لكل ليلاه:فيلم تلفزيوني يحتفي بالنساء
الجمل - نضال قوشحة : لم يكن موضوع الفيلم التلفزيوني لكل ليلاه جديد الطرح ، فهو عالج موضوعة العوالم الداخلية لفتيات خرجن حديثا من سن المراهقة وبدأن التعرف على عوالم الرجال بنجحاته ونكساته . وبالتاكيد لايشكل ذلك الخيار نقطة سلبية في الفيلم ، لأن الأفكارتتشابه غالبا ويبقى التألق محسوما بكيفية المعالجة ، ومثالنا على ذلك الفيلم الأمريكي الشهير كرامر ضد كرامر الذي عالج موضوعا طرق آلاف المرات قبله وهو انغماس زوج في عمله على حساب زوجته وبيته ، لكنه على يدي الكاتب والمخرج بينيتون والممثلين دوستن هوفمان وميريل ستريب حاز على العديد من الجوائزالعالمية ومنها الإوسكار وصار تحفة سينمائية في كلاسيكيات السينما الإجتماعية المعاصرة .
في القصة كتبت ديانا فارس نصا فيه الكثير من الشفافية والإقتراب من مساحات حارة في الحياة الإجتماعية في مجتمعنا وأوغل بعمق في حدث إجتماعي حار وساخن ، فرسمت بريشة مرهفة قصة ثلاثة صديقات يجتمعن في ناد رياضي لكنهن يأتين من خلفيات إجتماعية وذهنية شديدة الإختلاف . فندى \ رندة مرعشلي \ فتاة حالمة من بيئة متوسطة تعيش وحيدة مع والدها بعد أن فقدت أمها . الأمر الذي جعل والدها شديد التعلق بها لدرجة تفوق العلاقة الطبيعية بين أب وابنتة ، بحيث يمتنع عن السفر في مهمات عمل خارجية نتجية خشيته على إبنته . الفتاة الثانية هي رنا \ جيهان عبد العظيم\ التي تخالف تماما ندى ، هي ابنة أسرة مفككة غنية لاوالد فيها ، وأم تعيش حياتها الشخصية بعيدا عن أجواء أسرتها ولاتهتم بها . أما النموذج الثالث فتمثله هادية \ أناهيد فياض \ وهي فتاة محجبة من بيئة بسيطة فكريا وماليا ، متوازنة مع نفسها ومحافظة في ذهنيتها .
يبدأ الصراع في محاور القصة عندما تمهد ديانا فارس في مشهد إبتدائي هام سرد معالم شخوصها من خلال حوار يجمع الفتيات الثلاثة في حديثهن عن الحب الذي نتعرف من خلاله على الطبيعة الفكرية لكل منهن .
ولكن الصراع الحقيقي يكون عندما تنشأ علاقة ما بين عماد \ نضال نجم \ الذي هو حبيب ندى كما يفترض مع صديقتها رنا بمبادرة منها وبإسلوب ملتو. طبعا ستكتشف ندى العلاقة وتقوم بالمواجهة وينتهي كل شيء بشكل مفاجيء كما ابتدا .
شخوص العمل كانت حياتية واقعية نراها في تفاصيل حياتنا اليومية ، ويبدو جليا رغبة الكاتبة فارس في رسم لوحة فسيفسائية عن عوالم المرأة ما قبل الزواج وهي مرحلة دافئة ومتوترة في حياة كل أمرأة .
لم يحاكم النص أحدا ولم يتبن وجهة نظر فريق دون آخر ، الفتيات يمثلن تيارات فكرية ثلاثة ، رندة مسالمة حالمة تؤمن بالحب وتهب للحبيب الثقة وتفضل طريق زواج غير تقليدي بمعنى أن تجد فرصتها بنفسها ، أما رنا فهي الفتاة ذات العقلية الإنتهازية اللعوب التي تمتلك الجمال والمال فتجعلهما أساسا لنزوات ومغامرات مع عدد من الشباب المحيطين بها . هادية وهي الصديقة الثالثة تمثل حلا وسطا بينهما فهي ليست مع رنا في جموحها وكذلك لاتوافق ندى في طريقتها الذاتية وهي ترحب بالنظرية التقليدية في الزواج وبما يمكن تسميته خطبة الأهل .
مساحة العمل زمنيا لم تخدم بعض المحاور التي كان من الممكن زيادة حجم وجودها في العمل ، مثل والدة رنا \ تولاي هارون \ وكذلك محور علاقة عماد برنا الذي كان يحتاج لبعض الإيضاح في طريقة الوصول لبناء علاقة خطبة أولا و من ثم طريقة إنتهائها وأسباب ذلك .
إخراجيا تضعنا سهير سرميني منذ اللحظة الأولى في هاجس البحث عن اللقطة الأجمل ، ففي لقطة الإستهلال نرى مشهدية بصرية فيها قدر كبير من الجدة والجمال ، لقطة بمحور طبيعي بصريا ، تتحرك يسارا تصور جزءا من ساحة في دمشق ، ثم لاتلبث أن تصعد ببطي لنرى الساحة من زاوية جديدة لتستقرعن الحركة ثم تتابع بالإقتراب من مكان الحدث حيث الفتيات يتحاورن في الشارع وهن يمشين .
قبضت سرميني على روح العمل وعملت على إظهار الشفافية الموجودة فيه ، وتناغم ذلك بالضرورة مع جماليات بصرية عملت عليها وكانت متناثرة في لقطات الفيلم . فوجدت لمحات سرميني الإخراجية الجمالية في العديد من مراحل الفيلم بشكل متسق وبديع .
شيء آخر يحسب للمخرجة وهو عملها على ما يمكن تسميته حساسية الكاميرا ، ففي المشهد الذي تتصل فيه ندى بحبيبها مذكرة إياه بموعدهما على الغداء ، تبدو الكاميرا قلقة كما البطلة ، يتمظهر ذلك من خلال حركة الكاميرا الدائرية التي كانت تحوط بكلتا الشخصيتين وهما يتحادثان على الهاتف . هذه اللقطة وبهذه الطريقة نقلت للمتلقي حالة الفوضى والقلق التي تعيشها البطلة . وهذا تجاوب يحسب للمخرجة سرميني ويظهر وعيا خاصا باٍستخدام حقيقة اللغة البصرية في صناعة الأفلام .
في إدارة الممثلين لم تكن جهود سرميني متوازنة فظهر البعض منهم في صورة قلقة لاتخدم حقيقة المشهد نصا .
الفنان سليم صبري كان جديا بعمله تدرجت حالته النفسية صعودا وهبوطا وكان متناغما مع تواترات الشخصية ، الأمر نفسه مع علي كريم الذي كان دوره بسيطا أداه كريم بفعالية صحيحة . البطلة رندة مرعشلي بدأت بشكل قلق وغير مقنع ، وفي بعض الحالات كان الأداء باردا ، لكنها سرعان ما عوضت ، فالمتلقي سيعي تماما حجم الإختلاف بين بداية العمل ونهايته بالنسبة لها ، مشاهد رندة مع عماد في فترة تعارفهما الأول لم تكن مقنعة ولكن مشاهدها فيما بعد مع صديقاتها ثم مع والدها كانت أقوى وأدت فيها مشاهد حقيقية . وقد أثبتت مرعشلي من خلال لعبها الدور أن بإمكانها إنجاز المزيد مع خبرة مكتسبة لاحقا وخيارات موظفة .
أناهيد فياض لعبت دورا بسيطا ، لكنها كانت مقنعة وذات حضور قوي جاذب سيطرت على أدواتها ، وإيقاعها كان سريعا ، وهو تناغم في العمل بينها وبين المخرجة يحسب لهما . جيهان عبد العظيم كان دورها حبيس مستوى واحد لم تخرج عنه وقدرات التلون لم تتح لها فيه إلا في المشهد الختامي لها مع خطيبها والخادمة ، في كل الحالات أدت الدور بشكل صحيح ولو أعطى الزمن مساحات أكبر لها لظهرت الشخصية بشكل فاعل أكثر لما تملكه الممثلة جيهان من موهبة معروفة.
نضال نجم كان صاحب أداء متزن ، سار بالشخصية بشكل منطقي ، وأوصلها لحالاتها الإنفعالية بشكل موزون وبعيد عن التكلف .
في الموسيقى التصويرية كان عمل رعد خلف منسجما مع تيمة العمل ككل ، كانت موسيقاه ترجمة لدرجة إنفعال المشهد ، فتصبح أكثر توترا في المشاهد العنيفة وتسير باتجاه الرقة عندما يكون المشهد حساسا .
مدير الإضاءة \ عمار الحامض \ قدم جهدا خلاقا في العمل ووفق بتحقيق إضاءة متناغمة مع مشاهد المخرجة سرميني وصنعا معا هارموني جيد ، فالإضاءة لم تكن محايدة بل معادلا جماليا في رواية جزء من تفصيل الحدث .
الغرافيك لم يكن موفقا في العرض ،رغم الثواني القليلة التي نفذها ، وكان بمستوى اختفت فيه الملامح الفنية الجاذبة وبعيدا عن كونه معادل بصري لفكرة التغيير التي كان من المفترض أن يحملها فكان بسيطا لدرجة كبيرة بحيث سبب النفور .
لكل ليلاه فيلم يمثل تجربة جدية شابة في صناعة الدراما السورية . فعناصره الخمسة الأساسية كانت كلها نساء . من الكاتبة للمخرجة للبطلات الثلاثة وهي مصادفة جميلة يمكن أن تشكل حدثا يبنى عليه في تحقيق أعمال جديدة تحمل تفاصيل حياة النساء لعرضها على الجمهور الواسع ، كون الحديث عن المراة يكون في أصدق حالاته عندما تتحدث عنه أمرأة ، وضعتنا ديانا فارس في لجة حدث يعيش بين ظهرانينا ، بشكل متناسق رشيق جميل ، وترجمته سهير سرميني إخراجيا في عمل يحمل الكثير من الجهد البصري الخلاق الذي يحترم عقل المتلقي ويرقى به نحو درجة أعلى في تلمس حساسية الفن .
في هذا الإتجاه يبدو مثيرا للإهتمام - وبمناسبة تأسيس الهيئة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي المهتمة بالإنتاج التلفزيوني - أن يتم التنسيق لإنتاج مزيد من الأفلام التلفزيونية التي سيضفي إنتاجها على حركة الدراما السورية مزيدا من التألق عبر الكشف عن مزيد من الطاقات الفنية من كتاب ومخرجين وفنيين ومدراء إنتاج . ولعل فيلم لكل ليلاه عينة من الجهد الفني الراقي والممتع الذي يمكن أن نراه فيما لو أتيح العمل على زيادة الإنتاج في هذا المضمار .
الجمل
إضافة تعليق جديد