آفـاق الــنشـر الالـكـتروني وأخـطاره
تكفل حرية التعبير، كتابةً وإبداء رأي، نشر كتب ومقالات وآراء وبحوث. هذا مبدأ أساس. ثمة معايير سائدة تراها، بل تفرضها، جهات رقابية حكومية متسلطة، أو مؤسسات نشر وتوزيع خاصة؛ يفترض بها الاستقلال النسبي عن المؤسسات الرسمية. عبر تلك المعايير تضبط أجهزة الرقابة الحكومية، ولا تختلف عنها كثيراً المؤسسات المستقلة بسبب خضوعها للمعايير ذاتها تقريباً، سيطرتَها على حدود الكتابة وآفاقها، أدبياً وثقافياً وسياسياً ومالياً. داخل مجال كهذا، شبه محاصَر، تتحرك بصعوبة مفاعيل الكتابة والنشر لدينا من دون زحزحة الحدود المفروضة وكسر خناقها. واقع الحال، في منطقتنا خصوصاً، يشير من دون شك إلى أن الفضاء العام آخذٌ في التقلص والانكماش، بل يكاد يختنق في وجه الكتابة والتأليف والنشر عموماً. الوزارات والمؤسسات الموكل لها دعم تأليف الكتاب، في تراجع مستمر. في سياق كهذا، ومع تردي الأداء الجامعي والأكاديمي، تعليماً ودراسةً وبحثاً ونشراً ورعاية، ومع توافر بدائل نشر الكترونية مغرية وشبه مجانية، يلجأ عدد غير قليل من الكتّاب والأدباء، والباحثين والناشطين في الشأن العام، إلى ما اصطلح على تسميته بـ"النشر الذاتي"، حيث يمكن، من دون رقابة في الغالب، عرض الرأي عبر كتاب أو مقالة أو بحث ...الخ. لا ينبغي لنا مقدماً، اعتبار المعايير الكلاسيكية أمراً سلبياً في المجمل. وجود هيئات مشرفة مختصة، ولجان قراءة محكمة، تدار على أيدي ذوي خبرات وتأهيل كافية، وتتمتع بالصدقية، لا يفضي سلفاً إلى اعتبار دورها رقابياً معيقاً تتم من خلاله مصادرة الحرية وتحجيم حدود الكتابة وتقليص أفق التعبير. غير أن الحاجة إلى الدخول في نقاشات مهمة وملحة، أدبية واجتماعية وسياسية، والكتابة عنها والرد عليها، ونشر تلك الآراء، في ازدياد مستمر. لا يبدو أن الأطر والهيئات القديمة والحالية قادرة على دعم نشاط كهذا، وتحفيزه واحتوائه وتيسيره، ولا هي ولا جديرة به. جزء كبير مما ينشر على شبكات الانترنيت يدخل في عداد "فشِّ الخلق"، كما يقال في التعبير الدارج، والشكوى المنطوية على جرعة غير ضئيلة من الرفض والتذمر والسخط. ذلك كلّه مبرَّر وسط قيود سياسية وتعفن أعراف اجتماعية لم تعد صالحة ولا متكيفة مع متطلبات الوقت الحاضر وأزماته؛ فثمة نوع جديد من الرغبة في التغيير، فرضه تحوّلٌ نسبي في الوعي أخذ ينتقل نحو تبدل ذهني ونفسي عميقين، ولو بشكل متأخر وضئيل. يندرج تحول كهذا، وينتقل من باب التلقي الجامد إلى أفق التأثير النشط. سوريون مثلاً، معظمهم من فئات شابة يقل عمرها عن ثلاثين سنة، منذ أشهر غير بعيدة، على صفحات موقع الـ"فايسبوك"، دعوا إلى أمرين في غاية الأهمية والجدية: أولهما إجراء تبديل في مناهج تدريس التربية الدينية، في المدارس الحكومية والخاصة، حيث يُفصَل منذ عقود طويلة الطلاب المسلمون عن المسيحيين أثناء حصص التربية الدينية في المدارس، وذلك عبر إحلال مادة اتفق على تسميتها بـ"تاريخ الأديان"، بدل تدريس تعاليم دين واحد وبشكل يفصل الطلاب حسب انتمائهم الديني الموروث الذي لم يكن يوماً من اختيارهم. الأمر الثاني: دعوة إلى الزواج المدني دون اعتبار لاختلاف الدين أو افتراق الطائفة. ثمة من يدعو كذلك إلى نمط من الحياة العاطفية والاجتماعية المشتركة بين الشباب من الذكور والإناث على السواء، عبر مشاركة محلّ السكن ومصاريف المعيشة في إطار ما يسمّى تنبوءاً: "المساكنة هي الحل". تأتي المساكنة كحل إسعافي لكسر عزوف نسب كبيرة الشباب عن الارتباط الزوجي بشكله القديم، وذلك بسبب أكلاف المعيشة الباهظة، وارتفاع بدل الإيجار السكني، ناهيك بارتفاع شديد في أسعار شراء العقارات وازدياد عدد العاطلين عن العمل وهبوط مستوى الأجور وسط ارتفاع الأسعار إلى حدود غير معقولة. هذا كله يعني خروجاً على العرف والعادة، على حدود القيم العائلية المحافظة والمتكلسة، تحت ضغط الوضع الاقتصادي المنهك، وهي حدود اجتماعية واقتصادية لم تعد قادرة على تلبية طموحات الأجيال الجديدة، ونزوعها إلى طور خجول ومرتبك من التحرر الفردي، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. مطالب وآراء وأنشطة كهذه، ذات بعد اجتماعي لافت، لا يمكن نشرها في إطار الكتب الورقية، أو على صفحات صحف ومجلات تبقى تحت مراقبة حكومية أمنية واجتماعية متشددة. ما سلف ذكره، على أخذ المثال السوري نموذجاً (مع التنويه بأن الأمثلة أفضل من القوانين، والحالات الملاحظة أحسن من الركون إلى قواعد عامة تفضي في النهاية إلى نوع من انغلاق الفكر)، في إبداء الرأي ونشره علناً من دون رقابة من أي جهة، جزء ضئيل مما تحتاج الأجيال الناشئة الى خوض غماره وإبداء الرأي فيه. وحيث لا وجود لأي نوع من الرقابة، لا الدينية ولا السياسية، داخل معظم مواقع الانترنت، فإنها تتحول المكان الأفضل للنشر وإبداء الرأي. غير أن الجمهور المخاطب في مكان كهذا، هو جمهور غير محدد ويفتقر إلى التجانس. فقارئ الرأي، أو الكتاب أو البحث، ليس طالباً في كلية أو باحثاً في مركز دراسي، ثم إن قراءته عرَضية عابرة، لا تصدر عن اهتمام خاص ودافع جدي، وهو يتصفح المواقع متنقلاً من فضاء إلى آخر خلال دقائق معدودة. يخلف هذا النمط من المتابعة، التشتتَ وانعدام التراكم الثقافي، مما يفقده تالياً عمق التأثير وجدية المتابعة ودوام الاهتمام. تؤدي وسيلة النشر دوراً مهماً في مضمون الكتابة وجدواها. فتداول كتاب ورقي بشكله المعهود لا يشبه، من حيث أثره ووقت الانصراف إلى قراءته، تصفح مقال هنا أو طرح فكرة هناك. ثم إن من يطرح الأفكار نفسها، يرميها داخل شبكة هي في الأساس مزدحمة وغارقة في سيل من الصور والمعلومات والتعليقات القصيرة والكتابات الموجزة الأقرب إلى الأخبار منها إلى الكتابة . إنها بالكاد تأخذ حيزاً خاصاً بسبب ورودها داخل سياق يجمع كل شيء إلى كل شيء. سبب التخوف من رسوخ هذا النمط من الكتابة والقراءة، يعود إلى أن جمود الأشكال القديمة وافتقارها إلى المرونة، وعدم قدرتها على الاستمرار المنتج وفق صيغ ومعايير لا تتناسب ومفاهيم جديدة، لأسباب رقابية قمعية وظروف مادية سيئة في معظم الحالات، لا يفضي في الضرورة إلى التمتع بأشكال إنتاج معرفي وتداول ثقافي أفضل. ربما الجديد يكون غشاوة أثقل وإعاقة أكبر ومراوحة في المكان، ولا يقدم ما كان يتوقعه الكاتب من أثر فاعل ومتابعة جدية. من كان يشكو من التهميش بسبب آليات النشر القديمة ومعايير الرقابة الخانقة، صار يكثر من النشر الاعتباطي أحياناً، حيث يمكن أياً كان أن يخوض أي نوع من المناقشة وفي كل شأن. ما يغري الشباب والكتّاب الجدد في عالم النشر الالكتروني، سهولة التواصل وزوال الممنوعات وضآلة الكلفة المادية، غير أن ذلك كله ليس دليل عافية في الكتابة وتقدم في العمل الثقافي، بسبب ما ينطوي عليه من تسرع وسهولة تؤديان إلى النسيان أكثر مما تؤديان إلى التحفيز. فما نتسرع في كتابته ونشره وقراءته، أي ما تسرعنا في التفكير فيه وتأمله، لا نلبث أن نتسرع في نسيانه. عندما تغدو السهولة نفسها سبباً للنشاط المزدحم، ومعياراً، فإن ما يرافقها من تسطح وتسرع يغمران أرض السهولة المريحة التي ليست أرض فكر وعرة، حيث يترافق الكسل مع جرأة الطرح، والدعاية النهمة مع كثرة النشر. هكذا فإن ما كان يفترض فيه أن يكون طريقة حل لمشكلات رقابية وتحجر مؤسساتي، يتحول مشكلة قلما ينتبه إليها من يعتقد أنه بـ"امتلاكه" حرية الكتابة وسهولة النشر قد تجاوز القمع الخانق وتخطى الحدود المعيقة. إغراءات الفضاء المفتوح كثيرة، لكن العمل بلا حدود يشبه العمل بلا نظام؛ فكلاهما علامة على فوضى يُخشى من نتائجها أكثر مما ينبغي الحذر من رواجها. ليس كل "نظام" قيداً ولا كل "نافذة" فضاءً واسعاً نزيح من خلاله ظلام بيوت مغلقة وأحوال معيشة مسحوقة.
علي جازو
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد