لغة السرد بين فقه اللغة قديماً وحديثاً
تحتاج لغة السرد القصصي والروائي الى قاعدة ثرية من المفردات اللغوية التي تستطيع وصف تفاصيل الاشياء وتجسيد الشخصيات ونقل حالاتها النفسية وانشغالاتها الفكرية ومكامن رغباتها ونوازعها الداخلية، والتعبير عن انطباعات المكان وتأثيراته وتبدلاته والمتغيرات التي طرأت عليه، ورسم صورة الجو السردي العام في اطار الزمان. كما تحتاج لغة السرد الى إدراك واسع للفروق الدقيقة للمعاني، والقدرة على توظيف هوامش الفروق في تطوير وصف الشخصيات والمكان والزمان وسرد الحبكة ونقل حالات الراوي التي تصبغ العمل دائما، وجعلها أكثر تأثيرا في نفس القارئ، وكذلك نقل الاستعارات والتشبيهات التي تمثل في الاساس تعبيراً عن حالة شعورية وجدانية أو عاطفية أو انفعالية أو إدراكات عقلية منطقية او تجليات روحية. وتحتاج لغة السرد الى قاعدة واسعة من المفردات اللغوية المترادفة والمتقاربة والمتضادة للتعبير الدقيق عن مأزق اللغة في رصد الاشياء والمواقف والحالات المعقدة المتداخلة.
في اختصار، يحتاج القاص أو الروائي، وبدرجة اكبر من الشاعر، الى امتلاك قاموس لغوي خاص به قادر على التجاوب من دون استنفاد او تكرار للمفردات أو للمعاني أو قصور في اختيارها في التعبير عن المقصود، وعلى تبديد الاحساس بأنه لا يجد ما يستطيع التعبير به نتيجة غياب المعرفة او ضعفها باستخدامات الكلمات الصحيحة الدقيقة التي تعبر عن الموقف، أو تبديد الاحساس بأن اللغة لا تسعفنا في مثل هذه المواقف.
الافتراض البديهي أن الكاتب يحتاج الى منهجية فاعلة في بناء المعرفة اللغوية التي تثري مخزونه، وبحيث يمكنه هذا المخزون من استخدام مفردات اللغة ومعانيها المستندة الى معرفة الفروق الدقيقة، وكذلك تطوير اسلوب خاص به يستطيع من خلاله الخلق والابتكار في توظيف لغة السرد بطريقة مؤثرة وجميلة. وعلى رغم أن هناك اقتناعاً واسعاً لدى الكثيرين بأن اللغة العربية ثرية واسعة وقادرة على التعبير عن كل حاجات الانسان اللغوية المادية والمعنوية في كل المستويات المعرفية وفي مختلف حالات الانسان الشعورية والنفسية والعقلية والروحية، وأنها متجددة تستطيع تلبية حاجات الانسان للتواصل، إلا أن هناك مشكلة تتمثل في قلة الاهتمام ببناء هذا الرصيد اللغوي الكبير.
لعل المسألة التي تصبح أكثر الحاحاً لدى كتّاب القصة والرواية هي كيفية بناء هذا الثراء اللغوي في الخلق، وامتلاكه وتوظيفه؟
أحد هذه المناهج التي يمكن أن تخدم الغرض بشكل ممتع، هو الاطلاع على كتب اللغة والنحو والبلاغة والمعاني والفهارس والقواميس والموسوعات، وكذلك كتب الانشاء والمصادر والمراجع القديمة، بما تشتمل عليه من بحوث في المعاني وفقه اللغة، وبما تحويه من بلاغة قصص العرب وأشعارهم ورسائلهم ومواعظهم البلاغية ونوادرهم التي تدل على الابتكار في اشتقاق اللغة او استعمالها مجازياً. تحفل هذه الكتب والمصادر بالكثير من المواقف التي تعكس البلاغة والذكاء في استعمال اللغة. كما أن الكثير منها تحتوي على نماذج من كتب الرسائل والانشاء. وأعتقد أن كاتبا للقصة والرواية لا بد له من إثراء مخزونه من المفردات، فهذا سيوفر له مزيدا من دقة المفردات والأساليب في الوصف والتشخيص والتشبيه والتصوير والاستعارة وغيرها، وتنويع ما يستخدمه في كتاباته القصصية او الروائية. لكن الامر لا يخلو من تحدٍّ. لا بد أن يحافظ الكاتب على روح لغة العصر، فلغة الجاحظ على الرغم من دقتها المعرفية والنحوية والصرفية، لم تعد مناسبة لعصرنا، وإلا لبدا النص كلاسيكيا تراثيا، وربما ممجوجاً. المسألة هنا اسلوبية. لا بد للاسلوب ان يتماشى مع العصر ولغة الآخرين، ولكن ما أعنيه هنا هو بناء رصيد لغوي يعرف كيف ينقل ظلال المعاني ويوظفها في السرد بطريقة تجعل النص جذاباً عميقاً قادراً على نقل أعقد الحالات النفسية وأصعب التلوينات للمواقف المختلفة.
وقع بين يدي حديثاً، كتاب كنت قد فقدته من مكتبتي الخاصة قبل سنوات. فتذكرت مطالعاتي به في الماضي في كثير من المناسبات وإعجابي بما يقدمه من مفردات تستخدم في وصف كل الحالات التي تمثل تنوع الاشياء والاختلافات الدقيقة بينها، وتسميتها. إنه كتاب "فقه اللغة" لأبي منصور الثعالبي. وهو كان يلقّب بجاحظ زمانه، بسبب مقدرته اللغوية وسعة اطلاعاته المعرفية وميوله الموسوعية وتصانيفه الأدبية الكثيرة، والتي منها فقه اللغة. كما أن له كتاباً يدعى "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر" يضم تراجم لشعراء عصره، وله كتاب "سحر البلاغة وسر البراعة" وكتاب "الاعجاز والايجاز" وكتاب "دمية القصر".
غالب الظن أن أول من استعمل عبارة "فقه اللغة" في العربية هو أحمد بن فارس القزويني (توفي في 1005 م)، وكان من معاصري الثعالبي. ومع أن كليهما اشترك في إطلاق عبارة "فقه اللغة" على موضوع كتابه، فقد كان هناك اختلاف واضح بين مادتي الكتابين. فكتاب القزويني يشمل مباحث نظرية وتطبيقية مختلفة، مثل باب القول على لغة العرب، ومثل القول في إعجاز القرآن، وبعضها تاريخي مثل باب القول على الخط العربي. بهذا، فإن "فقه اللغة" عند القزويني يتناول جميع المباحث التي تمتّ إلى اللغة بصلة ، سواء أكان ذلك في أصولها أم في فروعها أم في تاريخها.
أما كتاب "فقه اللغة" للثعالبي، فمختلف تماما. فهو معجم من المعاجم اللغوية، لكن مادته ليست مرتبة فيه على حروف الهجاء، إنما المادة تتعلق بظاهرة ما في الطبيعة، كالرياح أو المطر أو الأصوات، أو بصفات تخص الانسان أو أجزاء من جسم الانسان أو مفردات تستخدم للدلالة على ظواهر معينة في وقت محدد كأوقات النهار والليل ...الخ. فائدته جمّة لمن يريد أن يتعرف الى المفردات التي تصف هذه الظواهر بأحوالها وأوقاتها المختلفة بحيث يلاحظ الفروق الدقيقة في تسميتها ومدى تنوع الالفاظ التي تعبّر عن كل معنى من المعاني في حالاته المختلفة.
فعلى سبيل المثال، يمكن ملاحظة ما أورده المؤلف حول تَعْدِيدِ ساعات النهار والليل على أربع وعشرين لفظةً كنموذج لما يحتويه معجم "فقه اللغة". إنه باختصار يجمع الكثير من الألفاظ التي تستعمل في موضوع واحد. أهميته إنه يوفر للكاتب مفردات متعددة تعبّر عن تلك المعاني المتقاربة او التي تقال في حالات متشابهة او متتابعة بحيث يستعملها في كتاباته، وأعتقد أنه كتاب مفيد للغاية لمن يكتب قصة أو رواية حيث يجد عمق اللغة العربية ومدى قدرتها الواسعة على إدراك حالات الاشياء وأنواعها، فلا تعدم قدرة في التعبير عنها بكل جمالية. وهو يؤكد حساسية اللغة العربية للوصف وتنوع المعاني المتقاربة بحيث تساهم في تلوين ما يكتبه من وصف أو تشخيص أو تشبيه أو سرد لأحداث، أو خلق احساس بالمكان أو الزمان، أو الاحساس بالجو العام أو بالحالة الخارجية في مقابل الحالة الداخلية للشخصية.
أما فقه اللغة في العصر الحديث، الذي يطلق عليه اسم philology فهو يختلف تماما عما قصده الثعالبي. إن مدلول لفظ "فقه اللغة" يقصد به في الدراسات اللغوية المعاصرة، تلك الجوانب التاريخية التي تبيّن أصل اللغة ونشأتها وتطورها، والعوامل التي أدت إلى انتشارها، وهناك من يطلق عليه في هذا المعنى تاريخ اللغة. لكن وبشكل عام، يطلق "فقه اللغة" اصطلاحا على البحث في أصل اللغة. وفقه اللغة في المنظور المعاصر يتناول الجوانب النظرية للغة في تطورها وعلاقتها باللغات الاخرى وليس علما تطبيقيا كالنحو الذي يبحث في القواعد التي تحكم ما ينبغي ان يكون عليه الكلام. هكذا، فإن المعاجم اللغوية سواء في مجالات النحو أم الصرف أم عروض الشعر أم البلاغة أم النقد، هي بحوث تطبيقية وليست من فقه اللغة.
فقه اللغة يبحث في أسس اللغة النظرية العامة وقوانينها، ويفسر الأسباب التي دعت اللغة إلى اختيار صيغة من الصيغ أو بنية أو تركيب دون غيره، ويتناول العوامل التي تدعو اللغة إلى اتباع ما نسمّيه قواعد. أي أن فقه اللغة يجتهد في تفسير الاسباب التي أثّرت في تطور اللغة وشكل التطور تاريخياً عبر مراحله الزمنية.
كما يهتم فقه اللغة بالمقارنة بين اللغات، من حيث قرابتها أو اتصالها بعضها ببعض، والبحث في قواعد اللغة التي يوجد مثلها في لغات أخرى، سواء بدرجات متقاربة أو متباعدة. كما يبحث فقه اللغة في القوانين التي تخضع لها جميع اللغات، كون اللغات في تغير دائم بحيث يمكن مقارنتها والافادة منها في دراسة اللغة موضوع البحث.
اياد نصار
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد