"تركيب" الرقص حين يربك حرية الأجساد
اعتاد جمهور دمشق على متابعة مشاهد الرقص في صالات الباليه وأفلام السينما وبعض المهرجانات الثقافية والفنية الشحيحة، لكن موعده مع فرقة "سمة" الشابة للرقص التعبيري كان مدهشاً يحاكي ثقافتهم البصرية ويخترق الركود الثقافي الآسر على خشبات مسارح العاصمة. هكذا استقبل مسرح الحمراء في دمشق العرض المسرحي الراقص، "تركيب"، لثائر العكل (دراماتورج) وعلاء كريميد (كوريغراف).
العرض لوحات فردية وجماعية، أدى خلالها الراقصون تركيبات حركية على إيقاع الموسيقى الصوفية للموسيقي التونسي ظافر يوسف. في العودة إلى الكلمات التي تشكل خطاً زمنياً للفصل بين لوحات العرض، نجد أن الراقصين يدوّنون تلك الكلمات بتوقيت متفاوت على قطع تركيب مصفوفة بالتوازي في صدر المسرح. قبل أن تكتمل العبارة، تعطينا الفرقة فرصة لقراءة الكلمات تدريجياً قبل أن يتم إغناؤها دلالياً من خلال أجساد الراقصين. تقول العبارة: "إيقاع، حب، صبر، ضوء، عشق= سمة روح تصلي". بالاستعانة بالتنقلات الضوئية التي تشكل مربعاً تحت كل راقص، نشاهد كيف يحاول الكوريغراف علاء كريميد جعل البنية البصرية أكثر انسجاماً مع جسد كل راقص، وذلك بإطلاق تعليقات لراقصين أمام الجمهور، من قبيل "تسكن الأرواح في داخلنا أو تطوف حولنا"، "أحياناً يتعب الجسد ترتاح النفس... وأحياناً تتعب النفس يرتاح الجسد"، ومن ثم تحجز الموسيقى دورها لتكمل كلام الأجساد بحيوية لافتة يسيطر على صخبها ضجيج صوتي لا يتناسب وصدقيتها، ما أفقد اللوحات الراقصة تركيزها في التعاطي مع النغم. أي إن الأجساد التي يقدمها الإيقاع الشرقي تنسجم مع انفعالات ذاتها بوصفها ابنة البيئة المحلية، ولكن حين يتحول الإيقاع كولاجاً سمعياً بين الموال التونسي ولغة الراب، فإن أكثر الراقصين يتخلّون عن أجسادهم بارتباك، وتصبح حركاتهم أقل إمتاعاً، بسبب فصام زمني بين الجسد ووقع صدور الصوت من مكبّراته المسرحية.
تكوين فردي
بدت واضحة الفروق الفنية في مستوى الأداء الفردي عنه في الأداء الجماعي، إذ نلاحظ مدى تماسك الراقصة يارا عيد وحدها تحت تأثير الموسيقى وتقطير جسدها النحيل والطويل بحرية وطلاقة مدهشة تدل على انفعال روحي واحترافية حقيقية. السبب أن مهنتها أساساً العمل مع شركات التصميم البصري التلفزيوني، وهي تنهل من تلك التجارب، ما صقل أداءها في العرض، حيث نكتشف أن جزءاً كبيراً من اللوحات اعتمد على قيادتها، الأمر الذي أخفى اضطراب بقية الراقصين وتركيزهم الحسي على أداء قائدتهم، وهي ملاحظة شائكة قليلاً. لكن فرقة "سمة" لم تنتبه إليها تماماً، لتحمل الراقصة يارا عيد إلى جانب زميلتها حور ملص عبء المسير الجماعي بخفة الحركات الفردية المنحوتة والمبتعدة كلياً عن أداء باقي الراقصين. هنا تكمن المفارقة في أن الرقص حالة حيوية ومستمرة، لا تحتاج إلى مهرجان جماهيري حتى تتفاعل الفرق الراقصة معها، ذلك أن التكوين الفردي والاشتغال على تغذية الجسد بمزيد من التجارب والتثقيف الحركي، دعم تثقيفي وفني يجرّ صاحبه إلى الصفوف الأولى.
عند بداية العرض جاءت كلمة "إيقاع" كفاتحة حسية جعلتنا نظن أن لكل لوحة عنواناً معيناً، لكن تدرج الزمن وصولاً إلى نهاية العرض حملنا إلى استنتاج مدى أهمية الأداء الجماعي والاعتناء بجعله يتماسك بعضه مع البعض وفق تدريبات حقيقية تظهر مدى حب الراقص أو الراقصة لما يفعلانه. لكن صفوف الراقصين الخلفية جاءت ضمن اللوحات خالية من النكهة، إذ اعتمدت على قوة مَن في المقدمة من نشاط محترفي الرقص والمتخرجين القدامى.
كان هذا العرض الراقص بمثابة فاتحة لموسم المسرح السوري. المقدمة التي بدأت بالجسد كنص بصري، خطوة تُسجَّل للمسرح الراقص في دمشق، لكن حرية الجسد لا تتلخص في جعله يرقص وحسب، بل في جعله حراً، يفكر بحرية، يلبس ما يريد، ويقصف حركاته بمنتهى التلقائية بعيداً من التقليد الذي رأيناه في "تركيب". فالمقدمة التي بدأها أحد الراقصين هي في مجملها نسخة منحولة من أجواء مايكل جاكسون الراقصة أيام الشباب، وهذا ما طغى على نمطية البناء في اللوحة.
في المحصلة كنا نبحث عن أجساد ترقص بحرية لا عن أجساد خجولة محجبة، لكن ما صادفناه كان دون التوقعات.
عمر الشيخ
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد