عصام درويش يتحدث عن لعبة تسويق اللوحة في سورية
* لقد واكبت صالة عشتار الحركة الفنية التشكيلية السورية في دمشق منذ نهاية الثمانينات وحتى الآن، كيف تنظر إلى هذه التجربة وكيف تقيمها؟ 
صالة عشتار هي جزء من سلسلة صالات العرض الفنية في سورية والتي بدأت مع صالة الفن الحديث العالمي لمحمود دعدوش عام 1960. وأنا افتتحت صالة عشتار في عام 1987 بعد شهرين من افتتاح صالة أورنينا لحكمت شطا، وفي الحقيقة تميزت تلك الحقبة بنشاط ملفت على صعيد إنتاج وعرض وتسويق اللوحة التشكيلية السورية. لقد أقام معظم الفنانين التشكيلين الشباب آنذاك، والذين يمثلون الصف الأول للتشكيل السوري المعاصر الآن، معارضهم الأولى هنا، مثل نذير إسماعيل وسعد يكن ونزار صابور ومصطفى علي والقائمة طويلة كما أقيمت معارض هامة جداً للرواد «نصير شورى، فاتح المدرس» والقائمة طويلة أيضاً لقد كان وجودها مهماً جداً على المستوى الثقافي أولاً وعلى المستوى التسويقي ثانياً ومن الملفت أنه كان هناك ازدهار أيضاً على صعيد اقتناء الأجانب وخصوصاً الدبلوماسيين العاملين في سوريا اللوحة التشكيلية السورية لقد كانت بالفعل فترة مميزة وجميلة.
* ولكن مع ظهور صالات عرض حديثة تواكب شروط العرض العصرية، كما أنها تنطلق في آلية عملها نحو العالم أكثر. ألا تجد أن العمل وفق منطق الثمانينات من القرن الماضي أصبح بحاجة إلى تحديث أيضاً؟
نعم التحديث أمر ضروري وصالة عشتار كان لديها سياسة واحدة منذ بداية عملها وحتى الآن، لكن ظهرت مؤخراً تطورات جديدة تدعو للتفكير والعمل وفق آليات ومعايير جديدة، ولكن من الضروري جداً المحافظة على المبادئ التي أقيمت وفقها الصالة والتي تتمثل بلطف التركيز على الجانب الثقافي، البحث الجدي عن المواهب الجديدة التفكير بعدالة تجاه الفنانين وتقديم المساعدة لهم بشكل ما، البحث عن حلول بديلة لا تحتاج إلى أموال طائلة لتنفيذ رؤى أو مشاريع فنية، ولكن بالتأكيد هناك حاجة إلى تحديث وإلى البحث عن أسواق جديدة.
*ما الذي جرى مؤخراً على صعيد الحركة الفنية التشكيلية السورية في السنوات القليلة الماضية، هل هذا الحراك أنتجته ظروف ناضجة على المستوى الفني والعام أم أنه نتاج طفرة أو ظاهرة آيلة للتبدل أو الزوال؟
برأي الشخصي هناك ترابط ما بين ظهور مقر مزاد كريستيز في دبي وبين ما حدث هنا في سوريا، ففي الوقت نفسه الذي بدأت به ظاهرة احتكار الفنانين بسوريا ظهرت كريستيز بدبي، ودخلت إلى سوق الفن السوري استثمارات بكتل نقدية ضخمة وافتتحت صالات جديدة وتم جمع كتلة الأعمال الفنية الرئيسية لفنانين تم احتكارهم وللرواد ووضعت بالمستودعات. بعد ذلك أخذ عمل كل فنان تم احتكاره إلى مزاد كريستيز في دبي ووضع في المزاد ثم تم شراءه من قبل من وضعوه في المزاد بهذا الشكل أو ذاك، بالتالي حصل رفع لقيمة المقتنيات المكدسة من هذه الأعمال إلى مستوى أكثر بكثير، وهذه بالمناسبة طريقة للتسويق معروفة عالمياً، ولكن الناس لم يتمكنوا من فهم ما حدث، بل ظن معظمهم أن هناك لغزاً ما جعل قيمة اللوحة الفنية السورية تقفز فجأة عشرات الأضعاف.
على العموم، كان لوضع هذه الكتلة النقدية الكبيرة في سوق الفن هنا فوائد كبيرة ومهمة خصوصاً على صعيد تحسين وضع الفنانين أنفسهم، الشباب منهم خصوصاً، كما أنه أتاح لمتابعي الفن التشكيلي الحصول على مطبوعات جميلة وقيمة عن هؤلاء الفنانين وعن أعمالهم، كما أنها رفعت قيمة اللوحة الفنية نفسها، سواء للفنانين الذين احتكروا أم لغيرهم، وظهر اسم سوريا كبلد مهم على هذا الصعيد.
ولكن بعد كل هذا البرنامج التسويقي الملفت نأتي إلى العمل، أي إلى بيع اللوحة ذاتها، هنا ظهرت مشكلة كبيرة وهي إعراض المقتنين السوريين عن شراء اللوحات الفنية لأنه أولاً ارتفعت قيمة هذه اللوحات كثيراً وقاربت نسب ارتفاعها بين ليلة وضحاها ما يفوق أحياناً الـ 2000% وهذا أمر غير منطقي وغير عقلاني على الإطلاق، وإذا «بيعت» لوحة لفنان سوري شاب في مزاد كريستيز بـ 60000 دولار فإن هذا يجب أن يعني أن قيمة لوحة لفاتح المدرس أو لنصير شورى أو لمحمود حماد يجب أن تكون بـ 10 مليارات ليرة سورية وهذا أمر جنوني. إذن كل هذه اللعبة التسويقية الذكية والممتازة عندما تحكمها المبالغة فإنها تطيح باللعبة كاملة وهذا ما يحدث اليوم، هناك جنون خطير في سوق الفن السوري، والآن هذا الأمر انعكس ليس فقط على الصالات الجديدة وإنما أيضاً على الصالات القديمة، لأن المقتني لم يعد لديه ثقة بهذه السوق، الآن لدينا مشكلة كبيرة بهذا الشأن وسببها الأساسي برأيي هو إتباع سياسة غير متوازنة من قبل بعض المشتغلين بهذا المجال، وأنا أعتقد أننا سنحتاج لاستعادة سوق الفن السوري لعافيته، والانتقال من سوق «اللعبة» إلى سوق «الجدية».
*هل أثر ذلك على جوهر الفن التشكيلي نفسه أي على قيمته الفنية ومستواه؟
سمعت كثيراً أن بعض الفنانين الشباب في تلك الصالات خضع لتوجيهات «فنية» تتعلق بشروط غير فنية تحت عنوان زائف يقول أن هذا الفن يبيع وهذا الفن لا يبيع، وهذا شيء غريب وجديد أيضاً على عن الفن ذاته، وهو بالتالي يذهب بالفنان وبإنتاجه إلى أماكن على الأقل غير فنية. والنقاش اليوم الذي يدور بين الفنانين أثناء المعارض الفنية هو كم لوحة بعت أو كم سعر لوحتك، وهذا نقاش متدن وسخيف وأنا آمل أن يتغلب الاعتبار الفني على أي اعتبار آخر.. أرجو أن لا يفهم من كلامي أنني ضد بيع اللوحة وضد تسويقها، فأنا أعمل في هذا المجال منذ 23 عاماً، ولكن يجب أن نتذكر دائماً أن اللوحة وبرغم كونها سلعة تباع وتشترى فإنها تحمل أيضاً مواصفات ثقافية مهمة ويجب أن يراعى هذا التوازن بين كونها سلعة وبين كونها تمثل بعداً ثقافياً وعاطفياً وحضارياً الخ..
ومن النتائج السلبية لهذا التوجه السائد اليوم في الوسط التشكيلي هو الانقسام الحاد بين الفنانين أنفسهم لأن البعض منهم أصبح يعتقد أنه أهم من الآخرين لسبب واحد هو أن لوحته أغلى أو أنه محتكر وهذا شيء خطير أيضاً وأنا أود أن أطلب من الفنانين بهذه المناسبة أن يحتكم كل منهم إلى ضميره وأن يتصرف كفنان حقيقي أي كحساس ومبدع ومتواضع، وأود الإشارة هنا للدعابة أننا تعلمنا عند دراستنا لتاريخ الفن في كلية الفنون أنه للأسف لا يوجد تطابق بين الفنان وبين إنتاجه، بالتالي فإنه يمكن لفنان غليظ أن ينتج لوحة جيدة ويمكن لفنان حلو أن ينتج لوحة سخيفة..
وأخيراً من إرهاصات هذه الفورة الجديدة هو ظهور محاولات لإعادة تعريف المثقف.. ولكن من المعروف أن المثقف هو الشخص الذي لا يهتم باليومي فقط ولكن له اهتمامات أخرى تتعلق، بالبعد التاريخي والسياسي والاجتماعي لوجوده وهو بالتأكيد ليس الذي لديه المال وأتيحت له الفرص ليجول العالم، كما أنه ليس ذلك الذي يقضي جل وقته في المقاهي وينّظر فقط. إن تقييم الآخرين وفق مقياس التسويق هو تقييم سطحي تماماً كما أعتقد.
* هل تعتقد أن للثقافة بشكل عام وللفن بشكل خاص دور ما في مجتمع يشكل الهم المعيشي اليومي واحداً من أهم همومه؟
انظر إلى التاريخ القديم عندما كان هم الإنسان الرئيسي اصطياد الحيوانات ليأكلها أو للهروب منها كيف كان يحفر على سلاحه الرسوم وكيف يرسم التعاويذ على جدران كهفه هذا فن أيضاً، وهو فن وجد في ظروف أقسى من ظروفنا الحالية بما لا يقاس وأنا أرى أن الفن لن يكف عن إلهام الناس حتى بأسوأ محنهم وبالتأكيد في بلادنا الفن جزء من الثقافة وسيبقى كذلك.
حوار مهند جزماتي- يوميات ثقافية
إضافة تعليق جديد