو مات، لذلك كانت الشعوب الباريسية الثائرة تعرض رأس الملك المقطوع على الجماهير كبرهان على وفاته ونهاية عهده. بالإضافة الى ذلك، لوحة «موت مارا» لدافيديمسك الملك بيده في اللوحة الصولجان الذهبي الذي يرمز الى السلطة. تندرج هذه اللوحة، التي توحي بتفرّد الملك بالسلطة، في خانة رسومات الملوك والنبلاء في حقبة ما قبل الثورة الفرنسية التي تتشابه كلها بملامح وتعابير وجوه شخصياتها. بالفعل، توحي معظم هذه اللوحات بالرقي والسمو، وبنوع من اللاواقعية أحياناً. إذ يبدو أن النبلاء والملوك ينعمون بالهدوء والراحة المطلقة، وكأنهم لا يعانون أبداً من أي انزعاج أو اضطراب. بالفعل، يشعر المرء الذي ينظر الى تلك اللوحات وكأن الزمن لا يمرّ على وجوه الأمراء والملوك. في هذا السياق، يحاول الرسامون أن يجسّدوا حالة التوق الى الكمال في نمط عيش النبلاء. وتظهر في هذه الرسوم وجوه الملوك والنبلاء متشابهة ببياض البشرة، عيون ذات نقاء ملائكي، فساتين وبذل أنيقة مزينة ومزخرفة بشكل رائع. هكذا، تعبّر هذه اللوحات بوضوح عن الرفاهية، بالاضافة الى جو يعكس روحية الدين المسيحي الذي يتوق الى النقاء المطلق في لوحات يطغى على جوّها النور الأبيض والأصفر. بالفعل، قلما نلاحظ في هذه اللوحات أثراً للعتمة أو الظلام، بل بالعكس تبرز فيها الوجوه والثياب وأثاثات القصور بتفاصيلها الدقيقة. إنما جاءت الثورة الفرنسية لتدمّر هذه الصورة. فيبرز في إحدى اللوحات وجه الملكة ماري - أنطوانيت بعد وفاة زوجها الملك وقبل الحكم عليها بالإعدام. تظهر الملكة في تلك اللوحة وكأنها في حالة من الانهيار التام، يصعب التعرّف عليها من شدة الأسى البادي على وجهها. تشير هذه اللوحة بلا شك الى نهاية النظام الملكي.
فن الثورة
وبالفعل، في آخر الثورة الفرنسية، استُبدلت هذه اللوحات بشرعة حقوق الإنسان التي أصدرها المجلس الوطني. وتبرز هذه الشرعة التي تتضمن 17 بنداً بين ملاك يرفرف بأجنحته وإمرأة تكسّر القيود لتعبّر عن طوق الشعوب نحو الحرية والعدالة. تنفصل شرعة حقوق الإنسان عن التقديس لتتواصل مع الحياة الواقعية مصدرةً قوانين ترتبط بالحريات وبحقوق المواطن. ونذكر من هذه القوانين: «إن حرية تبادل الأفكار والآراء هي إحدى الحقوق الأكثر عزّةً للإنسان: إذاً لكل مواطن الحق بالكلام، الكتابة والطباعة بحرية»، «تتيح لنا الحرية القيام بكل ما لا يضر بالآخرين». تعمّم هذه الشرعة عدداً من القوانين على الجماهير، ولا تنحصر بطبقة اجتماعية واحدة، وهي تتماهى مع أجواء اللوحات التي تبرز الشعب الفرنسي الثائر في المجالس. تتميّز هذه اللوحات بواقعيتها، وبكونها تظهر عدداً كبيراً من الناس. لا تقدّم لنا هذه اللوحات البياض النقي الذي يظهر في لوحات الملوك والنبلاء، بل هي بمعظمها ذات ألوان مستمدة من الحياة الحقيقية. ونلاحظ في معظم هذه الرسومات حركة وكأنها تنبؤنا بإمكانية وقوع حدثٍ هام. إذ أنها بالفعل ليست هادئة على الإطلاق، على عكس لوحات الملك والنبلاء التي تجسّد حالة من الجماد. كما أن اللوحات التي تجسّد الحركة الشعبية غالباً ما تعبّر عن السخط والغضب الذي كان يحرّك الشارع الفرنسي آنذاك. إذ أنها مليئة بالانفعال وتطغى عليها ألوان النار. هل هي نيران العنف؟ أو نيران الفكر؟ أو ربما كلاهما.
وبالفعل، لقد انطلقت الثورة الفرنسية من ردّة فعل على السلطة الملكية والطبقة الحاكمة الذي أدى غناها الفاحش الى توحيد صفوف الفقراء والبورجواية. وأهم الأسباب التي ولّدت الثورة هي الامتيازات الضرائبية التي كان يتمتع بها الإكليروس والنبلاء. نتج الظلم من كون الطبقات غير المنتجة هي الأكثر ثراءً. في القرن الثامن عشر، بدأت الطبقات البورجوازية والفلاحون تتطور على المستوى الاقتصادي، فباتت هي المنتجة الحقيقية. حاول الملك القيام ببعض الإصلاحات على المستوى الضرائبي، ولكنه فشل. عام 1788، ارتفع سعر الخبز ممّا أدى الى غضبٍ في الشارع الفرنسي. نُهبت مخازن القمح في الأديرة في 13 تموز من صيف 1789 وتشكّلت ميليشيا بورجوازية. في 14 تموز 1789، تسّلح الثوّار الباريسيون ووصلوا الى أبواب سجن الباستيل بحثاّ عن المتفجرات. آنذاك، كان الباستيل رمزاً للاستبداد الملكي. لذلك، اقتحمه أفواج الثوار، وكان لاقتحامه معنى تاريخي هام، إذ أنه حصن التسلّط. لذلك، تم إعلان 14 تموز كيوم عيد وطني في سنة 1880. ونعرض في هذا الإطار لوحة «الباستيل في أول أيام تدميره» للرسام هوبرت روبرت التي تجسّد أول لحظات انهيار السلطة المطلقة. شكّل فن هوبرت روبرت تعبيراً عن حياته، وهو الرسام الذي تمّ توقيفه خلال الثورة في تشرين الثاني 1793 واعتُقل في سجني سانت بيلاجيه وسان لازار. يبرز في هذه اللوحة الأسلوب الفني المثير والجذاب الخاص بالقرن الثامن عشر، بشكل خاص على مستوى تصوير أنقاض القلعة المهدومة. إنه سجن يموت. وقد شكلت الأبنية المدمّرة في حقبة الثورة الفرنسية مصدر وحيٍ لبراعة هوبرت روبرت الفنية. إنما لتدمير الباستيل مكانة هامة في رسم هذا الفنان المُبدع، بسبب ما يحمله من معانٍ تاريخية. وقد نجح الرسام بالتعبير عن البعد الملحمي بفضل اللعب على تقنية الألوان الفاتحة ـ المظلمة وتضخيم حجم البناء. إن تدمير الباستيل هو تدمير السجن، وهو ذلك السجن الذي يكبت عقل الشعب ويعيق تحرّره الفكري. كما يجسّد السجن العقاب الذي يخيف الناس ويسمح للملك بلعب دور الإله الذي يدين أفعالهم. هكذا، دمّر الفرنسيون الباستيل كي يتخلّصوا من فكرة العقاب، لأن الأفعال التي سيرتكبونها طيلة حقبة الثورة تستوجب تدمير فكرة العقاب الإلهية. فكيف لنا أن نقيّم أفعال شعب ثار على الظلم؟ في هذا السياق، نذكر الجملة الشهيرة التي لفظتها مانون رولان عام 1793 قبل أن يتمّ قطع رأسها: «أيتها الحرية، كم من جرائم ارتُكبت باسمك».
