"تمارين في الهايكو" كتخطيط للقلب يعلو ويهبط ولا موت
قد تكون قصيدة الهايكو اليابانية من أكثر الاشكال الشعرية مدعاة للالتباس والتساؤل والتهويم في أسباب كتابتها والغرض من ابتكارها على أيدي جيراننا الآسيويين البعيدين عنا جغرافيا. وإذا كانت الهايكو اشتملت، بسبب علاقتها الوثيقة بالطبيعة، على التصوير ومحاولة الدخول في "بديهيات" إيكولوجية وبيئية، ومن ثم الارتفاع بهذا الحمل الثقيل "الواقعي" عن مجرد فكرة قبوله كما هو، فإنها تخصصت في إيجاد واقع شعري مغاير، فرض نفسه لاحقاً، وبقوة، على الواقع الطبيعي.
آخر التجارب العربية في الهايكو، للشاعر فؤاد رفقة في مجموعة من القصائد تحت مظلة "تمارين في الهايكو" (دار نلسن). العنوان يشير إلى اللاتام، المنقوص لسبب تقني أو لأمر له خصوصية بتصميم الهايكو وموطنها. "تمارين" تعني ان هناك نقطة لم توضع بعد، وهي نقطة النهاية. هذه اللفظة المرنة، والمحتالة كذلك، تراوغ كل حكم سيطلق على القصائد بالفشل او النجاح، وتبقي النقد في مساحة فسيحة حتى تتمكن منه قبل أن يخلص هو إلى أي قراءة تفكيكية او تحليلية أو "بنيوية". فالنقد في موازاة هذا العنوان المطاطي، لا يمكن أن يجازف في الدخول إلى قصيدة "غير منتهية"، ومنتظرة بدورها اكتمالا ما. لا نجزم أن الشاعر رفقة قد ضمر لهذا الامر، بل نرى أنه اختار عنوانا كهذا، ليس رغبة في كسب أي معترك نقدي، بل حفاظا منه على روح القصيدة الاصلية ومنهجها وتشكيلها، وإيفاء لموطنها. أي إنه احتفاء بالهايكو، ولكن على طريقته، اي باستخدامه لصوت الهايكو، على الرغم من أنه يورد في مستهل الكتاب أنها "في كينونتها هذه هي أبعد ما تكون عن ظاهرة الصوت، إنها لغة الصمت الداكن الجذور". لكن إيقاع القصيدة، يبقى منحازا للهايكو بعد نقلها إلى العربية وليس قبل ذلك، بمعنى اننا ربما لن نعرف أبدا الإيقاع الحقيقي للهايكو، ولن نقف على تماس مباشر ومدرَك لذلك الشكل الشعري الجذاب كالدبق الحلو المذاق. لا شك في أن رفقة، يمتلك كمّا لغويا واختبارات شعرية صقلت فيه جرأة دخول الشبكة اليابانية، والاستبسال لإيجاد حركته الخاصة الشعرية، ولهذا تجده في بعض مقاطع مجموعته الأخيرة، سالكا بخفة فوق ذلك الخيط الخفي والمتوتر للهايكو، إلى حد يبدو فيه خيطا متزعزعا أحيانا، وعلى وشك الانقطاع، فتتحدد على أطرافه احتمالات فشل التجربة العربية هذه. والسؤال هنا يطرح نفسه: هل الهايكو قصيدة الصوت ام قصيدة الصمت؟ قد تكون كل إجابة عن هذا السؤال متسرعة، تحتمل الضبابية والحكم المباشر، أكثر من التأمل. لا يخفى أن القصيدة التي يعود توثيقها إلى عام 905 ميلادي تحت مسمى الـ"هايكي" أو القصائد الحرة، تسببت بصدمة لأوروبا وشعرائها، الذين ألفوا انفسهم بعد حين، أمام قراءة مغايرة للطبيعة، فبدا الشعراء اليابانيون بالنسبة الى أولئك، كمن يتلمسون بأصابعهم التربة اللزجة والحشائش والحيوانات والطيور والطقس وتقلبات الفصول وعلاقة الإنسان "البعيد" بمحيطه. لكن الأوروبيين (ومن بعدهم العرب، وإن بسذاجة أعلى)، لم يستطيعوا حمل أنفسهم بعيدا عن أرض قصيدة الهايكو وقوانينها ومستلزمات إيقاعاتها وتأليفها، فحاولت الفئة الاولى تفسير الهايكو والانطلاق بمقاربات قد تفتح افقا اكثر رحابة في الشعر، فيما انهمك العرب، ومن بينهم شعراء معروفون، بتقليد الهايكو، حرفيا، وبطريقة لا تخلو من إنكار خصوصية القصيدة التي، وللأسف، لم نحظ بفرصة قراءتها بلغتها الأصلية، بل تلقيناها مترجمة، ومنقولة عن لغات وسيطة (الإنكليزية او الفرنسية).
انهمكنا كعرب، في التقليد، وفيما نجحنا في العبور إلى أشكال شعرية معاصرة، بل زججنا فيها خصوصية بدت كقفل أمان، فتنتنا قصيدة الهايكو بصورتها التي تضمنت تكثيفا مجازيا ومشهديا وفكريا ولعبة من لعب الوصول إلى علاقة الشاعر الخاصة بكونه المرئي. هل الهايكو قصيدة صوتية أو صامتة؟ السؤال نكرره هنا لأن سماعه مرارا قد يكون مفيدا ومحفزا للنقاش، قبل إطلاق احكام فردية عليه. "قد" تتضمن الهايكو صوتا خافتا، خافتا جدا ومخادعا، حتى ليكون أقرب في مظهره المنحسر، إلى الصمت. أما إذا نزعنا الـ "قد" الضرورية هنا، فسنقول إن الباب سيشرع لنقاشات تحتمل الضدين، اللذين يصبحان نظيرين أو متآلفين بفعل وحدة القصيدة، التي تتدخل فيها تموجات صوتية، يمكن أن نتخيلها تسلك مسلكا متتاليا، فيكون لموجة نقطة الذروة، ويكون في انخفاض موجة أخرى لجة كلجة الصمت. أشبّه قصيدة الهايكو بتخطيط القلب، فهو إن دل على إفعام بالنبض مات المريض بعد حين، وإن دل على خط ساكن، مات المريض فورا. أما التنويع الذي يشتمل عليه المخطط البياني، فهو يكفل إبقاءه حيا، وهذا ليس لسبب أننا نخترع حجة لإبقاء المريض حيا، بل لأن في طبيعة عمل القلب ما ينعكس على شاكلة تخطيط القلب. إذاً، فمسألة حصر الهايكو بصفة أو قيمة مطلقة، لا يمكن أن يدفع بتوظيفاتها المجازية إلى الفهم، بل يقولبها داخل صندوق واحد، وكأن في ذلك ذريعة لتفسير أسباب أفولها بعد نجاحها على يد أربعة شعراء هم باشو (1644- 1694)، بوزون (1715 - 1783)، إيسّا (1763- 1827) وشيكي (1866 - 1902). هذا الحصر لا يمكنه تالياً أن ينصف الطبيعة التي اشتملت عليها، فالمجازات والعلائق بين الشاعر وعالمه "المحدود" (أو المحدد) وبين عناصر هذا العالم كما امتصتها القصيدة الصغيرة، والمنمنمة والماكرة، التي هي مزيج من صوتيات دينامية متحركة وصمت كاسر خاطف ومطبق. تبنى قصيدة الهايكو على نسق 5/7/5 مقاطع، ويقول فيها إيف بونفوا إنها تبدو خاضعة لممارسات وبنى وشعائر، بل وسطوة لغة. فيما تندرج أقاويل أخرى تحت مسمّى الاكذوبة التي بيّن شعراء الهايكو في كادرها الطبيعة.
مع كل خطوة من ديوان "تمارين في الهايكو"، نلتمس التصميم من الشاعر فؤاد رفقة على المضي قدما، حتى يتوقف دفق الهايكو في قلمه. يكتب في نهاية المجموعة، وكأنما مقطع متمم لسلسلة ما يرد في المجموعة، "توقفت هذه التمارين في 21 تموز 2007 في معهد الدراسات العليا في برلين".
مازن معروف
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد