غازي أبو عقل: إن نَبَحْتُم عليَّ .. أرتجلُ القولَ ..

29-07-2010

غازي أبو عقل: إن نَبَحْتُم عليَّ .. أرتجلُ القولَ ..

الجمل - غازي أبو عقل: أحاول مااستطعتُ تفادي الكتابة في "المناسبات"، لشعوري بالعجز عن التعبير عمّا أشعر به أحياناً. بخاصة إذا كانت المناسبة تَذَكُّر صديقٍ رحل. غير أن أسرة تحرير ملحق الثورة الثقافي، بما لها من دالَّةٍ عندي – فأنا من قراء الملحق بانتظام منذ صدوره، لأسباب لا أجرؤ على الإفصاح عنها – جعلتني أتخلّى عن تحفظي. صحيح أن كثيرين يعرفون ما كان من أمر صداقتي للشاعر الراحل علي الجندي، لكن ما هو غير معروف فهو أمر الملف الخاص الذي تَعدُّه أسرةُ تحرير صحيفة "الكلب" المحتجبة، وأنا منها، ليُنشر – على أضيق نطاق ممكن – بعد مرور الذكرى السنوية الأولى لغياب شاعرنا العزيز. وهكذا تخلَّيتُ عن تحفظي، وأقدمتُ على سحب مقال مركزي من الملف "الكلبي"، يتضمن سبقاً صحافياً بامتياز، لتقديمه إلى "الملحق الثقافي"، دون أن يخامرني الارتياب بامتناعها عن نشره، لأسباب ذات صلة بالوقار والجدية، وهما من سمات الملحق، في حين تُفرِّط مداخلتي المسحوبة من الملف الكلبي بهاتين السِمتَيْن.
 أأكون مدفوعاً برغبة لاشعورية من أجل إرضاء صديقي الشاعر الراحل، الذي كان كما تعرفون، عدواً للوقار والجدية؟ أكتبُ هذه السطور وأمام عيني نص لقاء صحافي قديم بالشاعر الراحل، يحمل هذا العنوان: "لا أحترم ثورياً يتغنَّى بشعر شوقي وصوت أم كلثوم"... وهما رمزان للوقار والجدية.
ذلل المقال المصوَّر المنتزَع من صحيفة "الكلب" حكاية ينبغي أن تُروى. كنتُ أيامها مديراً لمؤسسة عامة، وكانت تربطني بمدير مؤسسة عامة أخرى صِلات عمل. وكنا نتبادل أحياناً نماذجَ من إنتاج المؤسستين على سبيل الترويج والدعاية. وهكذا تلَقَيت ذات يوم في مناسبة قيام المؤسسة الأُخرى بإدخال مُنتَجٍ جديد إلى السوق السورية، مجموعةً من القمصان والقبعات الإعلانية مع عينات من المنتَج الجديد.
 لما شاهدتُ الهدية، اتصلتُ فوراً بـ "علي الجندي" واتفقنا على موعد مسائي عندي كالمعتاد وبحضور ممدوح عدوان حتماً. وذلك من أجل تبادل الأفكار المؤدية إلى إخراج الإنسان من أزمته الوجودية التي كانت تُنغّص حياة عليّ أكثر مما كانت تفعل بصديقه "اللدود".
 جاء الصديقان مساءً وتبادلنا أنخاب الترحيب، وبعدئذ قلتُ لهما بكل "جدية ووقار": عندي عَرض قد يُساعد في التغلّب على الأزمة إياها، ربما سَبَّبَ لهما بعضَ الحرج الذي يجب قبوله من أجل المصلحتَيْن العامة والخاصة. وهكذا أثَرتُ فضولهما فسألاني عن ماهية العرض، فشرحتُه لهما، وضحكْنا برهةً، قبل أن أفتح صندوق الهدية أمامهما وأبادر إلى إخراج نماذج منها.
 اقترحتُ أن يبدأ علي بارتداء القبعة والقميص [تي شيرت بالفصحى] بمساعدة ممدوح، بينما أَلتقط أنا الصور التي يتم تظهيرها فوراً، فإذا نجحتْ المحاولة كررناها، لنجعل من الصور طليعة حملة إعلانية ستجعل المعجبين بشِعرهما يبادرون إلى شراء المنتَج الجديد، بخاصة وأنهما من المتحمسين جداً للقطاع العام، فإذا ازدادت مبيعات المؤسسة ستعود عليهما الزيادة بما يسهم في تغلبهما على أزمة السيولة النقدية التي عانيا منها طويلاً.
 وضعنا الاقتراح موضع التنفيذ، وحصلنا على صورة أظنُها من أكثر صور علي "جمالاً"، انصرفنا بعدها إلى سهرتنا ونحن نضحك مستبشرين بقرب انفراج أزمة السيولة بفضل منافستنا غير المشروعة للمؤسسة العربية للإعلان، التي لن يخطر ببال مصممي إعلاناتها مثل هذه الخاطرة المبدعة.
 كان إعلامنا الثقافي في تلك الأيام منهمكاً في سجالات جماعتي الشعر "الحديث" وغير الحديث، كما هو اليوم، مع فارقٍ طفيف يتصل بقصيدة النثر، التي ما كانت كاصطلاح قد وطَّدت أركانها كما ينبغي.
 غداة سهرتنا الإعلانية تأملتُ ملياً الصور التي التقطتُها، فمرت في خاطري فكرة كلبية خبيثة نفذتُها فوراً، وذلك بكتابة افتتاحية عدد "الكلب" التي كانت على وشك الصدور، تحت صورة الشاعر علي الجندي. واتقاء لغضبه المحتَمَل وغير المؤكد، سارعتُ إلى تزويده بكمية من "المنتَج" الذي كان قد بدأ يعتاده ويجد صعوبة في الحصول عليه. وهكذا ظهر عدد نيسان 1981 من "الكلب" وعلى صفحته الأولى تلك الصورة "التاريخية" لصديقنا العزيز بابتسامته الساخرة والساحرة معاً. ولولا قلة خبرة مصوّر "الكلب" الذي لم لم ينته إلى أن "ممدوح عدوان" الواقف وراء علي لا تظهر منه سوى يده الموضوعة على كتف صديقه لمنع "تي شريت" الإعلان من السقوط، بينما غاب وجهه عن الصورة، ولو أنه ظهر لضوعفت تاريخية الصورة.
 لما كانت جريدة "الكلب" تصدر بنسخة واحدة مكتوبة بخط اليد، مما لا يتيح تكليف المؤسسة العامة لتوزيع المطبوعات بتوزيعها، ولا يشجع المعلنين على نشر إعلاناتهم فيها، ويعفي المعلنين فيها – إذا وُجدوا عرَضاً – من تحمّل نفقات إعلاناتهم، مما يعني أن شاعرنا الراحل اكتفى من الغنيمة بعدد من الغجريات – جيتان – علب السجائر أعني، وبتصدر الصفحة الأولى من "الكلب". والمعروف أنّ شاعرنا الراحل حاز قصب السبق في عدد العضّات التي نالها من الجريدة, منها ما كان بقلم مؤسس الصحيفة صدقي اسماعيل، ممّا كان يثير سخطَ علي وضحكاته، حتى إنه كتب مرةً رداً وحيداً غاضباً موزوناً مُقفَّى – ضد صدقي – نسخته الأصلية الوحيدة بخط علي وحبر قلمه الأخضر موجودة عندي، وهي ستظهر كما كتبها في الملف الخاص الذي ستصدره "الكلب" تحية للتذكير بصديقها الشاعر الحقيقي الجميل الراحل...
 ملحوظة ذات صلة بما قبلها:
 عنوان هذه المداخلة هو صدر بيت من قصيدة كتبها علي الجندي رداً على صدقي اسماعيل – رئيس اتحاد الكتاب يومئذ – الذي هاجم الجندي بمناسبة زيارة الكاتب الفرنسي الشهير جان جينيه إلى دمشق

نص افتتاحية عدد نيسان 1981 من جريدة الكلب بعد تنضيدها

 تُعاني موجةُ الشعر الحديث إفلاساً ملموساً، لأسباب ذات صلة "بالسيولة النقدية"، جعلتْ شاعراً من روادها يمارس أعمالاً  إضافية إعلانية لزيادة الدخل، لأن الشعر بحاجة دائمة إلى الدعم...
 
بُعَيْدَ مَغيبِ الشَّمسِ .. جاءَ مُصَوِّرٌ
  من "الكلبِ" إيماءاتُهُ تَحملُ البُشْرى

تَقَدَّمَ مَزْهُوَاً "إليهِ"(1) بصورةٍ
  ملونةٍ .. مُدَّتْ بها يَدُهُ اليُسْرَى

تَأمَّلَها فافتَرَّ للتَّو ثَغرُهُ
  وقال "هيا رَبّاهُ"(2)، أنتَ بهِمْ أدرى

بمن صَـنَّعُوا الشّعرَ الحديثَ وكُلُّهمْ
  كما زعمَ الواشُونَ .. بالقشْرةِ اغْتَرّا

أصابَهُمُ الإفلاسُ من كُلّ جانبٍ
  فباعوا لمن لا يشتري الشِعرَ والنَّثْرا

وبالغَ مِنهُمْ شاعرٌ تعرفونَهُ
  وكان إلى الإفلاسِ أسرعهُمْ سَيْرا

فأجَّرَ – للرَيجي(3) – على الفَوْر صَدْرَهُ
  بعلبةِ "جيتانٍ" تَناوَلها أجْرا

وأَصْلُ "بني الجيتان"(4) من بَدْوِ شُمَّرٍ
  وهم هاجروا يوماً لأندلسٍ بَحْرا

ولم يأخُذوا من شُمَّرٍ غير لَوْنِهم(5)
  وطَبْلاً كبيراً .. فوقَهُ أتقَنوا النَّقْرا

وبعد رحيلِ الطَّبْلِ ضَيَّعَ بعضُهم
  موازينَ إيقاعٍ بها شِعرُنا أثْرى

فساروا بلا وَزنٍ كَكُلّ مُجَنَّدٍ
  - مَشى بحذاءٍ واسعٍ – لم يَزَلْ غُرَّا

فلم يَصِلوا إلاّ إلى ما تَروْنَهُ
  نتيجة مشوارٍ قد استغرقَ العُمْرا

وقد يَدفعُ الإفلاسُ أكبرَ شاعرٍ
  إلى وَضعِهِ – الجيتان – في مَوْضعِ "الحَمْرا"

هوامش:
(1) إلى رئيس تحرير "الكلب".
(2) كان علي الجندي يحب استعادة بيتَين شهيرين (وحديثها كالقطر يسمعه راعي سنينَ...).
(3) Régie – كلمة فرنسية تعني: إدارة عامة تشرف حصراً على عملٍ ما.
(4) جيتان: غَجَر بالفرنسية.
(5) يكاد يكون بحكم المؤكد أن أصل الغجر من الشرق ومصر، رحلوا إلى اسبانيا.
(6) جيتان هنا تعني غجرية أو غجريات.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...