قطع الرأس
في الحقبة التي تلت تدمير سجن الباستيل، تمّ تأسيس المجلس الوطني الذي قام بسلسلة من الخطوات، فألغى حقوق الإقطاعيين لمصلحة المزارعين في 4 آب 1789. ومن ثم صوّت على المساواة على مستوى دفع الضرائب، فألغى بذلك امتيازات طبقة النبلاء. وفي 26 آب 1789، أعلن المجلس عن حقوق الإنسان والمواطن. وفي 12 تموز 1790، صوّت المجلس على التشكيل المدني للإكليروس. في 21 أيلول 1790، تمّ إعلان العلم الفرنسي بألوانه الثلاثة. كما تم الاعلان عن قانون يجبر رجال الدين على تقديم القسم للمجلس المدني في 27 تشرين الثاني 1790. وتم تأميم ممتلكات الكنيسة. بالإضافة الى ذلك، ألّف المجلس نظاماً برلمانياً، إنما ظلّ الملك يتحكّم بالسلطة التنفيذية. خلال تلك الحقبة، حاول المجلس أن يحافظ على توازن بين سلطة الملك وسلطة الشعب. ولكن الملك لم يتكيّف مع الوضع الجديد فحاول أن يفرّ الى فران مع عائلته، ولكنه لم ينجح إذ منعه الحرس الوطني من ذلك وأعاده الى باريس. وتمّ زجّه مع عائلته في برج الهيكل. في كانون الثاني 1793، تمّ إعدام الملك بالمقصلة أمام الجماهير التي هتفت: «تعيش الجمهورية!». يندرج في هذا المشهد سلسلة من الإعدامات، إذ أن قطع الرأس وعرضه على الجمهور يبرز في عدد كبير من اللوحات الفنية. وبالفعل، تمّ قطع 1119 رأساً في ساحة الثورة على غرار رأس الملكة ماري ـ أنطوانيت، مانون رولان، دانتون، روبيسبيار وغيرهم. هكذا، لم يكتف الشعب بقطع رؤوس الملك وعائلته والطبقة الحاكمة، إنما تمّ كذلك قطع رأس قادة الثورة. يبدو إذاً أن الثورة رفضت مفهوم الرأس الذي يشير برمزيته الى القائد. بالفعل، يشير قطع الرأس وعرضه على الجماهير الى الرغبة من التلخص من فكرة القائد. وغالباً، ما تربط الروحانيات التصاعدية صورة الرأس بالرمزية السماوية. فهل يرمز قطع الرأس الى تدمير السلطة السماوية المرتبطة بالسمو الإلهي؟ بالفعل، تخلّص الشعب الفرنسي من السلطة الدينية بشكل تام في 21 شباط 1795 حين أعلنت الجمعية التأسيسية عن حريات المعتقدات وفصلت الكنيسة عن الدولة.
إنما الصراعات لم تهدأ إثر إعدام الملك، بل زادت حدّةً وتعقيداً. بالفعل، بدأت المواجهات بين «الجبليين» و«الجيرونديين» الذين استولوا على السلطة في 15 آذار 1792. أما على المستوى الخارجي فقد أعلنت فرنسا الحرب على النمسا وبروسيا عام 1792. إثر نهاية هيمنة «الجيروندين» في 2 حزيران 1793، ظلّ «الجبليون» يحافظون على السلطة، فتولوا مع «الجاكوبان» مهمة قيادة الحرب الخارجية مع سائر البلدان الأوروبية. أما في الداخل، فقد ثارت «الفاندي» على سياسة الثورة المعادية للدين وألفت «الجيش الكاثوليكي والملكي». تبرز في هذا السياق لوحة الرسام جيروديه - تريوزن التي تجسّد «جنرال الفانديه جاك كاتولينو. يظهر الجنرال في هذه اللوحة في جو مظلم، ويبرز الصليب وراءه بشكل غير واضح يغمره نور خفيف وكأنه يوحي بأن الدين لم يعد له تأثير كبير. تعبّر هذه اللوحة عن حالة الضياع والتساؤل التي كان يعيشها الشعب الفرنسي آنذاك. عام 1793، انتفض الجنرال على الجمهورية تحت شعار: «من أجل الله، ومن أجل الملك». وشارك معه آلاف المزارعين من غرب فرنسا. فتمّ اختياره قائد «الجيش الكاثوليكي والملكي»، ولكنه لم ينجح في تحقيق أهدافه ولقي حتفه في نانت في حزيران 1793.
اغتيال مارا
هكذا، تمزّق الفرنسيون في الصراعات التي حمّلت شارلوت كورداي مسؤوليتها لجان - بول مارا، فطعنته في 13 تموز 1793. كان مارا يجسّد سلطة «الجبليين» الذين قضوا على «الجيروندين»، وهو الصحافي الموهوب «صديق الشعب» الذي يعي أهمية تأثير الصحافة على الرأي العام. كان يتكلم باسم القوى الثورية في باريس، ويدعو الى نشر الرعب للمحافظة على انتصارات الجمهورية. كورداي قتلته انتقاماً للجيرونديين ولأنها حمّلته مسؤولية انتشار العنف، فتمّ إعدامها بالمقصلة. تبرز في هذا السياق لوحة «موت مارا» التي رسمها جاك لويس دافيد عام 1793، وتمّ الاحتفاظ بها في متاحف الفنون الجميلة في بلجيكا. ويظهر في هذه اللوحة جان - بول مارا الثائر الفرنسي، وقد تمّ اغتياله وهو في منزله في 13 تموز 1793 على يد شارلوت كورداي. ويُبرز النقش على علبة خشبية بشكل حجرة القبر إهداءً الى مارا الذي كان يعرفه الرسام شخصياً وقد رآه عشية موته. يظهر جسد مارا مُحتضراً، رأسه ملفوف بعمامة وتتدلى يده اليُمنى المُمسكة بالريشة. جسد مارا مسنود إلى المغطس ويغطيه شرشف أبيض مُلطّخ بالدماء، ونلاحظ على رجليه السكّين المُلوّث بالدماء. هكذا، اغتيل مارا الذي يحمل لقب «صديق الشعب» واعتبر الثوار هذه الجريمة اعتداءً على الدستور الجديد، إذ كان مارا يمثّل الراديكالية الثورية لدى «الجبليين» الذين أبادوا «الجيرونديين» المتعاطفين مع شارلوت كورداي. هكذا، جعل دافيد من مارا رمزاً للحرية في هذا العمل الفني المُميّز. في هذه اللوحة، استخدم دافيد أساليب الفن النيو - كلاسيكي للرقي بالثورة الفرنسية الى مستوى الحدث التاريخي. وأظهر دافيد الناحية الواقعية من الحادثة من خلال الرسالة، المغطس الذي يغوص فيه مارا ليرتاح من مرضه والسكين المُلطّخ بالدماء. كما أنه مزج الناحية الواقعية بالمثالية والتجسيم في الرسم التاريخي من خلال عناصر كالنور المُنحرف، صندوق يزيّنه إهداءً وجسد بطولي عارٍ. وهكذا، رسخت صورة الثوري الذي لقى حتفه وهو يكتب المقالات في مغطسه في مخيلتنا. فماذا نتج عن الثورة الفرنسية؟ لقد غيّرت العلاقة مع السلطة، أو ربما دمّرت مفهوم السلطة المطلقة. بلا شك، ظل الظلم الاجتماعي موجوداً ولكن تمّ حل العديد من المشاكل. وانتهت الثورة الفرنسية بعد سلسة من الصراعات الداخلية والخارجية حين تولّى بونابارت الحكم في تشرين الثاني 1799 وحكم فرنسا طيلة 15 سنة.

منيرة أبي زيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...