رحيل آلان كورنو مخرج «السينما السوداء»
لم يكن الفشل التجاري لفيلمه الأول «فرنسا مجتمع محايد» (1974) عائقاً أمام استمراره في تحقيق أفلام روائية جعلته أحد أبرز السينمائيين الفرنسيين. فعلى الرغم من ميوله الفنية إلى موسيقى الجاز، انخرط آلان كورنو، الذي توفي أمس الأول عن سبعة وستين عاماً إثر إصابته بسرطان الرئة، في اللعبة البصرية إلى أقصى الحدود، مانحاً الشكل السينمائي، بعد دراسته الإخراج والتوليف في «معهد الدراسات السينمائية العليا (إيديك)»، صورة مختصرة عمّا يعتمل في أعماق البيئة والمجتمع والناس. ثم إن تنقّله بين أنواع شتّى لم يُقلّل من القيمة الدرامية والفعالية الجمالية اللتين وسمتا سيرته المهنية.
أبدع كورنو في ترجمة تأثّره بالسينما الأميركية إلى أفلام بوليسية وأخرى سوداء (فيلم نوار) في بلده، وفي تحويل تدريباته العملية مع مخرجين مختلفين (أمثال روجر كورمان وبرنار بول ومرسيل كامو وغوستا غافراس وخوسي جيوفاني)، إلى فضاءات سينمائية منحها شيئاً من لغته الخاصّة بمقاربة أحوال الدنيا وشؤون الناس. سُحِر بالسينما الأميركية. لكن عشقه الكبير لها لم يحل دون التقدّم بجرأة ووعي وثقافة عميقة في اتجاه البحث عن مفردات الصنيع السينمائي، المتمثّلة بميله الواضح إلى التحليل النفسي، مستنداً إلى ما يُشبه القناعة بأن مواجهة الآخر ومقاربة الثقافة والسلوك المجتمعي في بلدان أخرى تبقى أساس بحثه الدائم في مسألتي الهوية والذات.
الفشل التجاري الأول تحوّل سريعاً إلى نجاح جماهيري ونقدي، باختياره النوع البوليسي في بحثه في علاقة الذات بالآخر. في هذا النوع السينمائي، غاص آلان كورنو في لعبة بناء درامي أرادها منفذاً إلى ترجمة تأثرّه بأفلام أميركية، فسعى إلى مزج البناء الدرامي للحبكة البوليسية بشيء فاقع وجميل من السوداوية الإنسانية، ما جعل بعض أفلامه أقرب إلى التحية الشخصية للفيلم الأميركي الأسود (لا يبلغ تعبير «أسود» هنا المرتبة الثقافية والنقدية المعطاة للكلمة الفرنسية: «نوار»)، من دون الابتعاد عن التحليل النفسي، محقّقاً نجاحاً لافتاً للانتباه، بإنجازه أول فيلم بوليسي «أسود» بعنوان «بوليس بايتون 357» عام 1976، دافعاً النوع هذا إلى مساحات أوسع ومعالجات أقوى في مقاربة السلوك الفردي: «بهذا الفيلم، ظهر آلان كورنو واحداً من أساتذة النوع البوليسي هذا»، كما قيل مراراً عنه في معرض الاستعادات النقدية لسيرته المهنية. كرّر التجربة نفسها بإنجازه «التهديد» عام 1977 و«سلسلة سوداء» عام 1979. غير أن اختباراته البوليسية لم تكن ناجحة كلّها، ما دفعه إلى تمرين سينمائي مغاير، فعاد إلى الحقبة الاستعمارية في «ساغان القوي» (1984) قبل أن يُقدّم واحداً من أجمل الأفلام الموسيقية «كل صباحات العالم» (1991)، الذي نال بفضله جائزة «سيزار» أفضل مخرج.
لا يُمكن اختزال سيرته المهنية بكلمات قليلة. فآلان كورنو يبقى من أبرز المخرجين الفرنسيين في مجال التحليل البصري للعلاقات القائمة بين النفس البشرية والتشويق البوليسي والسوداوية الإنسانية.
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد