غسان الرفاعي: ماري أنطوانيت وبريجيت باردو والمجتمع المخملي
ـ 1 ـ طفت على سطح المطارحات الثقافية الساخنة - المتزامنة مع احتفالات 14 تموز، ابتهاجاً بذكرى الثورة الفرنسية - كشوفات محرجة جديدة عن الملكة التعيسة ماري انطوانيت التي تدحرج رأسها على المقصلة، بعد أن أقدمت أميركية مولعة (بالهوس التاريخي) على اخراج فيلم عنها، امتاز بسوء الفهم، والحذلقة! وقد أعيد عرضه مجدداً في صالات باريس، هذا الأسبوع، فقوبل بالتصفير والتصفيق معاً.
تذكر (المثقفون الموسميون) فجأة، النمساوية (الشريرة) التي التحقت بالبلاط الملكي في فرساي عام 1770، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، كجزء من (صفقة رابحة)، عقدتها أمها الطاغية (ماريا تيريزا) النمساوية، مع الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، الذي كان جد (العريس) الذي قُدر له أن يعتلي عرش فرنسا باسم الملك لويس السادس عشر، كما قُدر له أن يعتلي منصة (المقصلة)، بعد أن حكم عليه بالإعدام من قبل (زعماء الدهماء).
لقد اختارت المخرجة الأميركية أن تركز على حياة ماري أنطوانيت الخاصة في قصر فرساي، ولم تبرز من روتينيات حياتها إلاّ الطيش والبذخ والاستهتار، والغطرسة، والولع بالثياب الباذخة، والقبعات المزركشة بريش الطواويس، والفراء الأبيض، وممارسة الطقوس الملكية في فرساي، (المرهقة للأعصاب)، واحتقار (الدهماء)، ما سبب لها انها أجابت بسخرية على من قرأ لها فقرة من منشور ثوري، يتحدث بمرارة عن الجوع الذي يفتك بأطفال الفقراء، وعن فقدان الخبز من الأفران: (ولماذا لا يأكلون البسكويت، عوضاً عن الخبز، هؤلاء الحمقى!).
أصرّت المخرجة الأميركية التي استهوتها أجواء قصر فرساي على أن تسجن ماري انطوانيت، الشابة الساذجة، الدلوعة، والغارقة في فقاعات سحرية من اللهو والعبث والفسق، متناسية ان هذه (النمساوية) المستوردة قد أثارت شهية المؤرخين، ليس بسبب حفلاتها (المجنونة)، ولا بسبب تبذلها في الملبس والتمكيج، وإنما بسبب الدور الذي لعبته في ثورة دموية، قلبت موازين القوى، وفتحت أبواب (تمرد عالمي) لا تزال آثاره ثقيلة حتى اليوم.
ـ 2 ـ
(المثقفون الموسميون) الذين يصطادون المناسبات لإفراغ حمولتهم من (الفانتازيا الفكرية) متضايقون من تقديم ماري أنطوانيت بهذا الشكل الفاجر، عاتبون على المخرجة الأميركية صوفيا كبولا التي جردتها من فضائلها الحميدة، علماً أن الجمهور الفرنسي، مجمع هذه الأيام، على التعاطف مع هذه المرأة (البريئة) التي اتهمت زوراً وبهتاناً بالطيش والغطرسة، على الرغم من أنها كانت - كما اثبت المؤرخون فيما بعد - تذرف الدمع حين رؤية طفل يتألم، أو امرأة معذبة، بل إنها كانت تدفع (سراً) شهريات إلى بعض الأسر، لمساعدتها على العيش بهناءة ويسر.
ـ 3 ـ
ويطرح هؤلاء المثقفون عدة قضايا جادة، مرتبطة بـ ماري انطوانيت (ضحية الجهل والكراهية والتعصب)، وفي مقدمتها (الجريمة السياسية عبر التاريخ)، وكما يقول جان دومرسون، عضو الأكاديمية الفرنسية: لا يشك أحد الآن في أن ماري أنطوانيت كانت بريئة، ولا علاقة لها بامتيازات النظام الملكي، ولا بتجاوزات المقربين من البلاط، وقد سيقت إلى المقصلة، وكأنها مسؤولة عن الجوع والاضطهاد في فرنسا، وقطع رأسها، ولكنها ظلت محافظة على رباطة جأشها وشجاعتها، وقالت قبل هبوط المقصلة على رقبتها: (أسامحكم، وأغفر لكم، أنا أفهم غضبكم، وأطلب من الله أن يعفو عنكم..).
وقد يكون المطلوب من المثقفين العرب، وهم يستعرضون التاريخ المعاصر، أن يرصدوا سجلات (الجريمة السياسية) لاكتشاف طوابير من الأبرياء الذين أُعدموا، أو قتلوا، أو اغتيلوا، ولم يكن لهم ذنب إلا التمسك بمفهوم خاص للوطنية، قد لا يقبل به الجميع، ولعل الشعور بالذنب، عبر التاريخ العربي والإسلامي، مازال المحرض لكثير من النزاعات والخصومات التي نعيشها هذه الأيام، ولم ننجح في تجاوزها، على الرغم من كل النداءات إلى التسامح والتغاضي والتناسي.
ـ 4 ـ
ويثير (المثقفون الموسميون) مفهوم (المواطنة) التي برزت في نداءات وشعارات الثورة الفرنسية، فقد كان الشائع قبل الثورة فرز المجتمعات إلى هويات مختلفة، ومتباينة: طبقة الأشراف مقابل طبقة الدهماء، والأغنياء، مقابل الفقراء، والملاك مقابل الأجراء. ولكن الثورة الفرنسية طرحت (المواطنة) التي تشمل كل الفئات، والطبقات والتكتلات، ومازالت هذه (المواطنة) تمنح لكل المنتمين إلى وطن واحد، وما عاد من المسموح به بعد الآن إسقاط هذه المواطنة عن البعض بسبب مواقفهم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وقد يكون من المفيد التذكير بما قاله أحد القضاة الثوريين بعد أن أعلن صدور الحكم بالإعدام على ماري انطوانيت قال بكبرياء: أمنح ماري انطوانيت صفة مواطنة فرنسية قبل تنفيذ حكم الإعدام فيها، هذا حق من حقوقها المشروعة..!.
ـ 5 ـ
وترافق حملة (إعادة الاعتبار) إلى ماري انطوانيت العودة إلى إظهار (محاسن المجتمع المخملي) الذي كان يتحكم بالشأن العام، ضمن طقوس وتقاليد، أعطت للحكم هيبته، خصوصاً بعد أن أثبتت فضيحة المليونيرة العجوز بيتانغور التي كانت توزع الهدايا المالية في ظروف مختومة إلى رجال السياسة والصحافة لتنفيذ تعليماتها، أن المجتمع المخملي مازال له حضوره الكثيف، على الرغم من كل التطورات التي شهدها المجتمع الفرنسي، بل إن الرئيس ساركوزي بالذات - كما جاء في اعترافات محاسبة المليونيرة - قد تلقى مظروفاً بمبلغ /150000/ يورو، لتغطية حملته الانتخابية، ومما أدهش (المثقفين الموسميين) أن المليونيرة كانت توزع ظروفها المختومة إلى رؤساء تحرير الصحف، وترسم لهم الخطوط الرئيسية لافتتاحيات صحفهم.
ـ 6 ـ
أثارتني مقاطع مختارة من كتاب (بريجيت باردو) الحديث (صرخة وسط الصمت) بسبب (وقاحته الجنونية) كما قال برنارد بيفو أهم معلق على الإصدارات الجديدة: كانت بريجيت باردو نجمة المجتمعات، حينما كانت تتمخطر، بأنوثتها الصارخة، ولكنها أصبحت مخزوناً للحقد والكراهية، بعد أن قضمتها الشيخوخة، وتركت بصماتها على بشرتها البضة، لم تعد تجد الدفء العاطفي إلاّ لدى الحيوانات، وخاصة لدى الكلاب والقطط.
لا تكفي هذه العجالة للحديث عن كتاب باردو الشيطاني، ولهذا، سأقتصر على إيراد ثلاثة مقاطع منه تظهر فداحة المشاعر التي تزخر بها قلوب ممثلي المجتمع المخملي، بعد إحالتهم إلى التقاعد:
ھ ( لم يتحمل الكثير من الناس ما قلته للممثل ميشيل بيكولي في فيلم الاحتقار الذي أخرجه غودار عام 1963، قلت له في أحد المشاهد: (يا ثقب القفا، يا داعر، يا دار بغاء على ساقين!) ماذا يقول الناس الآن إذا قلت لهم إنني أتوق إلى أن استخدم ذات الألفاظ، وأنا أشاهدهم في الشوارع، والمحلات والمطاعم. لم أعد أحتمل منظر الفرنسيين، وهم يرتدون بناطيل الجينز الممزقة، وأحذية الكاوتشوك، وقد طالت لحاهم، وخاصة رائحتهم الكريهة، أهؤلاء هم أحفاد الغولوا؟).
ھ ماذا يفعل هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين في الكنائس الفرنسية؟ إن منظرهم الكئيب، بأسمالهم القذرة، وأطفالهم وهم يبكون ويصرخون، ونسائهم المسطحات والقميئات؟ إنهم يريدون الحصول على الجنسية الفرنسية، أهكذا قدر علينا أن نحمل هوية واحدة مع هؤلاء؟ وأن ننتمي إلى حضارة واحدة معهم؟ وإذا لم يكن هناك مفر، فاسمحوا لي أن انتحر، وأن أحفر قبري بيدي!.
ھ (أصبح أدبنا الحديث استفراغاً لهواجس الشاذين والمرضى، إنه دار بغاء لعرض الغثاثة والانحطاط... يخطر على بالي أحياناً أن استفرد بأحد الأدباء المشهورين، لأبصق على وجهه..).
ـ 7 ـ
لا أدري كيف استقرت تقاليد (المجتمع المخملي) في الوطن العربي، ولا مواصفات المرشحين للانتساب إليها، ولا شروط الصعود والارتقاء فيها، إنها مزيج هجين من التقاليد العثمانية، القائمة على الغطرسة والتعالي السلطوي، أولاً، وطرز المعيشة (الاستعمارية) في اللباس وآداب اللياقة، والانتفاخ الوجاهي، والتمسح برموز السلطة، المنحدرة من أيام الانتداب ثانياً، وسلوكيات التورم التي يفرزها الارتباط بأجهزة الأمن ثالثاً. وتعيش هذه المجتمعات في جزر اسمنتية معزولة، تقيها المد والجزر، وتبعد عنها المتطفلين، وتجار الفضائح، وتقيم حولها سواتر صفاقا من السرية والكتمان، بحيث يتعذر رؤية ومعرفة مصادر ثروتها وقوتها وسلطانها.
ـ 8 ـ
المفارقة المضحكة والمبكية في آن واحد هي في ازدواجية سلوكها: فهي - إذا ما نظر إليها من الخارج - تبدو متزمتة، محافظة، مفرطة في ترفعها الثقافي المزور، وهي - إذا ما نظر إليها من الداخل - متهتكة، متخلفة، تلتف حولها نسج الغثاثة والتسطح، وتخترقها الوشاية الرخيصة، والنميمة المبتذلة.
قد يتعذر التسلل إلى هذه المجتمعات المخملية المغلقة بالطرق الطبيعية المشروعة، ولا توجد إلاّ منافذ ثلاثة لاختراق أسرارها: التسلق في سلالم الثروة، والترف أولاً، ومصاهرة بناتها بعد دراسة متمهلة للفوائد والمنافع ثانياً، والتقرب الذليل من السلطان وأزلامه ثالثاً. وخارج هذه المنافذ تبقى هذه المجتمعات محصنة بنظام فولاذي، يتعذر تجاوزه أو القفز عليه.
ولكن تجاذبات الوضع الاقتصادي، واحتمال صعود بعض المغامرين الاقتصاديين إلى قمة الهرم المالي والسياسي فجأة، واحتمال سقوط وجهاء معترف بهم فجأة أيضاً، قد أحدث اختراقات في أسوار هذه المجتمعات، فكان أن حدث التأقلم الانتهازي المتوقع، إذ بدئ بطرد (الوجيه) المنتمي إليها حكماً إذا ما تعرض لأي خطر وفتحت الأبواب لوافد جديد، إذا توافرت فيه شروط محددة، ويمكن القول إن المجتمع المخملي بعد أن كان مقتصراً على الارستقراطية العريقة، احتكرته البرجوازية الاقتصادية الهجينة بلا شفقة.
ـ 9 ـ
بريجيت باردو التي أصابها الخرف - كما يبدو ـ تطالب بإقامة (أممية مخملية) تضم كل المجتمعات المخملية في العالم، على غرار الشركات متعددة الجنسية، أو التكتلات المعولمة، فلماذا لا تنضم مجتمعاتنا المخملية إلى هذه الأممية؟.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد